اللعب بالغاز الطبيعى
بقلم – الدكتور على عبد النبى:
ازداد الطلب على الغاز الطبيعى بعد كارثة فوكوشيما النووية في اليابان عام 2011، وخاصة في دولة مثل ألمانيا، وهى دولة صناعية كبرى، فقد اتخذت قرارا بالإغلاق التدريجى لمحطات الطاقة النووية واستبدالها بمصادر الطاقات الأولية البديلة ومنها الغاز الطبيعى والطاقة المتجددة. وأصبحت لغة الطاقة الأن هى لغة الغاز.
تضم أوروبا أربع دول من الدول الصناعية الكبرى، وهى ألمانيا وإيطاليا والمملكة المتحدة وفرنسا، وتتمتع هذه الدول بالقوة الاقتصادية والقوة العسكرية. ولتستمر هذه الدول متربعة على قمة القوى العالمية، فهذا يستتبع حرصها على ضمان أمن وموثوقية إمدادها بمصادر الطاقة الأولية وبأسعار تنافسية، وخاصة الغاز الطبيعى. ونظرا لأن تحقيق زيادة كبيرة في إنتاج أوروبا للغاز الصخرى يعتبر صعباً جداً من الناحية الاقتصادية، فقد اتجهت أوروبا لشراء الغاز الطبيعى من السوق العالمى، وذلك من خلال عقود طويلة الأمد، وبأسعار تنافسية حتى تضمن الصدارة فى المنافسة بين الدول الصناعية. وبذلك نستطيع أن نقول أن شريان حياة أوروبا أصبح يعتمد بنسبة كبيرة على الغاز الطبيعى.
كذلك نجد أن شريان حياة أمريكا يعتمد في المقام الأول على البترول وعلى الغاز الطبيعى. وأمريكا تنظر إلى ثروات كوكب الأرض، من منظور أن هذه الثروات ملك لها. وحتى تستطيع أمريكا الاستمرار في كونها القوة الأوحد المسيطرة على العالم، فلابد وأن تكون ثروات العالم تحت سيطرتها إما من خلال الاستحواذ على هذه الثروات وإما من خلال سيطرة شركاتها أو الشركات التابعة لها في إدارة هذه الثروات أو سيطرة أمريكا على الدول التي تمتلك هذه الثروات. وبذلك فأمريكا تستطيع استخدام هذه الثروات كورقة ضغط سياسي للسيطرة على دول العالم. وبذلك تكون أمريكا قادرة على فرض حصار تجارى على أي دولة في العالم تخرج عن طوعها أو تكون منافسا لها في زعامة العالم. وإذا ما امتلكت أمريكا هذا الأمر فإنها تستطيع فرض قيود على روسيا وتمنعها من بيع غازها الطبيعى لدول أوروبا، وهى تعلم أن مصدر الدخل القومى الروسى يأتي من بيع الغاز الطبيعى، وأن 88% من إنتاج روسيا من الغاز يتم تصديره إلى أوروبا، وأن 51% من غاز ألمانيا يأتى من روسيا.
وفقاً لتقرير شركة “بريتش بتروليوم” الإحصائى لعام 2017، فلو نظرنا إلى دول منطقة الشرق الأوسط، نجد مجموع الاحتياطي لديها من الغاز الطبيعى هو 2670.6 تريليون قدم مكعب (ت.ق.م)، وهو يمثل نسبة 39.1% من الاحتياطي العالمى. وكذا نجد أن احتياطى روسيا من الغاز الطبيعى يمثل نسبة 18.1% من الاحتياطي العالمى. كل ذلك يوضح مدى اهتمام أمريكا للسيطرة على ثروات دول منطقة الشرق الأوسط، واهتمامها بفرض قيود على روسيا من خلال منعها من تصدير غاز روسيا إلى دول أوروبا.
وتعلم أمريكا أنها لا تستطيع الوفاء باحتياجات أوروبا من الغاز الطبيعى من إنتاجها من الغاز الصخرى، وذلك نظرا لصعوبة ذلك، فالصعوبة تتركز فى عدم توافر البنية التحتية فى أمريكا لإسالة الغاز وعدم توافر البنية التحتية لدى أمريكا لنقل الغاز المسال إلى أوروبا.
