الشريف خالد الأبلج.. يكتب: تأملات فى سيرة إبراهيم بن أدهم.. رحلة الوعي من الترف إلى الصفاء ومسار الرحلات حتى الممات
كتب / الشريف خالد الأبلج
ليست كل التحولات تولد من الكتب، فبعضها يولد من الندم، من صرخة قلبٍ أدرك فجأة أنه عاش طويلًا في الباطل، فاستفاق على نور الحق يبدد ظلمة الأنا. لم تولد التحولات الكبرى من القراءة وحدها، بل من لحظات صدقٍ تهزّ الوجدان فيعمّق الله بها البصيرة. وفي لحظةٍ كهذه، خرج إبراهيم بن أدهم من قلب الرفاه إلى مدار الروح، من ضجيج القصور إلى سكون النفس، باحثًا عن معنى الوجود كما يُولد الطهر من رماد التجربة. فلم يكن زهده انسحابًا من الحياة، بل انبعاثًا لإنسانٍ أدرك أن الحقيقة لا تُدرك بالعلم وحده، بل بتجربة القلب حين يصحو على صوته الداخلي، ليبدأ رحلته التي تجاوزت الزمان والمكان، ويغدو أحد أنقى الوجوه في تاريخ الإنسانية، نموذجًا لتحولٍ يصنعه الوعي والإيمان المستخرج من عمق الذات لا من سطح الموروث.
من هذا الباب دخل إبراهيم بن أدهم التاريخ؛ لا كزاهدٍ يعتزل الدنيا فقط، بل كرمزٍ إنساني لرحلة البحث عن المعنى، وكأن سيرته صدى آخر لرحلة إبراهيم الخليل عليه السلام حين خرج من ضجيج الأصنام إلى سكون التوحيد. وُلد في مدينة بلخ بخراسان في القرن الثاني الهجري نحو عام 100هـ، في بيتٍ من بيوت الرفاه والسلطان، فكان أبوه من أهل الثراء والمكانة، وتربى على نعيم الحياة وأبهة القصور، وتعلم فنون الفروسية والصيد، وكان شابًا ذا هيبة وشجاعة ومهابة بين الناس. غير أن القدر خبأ له مسارًا آخر تمامًا، مسارًا لا يقوده إلى الملك بل إلى الفقر، لا إلى العرش بل إلى سجادة الزهد.
لقد كانت بلخ آنذاك مركزًا علميًا وتجاريًا وحضاريًا زاخرًا، تمتزج فيه الثقافة الإسلامية الناشئة بالتراث الفارسي، ما منح بيئة ثرية بالعلوم والفكر، فكان ابن أدهم نتاج هذه البيئة، قبل أن يختار طوعًا التحرر منها. ومن هنا تصبح خطوة خلعه لثياب الرفاه ليست مجرد هروبٍ من القصر، بل تصعيدًا رمزيًا نحو فهمٍ جديدٍ للوجود والمعنى.
يذكر الأصفهاني في حلية الأولياء، وابن الجوزي في صفة الصفوة، أن التحول في حياة إبراهيم بن أدهم بدأ من لحظة وعيٍ هزت وجدانه وهو على صهوة جواده في رحلة صيد، إذ سمع صوتًا غيبيًا يخاطبه: “ألهذا خُلقت؟ أم بهذا أُمرت؟” كانت الكلمة كالسهم تخترق قلبه، فتزلزل كيانه، وتفتح في داخله بابًا إلى عالمٍ آخر. ترك الفرس، وخلع ثياب الرفاه، وسار على قدميه هائمًا في الأرض يبحث عن معنى جديد للحياة. ومنذ تلك اللحظة، بدأت المرحلة الثانية من وجوده: مرحلة الإنسان الباحث عن الله، عن الصدق، عن النقاء الأول.
وهنا تتجلى لحظة التساؤل الوجودي التي تقطع علاقة الإنسان بهويته السابقة، فتولد الذات الجديدة من رماد التجربة.
