مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الصحة النفسية … متلازمة كوتار

بقلم الأستاذ الدكتور- هشام فخر الدين:

 

لاشك أن الأمراض النفسية النادرة تمثل تحدياً كبيراً في مجال الطب النفسي، بسبب ندرتها وتعقيد أعراضها وتأثيرها العميق على حياة المصابين. حيث تتنوع هذه الأمراض بين اضطرابات تتعلق بالهوية والإدراك، وأخرى تسبب تغيرات سلوكية ونفسية حادة، مما يجعل التشخيص والعلاج أمر بالغ الصعوبة.

 وما بين أيدينا متلازمة كوتار أو ما يُطلق عليها “وهم الجثة السائرة”، والتى تمثل اضطراباً نفسياً نادراً، حيث ينتمي إلى فئة الاضطرابات الذهانية، ويتميز بوهم المصاب بأنه ميت أو غير موجود، أو أنه فقد أجزاءً من جسده أو دمه، رغم استمراره في الحياة والتنفس. ولقد وصف الطبيب الفرنسي جول كوتار هذه الحالة لأول مرة في عام 1880، ومنذ ذلك الحين ظلت متلازمة كوتار محط اهتمام الباحثين بسبب ندرتها وتعقيد أعراضها وتأثيرها العميق على حياة المرضى.

وتتسم متلازمة كوتار بأوهام عديمة الأساس تتعلق بالوجود والهوية الذاتية، حيث يعتقد المرضى أنهم قد ماتوا أو أنهم لا وجود لهم، أو أن أجزاءً من أجسامهم مفقودة أو تالفة. هذه الأوهام قد تتطور لتشمل اعتقاداً بالخلود أو الدوام الأبدي في بعض الحالات النادرة.

وتبدأ المتلازمة عادة بمرحلة اكتئاب ذهاني ووساوس مرضية، حيث يشعر المريض بالحزن العميق واليأس، ثم تتطور الأوهام لتصبح أكثر وضوحاً وشدة، مثل إنكار وجود العقل أو الدماغ أو الحركة الذاتية. في المرحلة النهائية، ويعاني المريض من اكتئاب حاد واضطرابات عاطفية شديدة، مع مشاعر جنون العظمة والإحساس بعدم القيمة أو العدمية.

وتتمثل الأعراض الرئيسية لها فى إنكار وجود الذات أو أجزاء من الجسم. والشعور بعدم الوجود أو الموت. أيضاً الانسحاب الاجتماعي والانعزال. وإهمال الذات، مثل رفض تناول الطعام أو عدم الاعتناء بالنظافة الشخصية. مع الميل إلى إيذاء النفس أو الإنتحار بسبب اليأس الشديد. ولا يزال السبب الدقيق لمتلازمة كوتار غير معروف بشكل قاطع. إلا أن الأبحاث تشير إلى أن هناك تداخلاً معقداً بين عوامل عصبية ونفسية وبيئية.

وتشير دراسات التصوير العصبي إلى وجود اضطرابات في مناطق الدماغ المسؤولة عن الوعي الذاتي وتنظيم العواطف، خصوصاً في الفصوص الجدارية والقشرة الأمامية. كما أن إصابات الدماغ، الالتهابات، أو الأمراض العصبية مثل الصرع، الشلل الرعاش، السكتة الدماغية، والتصلب المتعدد قد تساهم في ظهور المتلازمة.

قد يهمك ايضاً:

خالد عامر يكتب: الانفجار الكبير أخطاء إيران

عُمان واستراتيجية التحوط والاستباق …خبرة التعامل مع…

وغالباً ما ترتبط متلازمة كوتار بحالات نفسية أخرى مثل الاكتئاب الشديد، الاضطراب ثنائي القطب، الفصام، واضطرابات المزاج الأخرى. وتؤثر هذه الحالات على الإدراك والحالة المزاجية، مما يسهل تطور الأوهام العدمية. وقد تثير الأحداث المجهدة أو الصدمات النفسية والتغيرات الكبيرة في البيئة المحيطة، من ظهور المتلازمة أو تزيد من حدتها، خاصة لدى الأشخاص الذين يعانون من اضطرابات نفسية كامنة.

ومن الممكن تقسيم متلازمة كوتار إلى ثلاث مراحل رئيسية بداية من مرحلة النشوء حيث تبدأ بأعراض اكتئابية ووساوس مرضية خفيفة. ثم مرحلة التفتح حيث تتطور الأوهام لتصبح واضحة، ويبدأ المريض في الاعتقاد بأنه ميت أو فقد أجزاء من جسده، مع زيادة الشعور بالسلبية والقلق. ثم المرحلة المزمنة حيث يعاني المريض من اكتئاب حاد واضطرابات عاطفية شديدة، مع وجود إحساس بجنون العظمة أو العدمية المطلقة.

ويُشخص الأطباء متلازمة كوتار بناءً على الأعراض السريرية والتاريخ الطبي للمريض، مع استبعاد الحالات الأخرى التي قد تسبب أعراضاً مشابهة، مثل الاضطرابات الذهانية الأخرى أو الأمراض العصبية. ويُعد التشخيص المبكر مهماً لتقديم العلاج المناسب وتقليل المضاعفات الخطيرة.

وأخيراً تُعد متلازمة كوتار من الأمراض النفسية الخطيرة التي قد تؤدي إلى مضاعفات تهدد حياة المريض، منها التجويع الذاتي بسبب رفض تناول الطعام. والإهمال الصحي والنظافة الشخصية، ومحاولات إيذاء النفس أو الانتحار، والعزلة الاجتماعية الشديدة التي تزيد من سوء الحالة النفسية.

والغريب أنه حتى وقتنا هذا لا يوجد علاج موحد لمتلازمة كوتار، ولكن العلاج يعتمد على معالجة الأعراض النفسية والعصبية المرتبطة بها. حيث يشمل العلاج عادة الأدوية النفسية مثل مضادات الاكتئاب، مضادات الذهان، وأدوية تنظيم المزاج التي تساعد في تخفيف الأوهام والاكتئاب. ثم العلاج النفسي والذي يشمل العلاج السلوكي المعرفي والدعم النفسي لمساعدة المريض على التعامل مع الأوهام وتحسين جودة حياته.

وأخيراً العلاج الكهربائي (ECT) والذي يُستخدم في بعض الحالات الشديدة التي لا تستجيب للعلاج الدوائي، حيث أظهرت فعالية في تحسين الأعراض.

ونظراً لندرة متلازمة كوتار وتعقيدها، فإن زيادة الوعي لدى الأطباء وأفراد المجتمع أمر ضروري لتشخيصها مبكرًا وتقديم الدعم النفسي والطبي المناسب. كما يجب توفير بيئة داعمة للمريض تساعده على مواجهة هذه الأوهام والتعايش معها بشكل أفضل.

وتمثل متلازمة كوتار اضطراباً نفسياً نادراً ومعقداً، يتميز بأوهام العدمية والاعتقاد بعدم الوجود أو الموت، مما يؤثر بشكل كبير على حياة المصابين ويعرضهم لمخاطر صحية ونفسية جسيمة. وتتداخل في ظهورها عوامل عصبية ونفسية وبيئية، وتحتاج إلى تشخيص دقيق وعلاج متكامل يشمل الأدوية والعلاج النفسي. ومن الممكن أن يساهم الوعي بهذه المتلازمة وأعراضها في تحسين نتائج العلاج وتقليل معاناة المرضى.