الكاتب الكبير عبد الرحمن البنفلاح يكتب عن واقعية الإسلام في العقيدة والعبادات
واقعية الإسلام
بقلم/ عبد الرحمن علي البنفلاح
قال تعالى: «من كفر بالله من بعد إيمانه إلا من أكره وقلبه مطمئن بالإيمان ولكن من شرح بالكفر صدراً فعليهم غضب من الله ولهم عذاب عظيم» (النحل/106).
هذه الآية الجليلة تؤكد واقعية الإسلام في أعظم قضاياه، وهي قضية العقيدة والإيمان والكفر بالله تعالى، ومراعاة أحوال المسلم، فإذا أكره على الكفر ولم يجد بداً من أن ينطق بكلمة الكفر فلا حرج عليه في ذلك ما دام قلبه مطمئنا بالإيمان، وهذه الآية الجليلة التي صَدَّرنا بها حديثنا عن واقعية الإسلام نزلت في حق صحابي جليل من صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، هو عَمَّار بن ياسر (رضي الله تعالى عنه) حين عذبه الكفار، واشتد عذابهم له، فنطق مضطراً بكلمة الكفر لينجو من الهلاك، فلما رفعوا عنه العذاب بكى بكاءً حاراً، فلما سألوه عن سبب بكائه وقد نجاه الله تعالى من عذابهم ذكر لهم ما وقع فيه من أمر، فأخبروا الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك، فقال لهم صلى الله عليه وسلم: اسألوه ماذا عن قلبه؟ فقال لهم: مطمئن بالإيمان! فقال له الرسول (صلى الله عليه وسلم): إن عادوا، فعد!! أي: إن عادوا إلى عذابك ولم تستطع أن تتحمل وتصبر، فأعطهم ما يطلبون مادام قلبك مطمئنا بالإيمان.
يا لروعة الإسلام، ويا لمراعاته لأحوال أتباعه.. العبرة ليست بالأحوال ولكن بالنيات، لهذا يسعى الإسلام إلى استمالة قلوب الناس لا قوالبهم.
هذه هي واقعية الإسلام، ومراعاته لتغير أحوال المسلم في العقيدة، وهي قضية القضايا في الإسلام، وهذا يعني أن ما دونها أدعى لسماحة الإسلام ومراعاته، والعقيدة هي الأساس المكين الذي بُنِيَت عليه أركان الإسلام جميعها، وبنيت عليها واقعيته كذلك، ففي الصلاة مثلاً إذا كان المسلم صحيح البدن، فعليه أن يصلي الصلاة بجميع شروطها وأركانها، فإن عجز عن الوقوف لمرض أَلمَّ به صلى قاعداً، فإن عجز عن ذلك صلى على جنبه أو مستلقياً، فإن لم يستطع ذلك أخطر أعمال الصلاة على قلبه.
والحج كذلك إن لم تتوافر فيه شروطه من النفقة له ولأهل بيته أثناء حجه، ولم يتوافر له أمن الطريق وصحة البدن فلا حج عليه حتى تتحقق له الاستطاعة التي اشترطها الله تعالى لمن ينوي الحج، قال سبحانه وتعالى: « ..ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا ومن كفر فإن الله غني عن العالمين» (آل عمران/97).
ومن تجليات واقعية الإسلام في فريضة الصيام أنه رفع الحرج عن المسلم المريض الذي يشق عليه الصوم، أو يزيد مرضه بالصوم أو يتأخر شفاؤه بسبب الصوم، فله أن يفطر حتى يشفى من مرضه، فيصوم ما أفطر من أيام، وله أن يقصر الصلاة ويجمعها في السفر، ويفطر ويقضي بعد ذلك.
إذاً، فأداء التكاليف والعبادات مرتبط بأحوال المسلم، فإذا تغيرت أحواله من الصحة إلى المرض، ومن القدرة إلى العجز، ومن الإقامة إلى السفر، فإن الإسلام يراعي كل هذا، ويخفف من شروط أداء العبادات عليه حتى يعود إلى أحواله العادية.
ومن واقعية الإسلام ويسره أنه رفع الحرج عن المسلم، فأباح له أن يأكل شيئاً من الحرام حين يكون مضطراً، قال تعالى: «إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهلّ به لغير الله فمن اضطر غير باغٍ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم» (البقرة/173).
يا لعظيم أمر المسلم عند الله تعالى يبيح له ما حرم عليه إبقاءً لحياته، ودفعاً للهلاك عنه ذلك لأنه سبحانه وتعالى (غفور رحيم) غفور عن الذنب الذي ارتكبه المسلم مضطراً حفظاً لحياته فأكل شيئاً من الحرام، ورحيم لأنه سبحانه أباح له ما حرم عليه في أحواله العادية، وهنا لفتة لطيفة ترسم لنا خريطة الغذاء في الإسلام، والتي فيها الحلال البَيِّن، والحرام البَيِّن وبينهما الحرام المأذون بفعله حين يكون المسلم مضطراً إليه من أجل الإبقاء على حياته.
إذاً، فلا داعي إلى اختراع قوانين بشرية تبيح ما حرم الله تعالى، أو تحرم ما أحل الله تعالى، وهنا نجد تكاملاً للتشريعات التي تنظم جانباً من جوانب حياة المسلم وهو ما يتعلق بالحلال والحرام في طعامه وشرابه، يقول سبحانه وتعالى: «يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله إن كنتم إياه تعبدون» (البقرة/172)، ثم تأتي الآية التي بعدها (173) والتي سبق أن ذكرناها عن المحرمات والتي أباح الحق سبحانه منها القدر الذي يدفع الموت عن المسلم حين يكون مضطراً.
إذاً، نستطيع أن نقول: إن الخريطة الغذائية في الإسلام تضمنت ثلاثة مستويات من الطعام والشراب، تضمنت الحلال الطيب، وتضمنت الخبيث المحرم، وتضمنت كذلك المستوى الثالث وهو القدر من الطعام والشراب الذي نستطيع أن نطلق عليه «طعام الاضطرار» الذي أباحه الحق سبحانه وتعالى للمضطرين من عباده.
تلك هي واقعية الإسلام في العقيدة والعبادات، وهما من أهم القضايا التي تشغل بال المسلم، ويحرص أشد الحرص على عدم مخالفتها.