درس إبراهيم بن أدهم العلوم الشرعية في شبابه على يد كبار العلماء في بلخ، وكان ذا عقلٍ راجح وفهمٍ عميق، ينتمي في العقيدة إلى مذهب أهل السنة والجماعة، ويُعد من أئمة الزهد الأوائل الذين أسسوا لمفاهيم التصوف العملي قبل أن يتبلور كمذهبٍ فلسفي.
لم يكن متصوفًا بالمعنى المتأخر للكلمة، بل زاهدًا مجاهدًا عاش تجربة الإيمان كرحلة واقعية لا كفكرٍ نظري. قال عنه القشيري في رسالته: “كان يجمع بين العلم والعمل، وبين العقل والوجدان، وكان زهده تحررًا من أسر الدنيا لا إنكارًا لها.”
كانت رحلاته في الأرض مرآة لتحولٍ داخلي أعمق؛ إذ انتقل من خراسان إلى الشام، وجال بين مكة والمدينة فقط ، واستقر فترة طويلة في بيت المقدس، ثم أقام في نواحي اللاذقية يعمل في الزراعة وحراسة البساتين لقاء قوت يومه. كان يرى أن العمل عبادة، وأن اليد التي تعمل لا تمتد للسؤال، وقال لأصحابه: “لو علم الملوك وأبناء الملوك ما نحن فيه من لذة، لقاتلونا عليها بالسيوف.” كان يرى اللذة الحقيقية في صفاء القلب لا في زخارف الدنيا.
لم يتولَّ إبراهيم بن أدهم منصبًا رسميًا، لكنه شغل مكانة روحية وفكرية بالغة التأثير، ترك أثرًا في أجيال من الزهاد من بعده مثل الفضيل بن عياض، وبشر الحافي، ورابعة العدوية، إذ مثّل الجسر الأول بين الزهد العملي في صدر الإسلام والتصوف الروحي في القرون اللاحقة. ويذكر ابن عساكر في تاريخ دمشق أنه توفي في اللاذقية نحو سنة 160هـ، وقيل في البحر أثناء الجهاد.
تحول إبراهيم بن أدهم لم يكن مجرد توبة من لهوٍ إلى ورع، بل ثورة فكرية على قيم زمانه، وعلى مفهوم السعادة ذاته. عاش في زمن الدولة الأموية حين تداخلت السلطة بالدين، فاختار أن يكون صوت الضمير لا صوت البلاط. كان يرى أن الزهد ليس هروبًا، بل مقاومة صامتة في وجه الاغتراب، وأن إرثه الأخلاقي يشكل نواة لفكرٍ يربط الإيمان بالحرية الداخلية والكرامة الإنسانية.
في تحليل مسار حياته، يبدو إبراهيم بن أدهم نموذجًا لما يمكن تسميته بالتحول الوجودي، فكلاهما — إبراهيم بن أدهم وإبراهيم الخليل — بدأ بالسؤال وانتهى بالتوحيد. وفي هذه المقارنة تتجلى وحدة التجربة الإنسانية في بحثها عن الله، سواء عبر السماء أو عبر أعماق النفس، ويبدو العمل بينهما مشتركًا في المعنى الإيماني العميق، رغم أن إبراهيم بن أدهم لم يزر جنوب الجزيرة العربية، فكانت رحلاته مقتصرة على خراسان والشام ومكة والمدينة فقط، ولم يرد في المصادر ما يشير إلى أنه زار جنوب الجزيرة أو جنوب الطائف واليمن كما يتم روايته في هذا الوقت الراهن من غير أهل العلم والاختصاص ومن غير اهل الدراية فمسار رحلاته واضح ومعلوم في التاريخ والجغرافيا ولكن كما قلنا هي ذاكرة شفهية محلية لاتستند ولاتقوم على علم صحيح وهي من الإضافات المدونات المتأخرة التي لا أصل لها وإنما كان متواجدا في الثغور الشامية حيث رابط وجاهد حتى وفاته .
