أحمد الشرقاوى
أكد المؤرخ الشريف محمد بن علي الحسني أن الأمانة كانت جوهر الرسالة النبوية قبل البعثة وبعدها، مشيرًا إلى أن المقصورة النبويةالمؤرخ الشريف محمد الحسني: الأمانة النبوية.. جوهر الرسالة ومسؤولية الأمة ليست مجرد بناء يحيط بحجرة النبي ﷺ، بل تمثل رمزًا لهذه الأمانة العظيمة التي حملها للعالم. وأوضح أن ذكرى مرور ١٥٠٠ عام على مولده الشريف (1447هـ) ليست مجرد محطة تاريخية، بل مناسبة تدعونا للتأمل في هذه القيمة الجوهرية التي شكلت شخصيته ﷺ ورسخته قائدًا فريدًا في تاريخ البشرية.
وأشار الحسني إلى أن المجتمع المكي، رغم انتشار النزاعات والصراعات آنذاك، أدرك نزاهة النبي ﷺ ولقّبه بـ “الصادق الأمين”، مما يعكس مستوى الثقة التي حظي بها. وأوضح أن هذه الثقة لم تكن وليدة المصادفة، بل نابعة من مواقف ثابتة ومتجذرة برهنت على التزامه بالأمانة في كل جانب من جوانب حياته، سواء في المعاملات التجارية، أو العلاقات الاجتماعية، أو حتى في أحلك الظروف التي تعرض لها.
و ذكر أن حفظ الودائع والأمانات كان من أبرز مظاهر الأمانة قبل البعثة، حيث كان الناس، بمن فيهم أعداؤه، يودعون أموالهم لديه لما عرف عنه من صدق وإخلاص، رغم أنه لم يكن من أصحاب الثروة أو النفوذ السياسي. وأوضح أن هذا السلوك المتفرد كان تجسيدًا عمليًا لمعنى الأمانة الحقيقية التي لا تتغير وفق الظروف أو المصالح.
كما أشار إلى أن موقفه في قصة الحجر الأسود يكشف عن مدى حكمته وعدله، فعندما اشتد الخلاف بين القبائل حول من يضع الحجر في مكانه عند إعادة بناء الكعبة، كادت الحرب تندلع بينهم بسبب التنافس على هذا الشرف العظيم. وأوضح أن القبائل اتفقت على تحكيم أول داخل إلى المسجد الحرام، فكان النبي ﷺ.
وأضاف الحسني أنه بدلاً من الانحياز لطرف دون آخر، بسط ردائه الشريف ووضع الحجر عليه، ثم طلب من ممثلي كل قبيلة حمله معًا قبل أن يضعه في مكانه بنفسه، وبذلك حسم النزاع بحكمة وأمانة، مما زاد مكانته في قلوب قومه، ورسخ صورته كحكم عادل يمكن الوثوق به في أعقد المواقف.
موضحا أن هذه الصفة انعكست أيضًا في تعاملاته التجارية، حيث عمل النبي ﷺ في تجارة السيدة خديجة رضي الله عنها بصدق ونزاهة، مما جعلها تثق فيه وتعرض عليه الزواج بعد أن لمست أمانته في كل جوانب تعامله. وأكد أن الأمانة لم تكن مجرد التزام أخلاقي في حياته، بل كانت أسلوب حياة انعكس في أدق تفاصيل معاملاته اليومية.
وأكد الشريف محمد الحسني أن الأمانة بعد البعثة أصبحت مسؤولية أعظم، حيث لم يعد الأمر مقتصرًا على الأمانات الشخصية، بل شملت حمل رسالة الإسلام بأمانة كاملة، دون تحريف أو تغيير. وأوضح أن النبي ﷺ لم يُخفِ شيئًا من الوحي، بل بلّغ رسالته رغم العداء الذي واجهه، والتحديات التي وضعها المشركون في طريقه.
وأشار إلى أن موقفه عند الهجرة إلى المدينة كان نموذجًا استثنائيًا في الأمانة، حيث ترك ابن عمه علي بن أبي طالب رضي الله عنه في مكة ليعيد الودائع إلى أصحابها رغم أن هؤلاء كانوا من الذين اضطهدوه وحاربوه. وأردف أن هذا التصرف يؤكد أن الأمانة عند النبي ﷺ لم تكن خاضعة للمصالح الشخصية أو العداوات، بل كانت مبدأ ثابتًا لا يتغير تحت أي ظرف.
وأوضح الحسني أن أمانة الحكم والقيادة ظهرت جلية عندما تولى النبي ﷺ شؤون المدينة، حيث أسس دولته على العدل والمساواة، وجعل الأمانة معيارًا في كل أمر، حتى قال: “لو أن فاطمة بنت محمد سرقت، لقطعت يدها”، مما يعكس عدم تهاونه في تطبيق العدل، بغض النظر عن الروابط الشخصية. وأكد أن هذه الصرامة في تطبيق الأمانة لم تكن مجرد سياسة حكم، بل كانت جزءًا لا يتجزأ من رؤيته القيادية التي قامت على بناء مجتمع متماسك قائم على مبادئ العدل والحق.
وأشار إلى أن المقصورة النبوية تظل حتى اليوم رمزًا للأمانة الروحية والتاريخية، فكما كانت حجرة النبي ﷺ خزانة للأمانات قبل ١٤٠٠ عام، لا تزال تمثل شاهدًا حيًا على التزام الأمة بحمل هذه الأمانة. وأوضح أن الحفاظ عليها ليس مجرد عناية بمكان مقدس، بل هو تأكيد على استمرار الرسالة، وتجديد للالتزام بقيمها.
وأوضح أن استلهام الأمانة في العصر الحالي ضرورة ملحة، إذ تواجه المجتمعات تحديات كبرى في السياسة والاقتصاد والعلاقات الاجتماعية، مما يتطلب إحياء هذه القيمة النبوية. وأضاف أن المسلم، كما كان يثق في النبي ﷺ بحفظ أمواله، عليه اليوم أن يكون أمينًا في عمله، وعلاقاته، ومسؤولياته، وأن يترجم هذه القيمة في كل جوانب حياته، بعيدًا عن الغش والخيانة والتلاعب بالحقوق.
و ذكر الحسني أن ذكرى مرور ١٥٠٠ عام على مولد النبي ﷺ ليست مجرد حدث تاريخي، بل فرصة لمراجعة الذات، متسائلًا: هل لا تزال الأمة أمينة على رسالته؟ وأكد أن المقصورة النبوية ليست مجرد جدران تحيط بمكان مقدس، بل رمزٌ يذكرنا بأن النبي ﷺ كان “أمين البشرية”، وأن رسالته لا تزال أمانةً في أعناقنا جميعًا، تتطلب منا الالتزام بقيمها، والعمل على نشرها وحمايتها.
واختتم المؤرخ الشريف محمد الحسني مؤكدا أن الأمانة لم تكن مجرد فضيلة شخصية في حياة النبي ﷺ، بل كانت الأساس الذي قامت عليه كل تعاملاته، قبل البعثة وبعدها.
وأكد أن هذه الذكرى لا تقتصر على كونها احتفالًا بمولد أشرف الخلق ﷺ، بل تمثل اختبارًا حقيقيًا للأمة، متسائلًا: هل لا نزال نتحلى بالأمانة كما كان ﷺ؟ وهل ما زلنا نحمل هذه المسؤولية العظيمة التي ورثناها عنه، أم أننا فقدناها وسط متغيرات الحياة؟