مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

العودة من التيه

بقلم –  سامية طيوان:

كانت الشمس ترصّع جبين السماء ، تُسدل خصلاتها على مرابع المدينة ، فيدثّر الذفئ زقاقاتها ، ويتمدّد على شرفاتها المكسوّة بطحالب الشتاء .أغراني وجه السماء المتبسّم أن أفيئ إلى فسحة الطبيعة ،حيث الربيع يبسط جناحيه ، ينثر الأمل بألوان قوس قزح ، أغوتني أكثر ملامح الطبيعة البهيّة ، فطرتها التي ما تزال تحفظها وعذريتها التي تتغنج فيها منذ الأزل كعروس بربرية ᵎᵎ فلجأت إلى روابيها المخضرّة ــ بعيدا عن أسوارالمذينة وصخب شوارعها ــ أبتغي ضالتي من الراحة . أنا الذي أضناني سجن الحياة ، المسؤولية والدرجات الرفيعة ، وظلمة مكاتب الإدارات التي تعاقبت سنين عمري على كراسيه ، تناوبتني أحمالها كالكرة بين أرجل اللاّعبين ! رمتني خارج معادلة الحياة والتي تقضي بأنّ: ” المال والبنون زينة الحياة الدنيا”. لم أفلح في المساواة بين طرفيها ورُحت أصارع من أجل الوهم الذي تلبّسني.. ألبسني أثواب الدّنيا فأسكرتني ملذاتها ، وغفوت حينا من العمر مرتحلا بين مغرياتها ᵎᵎ

وأنا في لهوي أعمه لاأدري للنهاية من حضور، لم أنتبه لحجم هوة الجفاء التي حفرَتْها مخالب اللاّمبالاة بيني وبين عائلتي ᵎ لينتهي شبابي بين جدرانها المعتمة ، والتي أحسست أخيرا برودتها وقسوتها ؛ بعدما وجدتُني وحيدا محاصرا بأخطائي التي كبُرت معي ، أضحت تلازمني اليوم بساعاته، وبثقل الأ حمال التي ورثتها من عنادي لنفسي ، والذي أفقت منه بعد عقدين وبضع سنين من الزمن ᵎ؟ حينها فقط أدركت حجم خطيئتي ، وأن هوَسي بالمناصب والمسؤولية حجب عن نفسي لذّة التفاهم والإنسجام مع أسرتي ، لم أُدركْ بأن حلاوة الحياة كحلاوة العسل تنبع من الرحيق، وبأن رحيق حياتي هو أن أعيش بين أفراد عائلتي، بين تناقضات طلباتهم وحبّهم وتذلُّلِهم .

ها أنا اليوم كهل باغته التقاعد ،غزى الشيب مدن عمره وأحلامه وبُتِرت أوتار الصِّلة التي تربطه برحم الحياة .. كان ذلك حينما أخفقت في أن أعدل بين عملي وعائلتي ، أوازن بين حقهم مني وواجبي عليهم . تساقطت أزرار الألفة التي كانت تشذّنا زرّا تلو الآخر، بعدما تضخم اليأس داخل قلوبنا فتمزق ثوب الحنان الذي كان يلفّنا قبلُ ! وتمرّد الكبرياء في نفوسنا فصُمّتْ عقولنا وغطّى ضباب الجفاء على صفائها ،فغرقنا في وحل القطيعة ! وبرغم الحضورالدائم لأجسادنا فإن قلوبنا كانت تخفق بعيدا عن صدورنا، بعيدا عن المشاعر.

وأنا في تيهي أبحث عنّي بين الباقيّات منّي ،رسوت بذاكرتي عند مرفئكِ فتكشَّفت أخطائي حين انعكس وجه خيبتي فوق مرايا الذاكرة ، فكان عاريا إلا من جوري ومن جحود!؟ ومع ذلك حاولت استرداد أمنيتي في العثورعليك وولدَيَّ بين أكوام أوزاري ، إخراجها من عتمة ظلمي وطغيان غروري ! تناسيت أن الزجاج حين ينكسر يصعب ترميمه ، وأنه حين يرمّم يذهب بريقه !!

نسيت أنكِ ضعت مني وبأني ضعت منك ، وبأننا انتهينا إلى دهاليز اللارجوع ــ رغم أملي ــ

نسيت أن وحش القطيعة في داخلنا افترس كل آمالنا، كل أحلامنا في اللقاء!!

نسيت أن موبقات العمر أتلفت نسيج الثقة بيننا فضاع منا صمّام الأمان. ومع ذلك ما زال الأمل في عودتنا يساورني ، يحدوني في أن نعود يوما و نلتقي في مرافئ آمنة.

أترانا نعود ، نرقّع أطراف الصّلح ونلتقي ؟ نزيح عن عيوننا غشاوة الماضي ونعيش لأجل مستقبل أفضل؟ تمنحني التوبة إصرارا أكبر، تنعش حظوظي في إيقاظ حلمي من سباته العميق بعدما رميت الماضي بأوزاره خلفي ᵎᵎ

أترانا نلتقي ثانية وتدبّ الحياة في عروق أيامنا فنلملم شظايا العمر الضائع! ؟

أترانا نلتقي ونسمع ــ معاًــ ضحكات أطفالنا، عفوا أ بناءنا! فقد دلفوا إلى الشباب وأنا في غفلتي أكدّس العمر للمناصب وخدمة أصحاب الهامات..