جاءه رجلٌ يسأله: “ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا؟” فقال: “عرفتم الله فلم تؤدوا حقه، وقرأتم القرآن فلم تعملوا به، وأكلتم نعم الله ولم تشكروه، ودفنتم موتاكم ولم تعتبروا، فكيف يُستجاب لكم؟” هذه الإجابة تختصر فلسفته كلها: أن التغيير لا يبدأ من السماء بل من النفس، وأن الدعاء بلا عمل ليس إلا صدى لوجعٍ بلا إرادة.
حين اشتد عليه الجوع، وجد رغيفًا في الطريق، فجلس ليأكله، فجاءت حمامةٌ فأخذته، فقال لنفسه: “يا إبراهيم، ما الذي جعلك أحق بهذا الرغيف من هذا الطائر؟” ثم تركه لها ومضى. تُظهر هذه القصة عمق فكر العدالة الوجودية لديه، ورحمته بكل كائن، ورؤيته لوحدة الخلق تحت رحمة الله.
لم يكن إبراهيم ناسكًا منغلقًا، بل كان منخرطًا في المجتمع، يشارك في الغزوات لا طمعًا في غنيمة بل طلبًا للشهادة. كان يرى أن الإيمان الذي لا يُترجم إلى فعلٍ هو مجرد خيال، وأن الله لا يريد من الإنسان أن يترك الدنيا، بل أن يعيد ترتيب علاقته بها.
وعندما نقرأ سيرته بعيون معاصرة، نكتشف أنه كان سابقًا لعصره في رؤيته للحرية والإنسانية. تُعد تجربته صرخة متجددة في وجه المظاهر الزائفة، ودعوة لإعادة تعريف النجاح والغنى والسعادة بمعايير أخلاقية وإنسانية.
وقع خلاف في نسبه، فالرواية الأولى (ضعيفة) ظهرت في الوقت المتأخر تقول إنه عربي من بني عتبة (العتبي أو العتيبي)، أما الرواية الثانية (الأصح) فتؤكد أنه من بلخ بخراسان والتي كانت تتبع ، مولى لبني عُجل أو تميم، وهو ما أجمع عليه الأصفهاني والذهبي وابن عساكر.
وتؤكد المراجع أنه زار مكة والمدينة فقط بعد زهده وعبادته، كما ذكر الأصفهاني والذهبي أنه كان يحج ماشيًا ويجاور بمكة أعوامًا، في انعكاسٍ لصدق تجربته وإخلاصه في العبادة.
أجمعت المصادر على وفاته في مدينة جبلة على الساحل السوري قرب اللاذقية سنة 161هـ تقريبًا، وله ضريح معروف يُزار حتى اليوم. وقيل أيضًا إنه مات في البحر أثناء الجهاد، وهي رواية تُعزز صورة الزاهد المجاهد الذي أنهى حياته كما عاشها: سعيًا إلى الله.
زيارته للجزيرة العربية راجحة، ونسبه من بلخ بخراسان مولى لعُجل أو تميم، ووفاته في جبلة سنة 161هـ، وموضع قبره في جبلة الساحلية بسوريا، كما ثبت أنه لم يزر جنوب الجزيرة العربية أو جنوب الطائف، إذ لم يرد ما يؤكد ذلك في أي من المراجع التاريخية الموثقة، فتظل زيارته مقتصرة على مكة والمدينة فقط، وهو ما ينسجم مع طبيعة مساره الروحي المرتبط بالحج والعبادة لا بالسفر التجاري أو السياسي.
أبو نعيم الأصفهاني، حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، ج8، ص13–35. الذهبي، سير أعلام النبلاء، ج7، ص387–393. ابن عساكر، تاريخ دمشق الكبير. الصفدي، الوافي بالوفيات، ج6، ص125. السلمي، طبقات الصوفية، ص22–26. عبد الرحمن بدوي، تاريخ التصوف الإسلامي. زكي مبارك، التصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق. نيكولسون، The Mystics of Islam.
						
			
						