ومن هنا بدأت أمريكا وبعض الدول الأوروبية فى دعم دول أواسط آسيا والمنتجة للغاز الطبيعى لتصديره إلى أوروبا بدلا من روسيا. وبدأ التفكير فى مد أنبوب “نابوكو” لنقل الغاز من حقول تركمانستان وأذربيجان أوزبكستان عبر الأراضى التركية إلى أوروبا. وقد تركزت خطة روسيا لمناهضة هذا المشروع، على شراء الغاز المنتج فى دول أواسط آسيا من خلال عقود طويلة الأمد، واحتكار بيعه. وبذلك فقد قابل المشروع مشكلة عدم وجود دولة من دول أواسط آسيا تستطيع ضخ غاز فى أنبوب “نابوكو”، وأجهضت روسيا هذا المشروع ولم ير النور.
هناك بعض الدول تمتلك احتياطيات ضخمة من الغاز الطبيعى ولا تستطيع تصديره إلى أوروبا من خلال أنابيب نقل الغاز، فدولة قطر والتي يأتي ترتيبها الثالث في الاحتياطى من الغاز والذى يقدر بحوالى 879.9 ت.ق.م، لا يمكنها تزويد أوروبا بالغاز عن طريق أنبوب، وذلك بسبب الحرب السورية والحرب العراقية، وكذلك السعودية والإمارات والعراق. أما بالنسبة لإيران والتي تأتى في الترتيب الثانى في احتياطي الغاز بقيمة مقدارها 1173.0 ت.ق.م فلن يسمح لها بذلك.
روسيا يهما في المقام الأول أوروبا. وزيادة نفوذ روسيا الاقتصادي والسياسى فى القارة الأوروبية، سوف يؤدى إلى تخفيض حجم المخاطر الاقتصادية والعسكرية التي تهدد أمن روسيا القومى، وهذا يستتبع أن تظل أوروبا معتمدة على إمدادات الغاز الروسى. فإمداد أوروبا بالغاز الطبيعى الروسى ضرورة حتمية لا يمكن الاستغناء عنها لعقود طويلة باعتبار أن روسيا هى الدولة الأكثر إنتاجاً للغاز الطبيعى والأقرب جغرافيا للقارة العجوز. السوق الأوروبى متعطش إلى الغاز الطبيعى، ففي عام 2017، استوردت أوروبا ما مقداره 14950.25 م.ق.م من الغاز الطبيعى وما مقداره 2319.9 م.ق.م من الغاز الطبيعى المسال من عدة دول، أهمها قطر والجزائر ونيجيريا. ونستطيع التأكيد على أن أوروبا ستظل رهينة للغاز الروسى ولفترة طويلة على اعتبار أن واردات أوروبا من الغاز من الدول الاخرى لا تتعدى 50% من احتياجاتها.
تأتى روسيا في الترتيب الأول على مستوى العالم في احتياطى الغاز الطبيعى بقيمة مقدارها 1234.9 ت.ق.م، وتأتى في الترتيب الثانى عالميا في إنتاج الغاز بقيمة مقدارها 22443.04 م.ق.م. ونظرا للتكلفة الاقتصادية التي تستتبع تصدير الغاز الطبيعى الروسى في صورة غاز مسال، فمن المفضل أن يتم تصدير الغاز الطبيعى الروسى عن طريق الأنابيب للأسواق القريبة مباشرة. وتهدف روسيا في هذا الصدد إلى الابتعاد عن دول الترانزيت (في المقام الأول أوكرانيا) لعبور الغاز الروسى إلى السوق الأوروبى، مما يعزز أمن توريدات الغاز للسوق الأوروبى.
كانت أوكرانيا البلد الترانزيت الرئيسي والتي تعتمد عليها روسيا بصورة رئيسية وعلى شبكتها في نقل الغاز الروسي نحو أسواق أوروبا الشرقية والغربية، ونحو تركيا، فى المقابل كانت أوكرانيا تحصل على جزء من الغاز الروسى، وتحصل على عائد مقداره أكثر من 2 مليار دولار سنويا مقابل مرور الغاز الروسى عبر أراضيها. وفي السنوات من سنة 2000 كان يعبر الأراضي الأوكرانية أكثر من 50% من واردات أوروبا الغازية من روسيا. لكن تأزم الأوضاع بين روسيا وأوكرانيا، جعل روسيا تفكر فى تنفيذ خطوط لأنابيب غاز جديدة تستطيع من خلالها تأمين توريد الغاز إلى أوروبا، وبعيدا عن أوكرانيا. والآن أصبحت شبكات نقل الغاز الأوكرانية تعمل بنصف طاقتها.