ها أنا اليوم أفتش عن ملامح طفولتهم في أقباء ذاكرتي ᵎ أهوي إلى أغوارها السحيقة ، أحفر بين شقوق تربتها الجدبى ، فلا أعثرلهم سوى على وميض ذكريات متلاشية ، لاتشبع رغبتي أوتروي ضمأ اشتياقي لهم !!

لا تحمل بين طيّاتها سوى وعود لا متناهية ، ظللت أبيعهم أياها دراهما ، كنت أظنها تغنيهم عن غيابي ورحيلي الدائم بين أصقاع رغباتي ᵎᵎ

ها هي اليوم تحاسبني عنهم ،ترميني بسهام اللوم وحِرب العتاب !

قد يهمك ايضاً:

برنامج وجدول العروض المسرحية لمهرجان الرباط الدولي للمسرح…

بالصور.. ختام ندوة الفنان محمد صبحي “الفن والثقافة…

تبعدني أكثرعن سراب رحمتهم!

تستل سيف الندامة من عمق الجرح لتدبح عروق لهفتي إليهم.

لاأذكرأنّي تطفّلت يوما على براءتهم أومارست معهم هواياتهم الصغيرة !؟

لاأذكر أني قبّلت أحدهم يوما أو أحتضنتهم ؟ᵎ كنت كالصقيع في حياتهم بارد الإحساس لا يرجون مني تبدًّلا ، فتكيّفوا مع طبعي وعشنا كالغرباء معا تجمعنا حيطان البيت ، وتفرقنا اللا مبالاة التي أكتسبوها مع رحيل السنين منّي.

لا أذكر أني شاركتهم أحلامهم السادجة التي تكسّد ت بعدها في أدراج العمر، وانتهت صلاحيتها بعد أن غادرت الطفولة أعمارهم، وغادرني زهو الحياة!

لا أذكرأني سألتهم يوما عن واجباتهم المدرسيّة أواهتممت بنتائج فروضهم ،عدا أني فرحت وأياهم يوم وطئت أقدامهم المدرسة أول مرة ، وبعدها تلاشت تلك الذكرى أمام طموحي ورغبتي الجامحة في تحقيق مآربي في العمل ..

ها أنا اليوم بقايا رجل ضائع أفتش بين جيوب الحياة عن رقعة حب تحضن انكساري!؟

تبيِّض ما تبقّي من صفحات العمر فنرسم عليها سويا حياة أجمل !

هل لي في القصاص حياة بينكم بعدما غيّبتكم دهرا عن مرمى اهتماماتي ؟؟

من يغفرأخطائي التي تجثم على أرصفة عمري ؟ ! يتقطع أملي حين أنظر في عين الماضي فأرى صورة منكسرة لظلّ رجل عالق في نسيج أوهامه!؟

من منكم يبعثني ــ بتسامحه ــ من لحد الندامة إلى جنّة الغفران؟

من يلملم بقاياي من رماد احترا قي؟؟

أتراه ولدي ! بصري الذي فقدته عند مدارج شبابه حين انتزعه مني لهو الدنيا فابتغى سبيلي ــ ورطة عمري ــ نبت زرعا عجْفاً في صحراء مشاعري القاحلة ! سقته مفاتن الدنيا فاستخلفني في وهمي!! هل يعف عني اليوم بعدما نجحتِ أنتِ في استعادته من وهمه ᵎ بعدما أعدتِ أنتِ ترميم ما أفسده تهوّري ولملمت شتات الأسرة ؟؟

أم تراها ابنتي ؟! “نوارة عمري ” التي عاقبتني بالهجرة ،اتخدت من الغربة سيفا تقطّع به أوداج أملي حين فُزِعتْ في حلمها ــ أن تصبح طبيبة ــ وهي تراه يهوي بين أشواك جفائي التي أدمت عمرها! أودعَتهْا في قبو النسيان ، بعدما كانت تأمل أن تكتب إسمها الأيام فرحا على وجوه المرضى. هل تسامحني الآن وقد تخطّت الماضي بتفاصيله ، وأصبح لها بيت وأولاد و مهنة مرموقة ؟ᵎ

أم أنت زوجتي وغدق حياتي ؟! هل ترانا نعودــ كأول ماضينا ــ نقوّم ما اعوجّ من أغصان محبتنا؟! مازلتِ تسكنين ــ رغم ملهاتي ــ جحور القلب ! تتملّكين نواصيه، ما زلت أحلم ، أتمنى وأرغب رغم أخطْائي التي حملتها بثقلها وحدك !أخفيت أكثرها عن عيون أبنائنا ، ذفنتها في عمق ألمك بين ثنايا جرحك بعيدا عنهم! لكنها جثمت على عمرنا فسّخت أيامه وبعثرت أوراق حبّنا..يومها لم تغفري ،لم تقدري ᵎᵎ لكنني اليوم رجل آخر! أنا عائد من وهمي ! عائد إلى فطرتي الأولى ، فهل لي ملجأ آخر في قلوبكم ؟ أفيئ إليه من غربتي، من وحدتي ، من ماض تسلخني ساعاته الفانية ؟ᵎ
 

اترك رد