المحطة النووية فى احتياج الى المتخصصين
بقلم – الدكتور على عبد النبى:
قال الله تعالى: وما أرسلنا قبلك إلا رجالا نوحى إليهم فاسألوا أهل الذكر إن كنتم لا تعلمون [الانبياء:7]، والمثل الشعبى “إدى العيش لخبازه ولو اكل نصفه” يقرر حقيقة التخصص والمهنية المطلوبة عند أداء أى عمل. فهناك فرق شاسع بين “محطات نووية” وأى تخصص آخر.
ولتوضيح الأمور أكثر، نقول، بالنسبة لمحاولة مصر الأولى فى برنامجها النووى، فقد تشكلت لجنة رئيسية ومنها تشكلت لجان فرعية لوضع مواصفات المحطة النووية الأولى، على ان تطرح المواصفات فى مناقصة عالمية، وكذا فقد كان مهمة هذه اللجان إختيار مواقع للمحطة النووية، حيث تم إختيار ثلاثة مواقع من بينها موقع “برج العرب”، وقد تم طرح المناقصة الأولى فى 24 أغسطس 1964، على أن يكون تنفيذ المحطة النووية فى موقع “برج العرب” على ساحل البحر الأبيض المتوسط ، والذى يبعد عن مدينة الاسكندرية بمسافة 34 كيلومتر، وبقدرة كهربائية قدرها 150 ميجاوات. ونفس الشئ حدث فى مناقصة عام 1974 لإنشاء محطة نووية قدرتها 600 ميجاوات بموقع “سيدى كرير”، حيث تم العمل فى هذا المشروع من خلال لجنة تم تشكيلها. ونحن نعرف أن العمل من خلال تشكيل لجان من جهات مختلفة له كثير من العيوب، ومن بينها، أن الخبرات المكتسبة تنتهى بإنتهاء أعمال اللجنة وبرجوع أعضاء اللجنة الى جهات عملهم الأصلية.
كان لابد من وجود متخصصين دائمين فى مجال المحطات النووية لتوليد الكهرباء، وبناء على ذلك، ففى 4 فبراير 1976 صدر القانون رقم 13 بإنشاء هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء، وبداية من عام 1976 وما تلاها من أعوام، بدأت هيئة المحطات النووية لتوليد الكهرباء فى اختيار كوادر نووية مصرية، بهدف تكوين فريق عمل يستطيع تحمل مسئولية مشروع المحطة النووية المصرية لتوليد الكهرباء. هذا الفريق منوط به العمل لإعداد الدراسات فى جميع مراحل مشروع المحطة النووية بداية من دراسة جدوى مشروع المحطة النووية، وحتى مفاوضات التعاقد وكتابة العقد. ومن بين هذه الدراسات، دراسات لإختيار مواقع للمحطات النووية، دراسات تفصيلية لموقع المحطة النووية، ودراسة تقييم تكنولوجيات المحطات النووية المتاحة فى السوق العالمى، دراسة بدائل التمويل لمشروع المحطة النووية، دراسة تأمين الإمداد بالوقود النووى وخدماته، ودراسة إدارة الوقود المستهلك والنفايات، وكذا وضع خطط الأمن والحماية المادية وخطط الطوارئ، ودراسة المشاركة المحلية للشركات والمصانع المصرية فى تنفيذ المحطة الضبعة، ودراسات إعداد فرق الإشراف على التنفيذ والصيانة والتشغيل، وإختيار إستشارى المحطة النووية ، وإعداد مواصفات المحطة النووية.
وقد كانت أول التكليفات لفريق العمل هى الإشتراك فى أعمال اختيار مواقع لمحطات نووية على مستوى الجمهورية، ثم دراسات مواقع المحطات النووية. هذه الأعمال بدأت بإختيار 23 موقع على مستوى الجمهورية، ثم تم المفاضلة بين هذه المواقع وتم إختيار من بينهم 11 موقع لإجراء الدراسات الأولية، وبعد الدراسات الأولية تم اختيار 3 مواقع للدراسات التفصيلية، وهذه المواقع هى موقع “الزعفرانة” على خليج السويس ويبعد 120 كيلومتر جنوب مدينة السويس، وموقع “سيدى كرير” على ساحل البحر الأبيض المتوسط غرب الاسكندرية ويبعد عنها بمسافة 29 كيلومتر، وأخيرا موقع “الضبعة” بمحافظة مطروح على ساحل البحر الأبيض المتوسط ويبعد 160 كيلومتر عن الاسكندرية.