قامت روسيا بتكثيف الجهود لبناء خطوط غاز جديدة. وبدأ التفكير في “السيل الجنوبى” وهو البديل الروسى لمشروع “نابوكو” الأوروبى الأمريكي. و”السيل الجنوبى” هو مشروع خط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي الروسي (أربعة خطوط متوازية من الأنابيب) عبر البحر الأسود إلى بلغاريا وعبر صربيا والمجر وسلوفينيا إلى النمسا، لكن بلغاريا عارضت هذا المشروع، بحجة عدم امتثاله لمعايير الطاقة الأوروبية. وكان من المخطط أن تكون السعة الاجمالية 2224.5 م.ق.م من الغاز الطبيعي سنوياً. ونتيجة معارضة بلغاريا والاتحاد الأوروبي، واحتدام أزمة القرم فى 2014، وفرض عقوبات أوروبية على روسيا، فقد تم إلغاء المشروع من قبل روسيا والاستعاضة عنه بمشروع “السيل التركي”..
ونظرا لأن السوق الأوروبى متعطش إلى الغاز الطبيعى، فقد قامت روسيا بوضع حلول استراتيجية للسيطرة على سوق الغاز الأوروبى من خلال: أولا: أنبوب “السيل الشمالى”، تم تنفيذ هذا المشروع ليخدم المصالح الروسية والتركية، إلا أنه لا يتماشى مع مصلحة أوكرانيا، وهى دولة الترانزيت الأكبر عالميا، التي تعتمد عليها روسيا بصورة رئيسية وعلى شبكتها في نقل الغاز الروسي نحو أسواق أوروبا الشرقية والغربية، ونحو تركيا. الخط بطول 1222 كيلومتر عبر بحر البلطيق إلى أوروبا مباشرة، وهو أطول خط أنابيب تحت البحر في العالم. هذا المشروع جاء بناء عن شراكة روسيا مع ألمانيا لتنفيذ خط أنابيب بحري، وهو يسمح حاليا بتوريد 1942.1 م.ق.م من الغاز الروسي سنويا إلى أوروبا، ومن المنتظر أن تصبح سعته التصديرية 3884.1 م.ق.م بحلول عام 2019، بعد تشغيل خط “السيل الشمالى-2”. ثانيا: أنبوب “السيل التركى”، بدأ البناء في مايو 2017 وهو قيد التنفيذ حاليا، وهو مشروع خطوط أنابيب لنقل الغاز الطبيعي، وهو مخصص للسوق التركية وللسوق الأوروبية. وهو يعبر البحر الأسود، ويصل إلى البر التركي ثم يتجه إلى أوروبا. ويتألف المشروع من خطين تبلغ سعتهما الإجمالية 1112.3 م.ق.م من الغاز الطبيعي سنويا. ثالثا: تقوم روسيا حاليا بتنفيذ أنبوب “السيل الشمالى-2″، عبر بحر البلطيق إلى ألمانيا، طوله أكثر من 1200 كم، وبسعة 1942.05 م.ق.م سنويا. سيبدأ تشغيل المشروع قبل أواخر عام 2019. يستند المشروع على التجربة الناجحة في بناء وتشغيل خط أنابيب الغاز “السيل الشمالى”. وسيساعد خط الأنابيب الجديد، على غرار خط “السيل الشمالى”، على إنشاء رابط مباشر بين حقول الغاز في روسيا والمستهلكين الأوروبيين. كما سيضمن إمدادات موثوقة للغاية من الغاز الروسي إلى أوروبا.
لقد قامت أمريكا وحلفاؤها بشن حرب على العراق وليبيا من أجل السيطرة على حقول البترول. والآن أمريكا وحلفاؤها يشنان حربا جديدة على سوريا للسيطرة على الغاز الطبيعى، ولكسر احتكار روسيا لسوق الغاز الأوروبى، ولذلك فلقد طرحت أمريكا وحلفاؤها فكرة أنبوب “الغاز القطرى”، والمخطط له نقل الغاز القطرى خلال أنبوب يمر بالأراضى السعودية والسورية ويتقابل مع أنبوب غاز “شرق المتوسط” ثم يتجه شمالا إلى تركيا ومنها إلى أوروبا. وهو ما يوضح سبب الحرب القائمة فى سوريا الآن، حيث أن سوريا هى العقبة أمام تنفيذ هذا الحلم.