مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

القناع الأسود

بقلم – عواد المخرازي

قد يهمك ايضاً:

نقل جثمان الفنانة نيفين مندور إلى المشرحة لحين انتهاء…

الاعلامي سامح عاطف يبدأ مشوار ميس نايل والكاستنيج يوم…

اليوم بصق في وجهي ذلك المحقق أمام زملائي ونعتني بأقبح الصفات ثم قال : كيف لموظف و تربوي مثلك أن يشتم الحاكم وينتقد الحكم . أقسمت له أني لم اقل شيئا . سوى اعجاب وضعته على منشور . وحاولت حذفه لكني لم استطع . اقتادني وزمرته الى سيارة سوداء وفي مهجع تحت الأرض ألقوا بي هناك عندها لكمني أحدهم بقوة . وضعوا على رأسي قطعة سوداء من القماش بعدها صاح المحقق للجلاد ليقوم بعمله .
أخذ يضربني بقوة ودون رحمة ، وأنا مقنع الوجه أصيح بأعلى صوتي أني لم اشتم احدا . إني لم انتقد احدا ، من شدة الألم وبين تلك اللحظات التي تمتزج بالوعي واللاوعي ..تبارى لذهني صورة أبي وهو يلبس الشماغ الأحمر ” الكوفية ” وأمامه بريمس الكاز الذهبي الذي يخرج تلك الرائحة التي لا أشبع منها أبدا . يضع المحماسة ” حماصة القهوة ” لتستوي على نار هادئة يحرك الحبات البنية بهدوء حتى تنضج . يطحنها بالمهباش مطلقا تلك الإيقاعات الرائعة التي تدعو كل من يمر بالجوار لحضور حفلة القهوة هذه . أسمع ايضا مهباش جارنا وهو يوقع بصوته الخشبي الجميل . تجلس أمي بجانب البيت تصنع خبز الصاج على عيدان من الحطب . عندما تنتهي من الخبز تحضرهبالذفال” وتحضر معه أخر رغيف على الصاج حيث يترك على نار هادئة فيصبح مقحمشا ” مقرمش ” عادة ما يترك لنا نحن الصغار لنأكله بسرعة قبل الأفطار ونتلذذ به . يجهز أبي القهوة ويضع أبريق الشاي على النار فتنتشي غرفتنا الصغيرة برائحة الهيل والكاز والبهار . وذلك الشاي الذي يصنعه على الطريقة الدمشقية . حيث يضع الشاي في كأس ويدلق عليه الماء الساخن لينقع ويترك الأبريق يغلي ثم يدير الكأس المخمر ويتركه يغلي ليصبح مرا جدا .
تضع أمي الأفطار . وهو طعام بسيط جدا . صحون صغيرة مصنوعة من “التوت” أحداها فيه سمن بلدي ، والثاني لبنة تصنع على شكل كرات بيضاء يضاف إليها الزيت . والصحن الثالث فيه خاثر ” لبن رايب” . نبدأ بتناول الأفطار على صوت الراديو . تبدأ نشرة الأخبار الصباحية التي أدمن أبي الاستماع إليها إنها ال ب ب س . هيئة الإذاعة البريطانية من لندن .طعم خبز الصاج والسمن البلدي مع كأس شاي لا يمكن وصف مذاقها وروعتها . يتمازج فيها الحب والسكينة والأمان مع النكهة والمذاق .
يستند أبي في جلسته بشماغة الأحمر الطويل . ويستعد لصب القهوة العربية .والعادة أن يكون بيده فنجانين يضربهما ببعض فتصدر صوت طقطقات جميلة ليهئالمعدة ” لاستقبال هذا الزائر الجديد .
_
اليوم سيكون الفنجان الأول لك يا ” ابني” فقد كبرت وستصبح رجلا ، لم يتجاوز عمري السابعة حينها ، تبتسم أمي وهي فرحة نعم لقد أصبح رجلا يصب أبي القهوة . أشربها بسرعة وهي ساخنة كعادة الرجال . أبتسم ، تحتضنني أمي بملابسي البسيطة قبل أن أذهب للمدرسة . يقول أبي وهو يصب القنجان الثاني لي : ” تذكر يا ولدي . كيف تمسك الفنجان باليمين . وتقدمه للضيوف باليمين . أريدك أن تستقبل الضيوف بحفاوة عند قدومهم . عندما تكبر قليلا ستلبس الشماغالكوفية ” وسيكون لديك سلاحك ، لا تدعه يفارقك أبدا فالرجل بدون سلاح ليس رجلا . وتذكر : أن كثرةالحجي”الكلام تقلل من هيبة الرجل .قبلني واعطاني مصروفي اليومي قرشا احمرا وهو اثمن شيء امتلكه وأفرح به في ذلك الوقت _
أترنح من شدة الألم . وتختلط علي الصور وابتسم .
يسوطني الجلاد بسياطه في كل مكان على جسدي النحيل . صمتي وأنا مقنع أثار استغرابه نزع القناع . الدم غطى كل جزء من وجهي ورأسي وجسدي . عندما رأني مبتسما وأنا أئن اراد ضربي لكن السوط سقط ٱلى الأرض . نظرت أليه لقد كان الجلاد أخي شقيقي الأصغر أبن أمي وأبي . عندما عرفني .اخذ يصيح . ناداه المحقق اضرب هذا الكلب . هززت رأسي له مبتسما أن اضرب .خشية عليه لكنه لم يفعل .
صاح لرئيسه المحقق يا سيدي : هذا الرجل سيموت بيننا الآن. علي إسعافه . عقوبته لا تستدعي الموت . هز المحقق رأسه موافقا .
احتضنني بقوة ودموعه تمتزج بالدماء التي على وجهي . يركض بي بين الممرات يهزني بين يديه كما لو كنت طفله الصغير وهو يصيح : سامحني . سامحني .اشعر بهزيزه . وأرى مع حركة يديه صورة أبي وهو يهز فناجين القهوة ويبتسم لي ويقول : (كثرة الحجي ” الكلام” تقلل هيبة الرجال ) . ابتسم لصورته التي بدأت تختفي رويدا رويدا حتى تلاشت في الفضاء .