كانت من بين مهام فريق العمل أختيار المكاتب الأجنبية العالمية المتخصصة فى دراسات مواقع المحطات النووية، وتطلب ذلك طرح مناقصة عالمية، والتى تم من خلالها التعاقد مع مكتب بيت الخبرة الأمريكى “بيرنز- أند – رو” لوضع المواصفات الفنية للدراسات التفصيلية المطلوبة لموقع “سيدى كرير”، والتى تدخل فى تصميم المحطة النووية، وكذا لإعداد تقارير تحليل الأمان، وتم طرح هذه المواصفات فى مناقصة عالمية، وبعد تحليل عطاءات المكاتب العالمية المتقدمة، تم إختيار مكتب الخبرة الأمريكى “وودوارد- كلايد” لتقديم خدمات هندسية فى مجال الدراسات البحرية والجيوفيزيقية والبيولوجية والأرصاد الجوية. أما بالنسبة لموقع “الزعفرانة” وموقع “الضبعة”، فقد وقع الأختيار على شركة “سوفراتوم” الفرنسية لتنفيذ الدراسات البحرية والجيوفيزيقية والبيولوجية والأرصاد الجوية.
ويلزمنا أن نوضح، أنه عندما يريد شخص أن يشارك فى مفاوضات تنفيذ محطة الضبعة النووية لتوليد الكهرباء والتى تنتهى بكتابة عقد محكم ليس به ثغرات، فلابد وان يكون قد شارك فى هذه المراحل، أو يمتلك المعلومات الكاملة عنها، لأنها تدخل فى تصميم المحطة النووية. ولابد وأن يكون على دراية بمواصفات المحطة النووية المطروحة، وعلى دراية بجميع الدراسات الفنية، وعلى دراية بالدراسات التمويلية، ودراية بالنواحى القانونية لمشروع المحطة، فلا يستطيع فصل دراسات المواقع عن الدراسات الفنية، وعن دراسات تأمين الإمداد بالوقود النووى وخدماته وإدارة الوقود المحترق والنفايات، وعن الدراسات المالية، وعن القانون النووى، وعن الشروط العامة والقانونية، لأنها تشكل وحدة واحدة متكاملة، فكلها تصب فى صميم كتابة عقد محكم. لاقدر الله، فى حالة وجود ثغرات بالعقد، فستكون هناك عواقب وخيمة سواء كان تأخير فى تنفيذ المشروع مع فرض غرامات تأخير، أو تنفيذ محطة بها أجزاء غير مطابقة للمواصفات، وأما فى حالة حدوث عواقب كارثية فهى تتمثل فى توقف تنفيذ المشروع.
وهنا نستطيع أن نقول أن الهدف من تشكيل الفريق المشار اليه، والذى بدأ العمل منذ عام 1976 وحتى شهور مضت، هو لأجل إنجاز أعمال مراحل مشروع المحطة النووية والتى تسبق التعاقد، والاستعداد لمرحلة التفاوض، وحتى يستطيع كتابة عقد محكم ليس به ثغرات، فكانت الدورات التدريبية سواء داخل مصر أو خارج مصر، وكذا إتاحة فرص العمل والإحتكاك مع الخبراء الدوليين لكسب الخبرات.
هذا الفريق أثبت قدراته العالية فى مناقصة عام 1983، سواء فى إختياره لمكتب إستشارى عالمى وهو “موتوركلمبوس” السويسرى، أوفى العمل بالتوازى مع هذا المكتب فى وضع مواصفات المحطة النووية قدرة 900 ميجاوات، أو فى العمل مع المكتب وبالتوازى فى طرح المناقصة وتحليل العروض وعددها أربعة، والمقدمة من أربعة شركات عالمية (أمريكية والمانية وفرنسية وإتحاد شركات)، ثم التحول بمهارة الى ممارسة المتناقصين وإظهار قدراته العالية فى إجراء ممارسة مالية بين الأربعة عروض، والتى انتهت بفوز شركة “كا – فى – او” الألمانية بالمناقصة، فلا تستطيع أن تقوم بممارسة مالية لأربعة شركات عالمية فى عروض مقدمة بمليارات الدولارات وبعملات مختلفة وبقروض مختلفة وبشروط مالية مختلفة، إلا إذا كنت على دراية كاملة بجميع بنود العروض المقدمة فنيا وماليا وقانونيا، وعلى دراية بأسعار البنود المختلفة فى كل عرض والعملات المقدمة بها وتأثيرها على مجمل العرض، فهى مهارة لا يمتلكها إلا “فقهاء” المحطات النووية لتوليد الكهرباء.
نتوقف عند هذا القدر من الحديث، وإن شاء الله لنا لقاء آخر مع إنجازات هذا الفريق، والذى أفراده والحمد لله يتمتعون بصحة جيدة وبعقلية قادرة على العطاء وخدمة مصر، وخاصة فى هذه المرحلة من تاريخ مصر النووى.