الرصيف
بقلم – جمال بربرى:
في كل ليلة يختار الرصيف الذي سينام عليه.. أحسَ بالاشتياق إلى مذاق اللحم الذي حرمه الفقر منه, هرولت قدماه إلى محل الجزارة, .
أمامه امتد رصيف كبير مشبع برائحة اللحم.
أحضر كرتونة كبيرة، ورش الرصيف بماء من المبرد، ثم أشعل سيجارته، وأخذ يقرأ ما تيسر له من كلمات العشق والحب.
دلف من بين سطور الكلمات، وهام في فضاءات الأحلام.
بحث عن حب بقي حتى الساعة رهين محبسي الفقر والخوف, هذا الخوف من مجرد التفكير بالتعلق بفتاة يمكنها أن تشعل جذوة العشق والحب بداخله.
على هذا الرصيف الذي تقاسم مع الكآبة عملية امتصاصه، كان ينظر كالعادة إلى كل عابرة تمر أمامه, يتفحص جسدها وصدرها ومؤخرتها، لكنه يحرق صورتها في عينيه بمجرد أن تختفي من أمامه، ويبدأ في التقاط صورة جديدة لأول عابرة تمر أمامه من جديد.
كان يكتفي بمتابعة العابرات دون أن تتحرك شهوته أو يسيل لعابه , ربما لأنه كان دائماً مشغولاً بالهرولة خلف لقمة العيش منذ نعومة أظفاره.
فوضع قلبه في تابوت النسيان، حتى لقب بالقلب الميت.
مثل كل الشباب حَلُمَ بدخول الجامعة، لا من أجل الحصول على شهادتها، بل ليعيش قصة حب، تحمله إلى عالم الأحلام والرومانسية.
غط في نوم عميق، وتحوّل الرصيف إلى فراش من حرير على قارب يعبر نهر السعادة، تسمع أذناه أنشودة لموسيقى عذبة قادمة من السماء، وصوت أمواج البحر مع كلمات من حبيبته جعلته يقفز فرحًا ، ويرمي بجسده في النهر.
أفاق على ضربة قوية على عنقه من الشرطي الذي يمر بالليل حتى يفيق لما كان عليه في واقعه البائس.
يجمع أشلاءه المبعثرة من تلك اللحظة، ويحاور كعادته المخبر والعساكر بأسلوبهم ليتركوه ينام على الرصيف بأمان، ويغطى جسده بأكياس من الأحزان والهموم.
سحب من تحت وسادته قلماً مشبعاً بالهموم، وورقة بيضاء في انتظار أن يحملها كل همومه، ويكتب فيها كذلك تلك اللحظات الحالمة التي شعر بها منذ دقائق.
اخترق صوت الشيخ عبد الجليل هذا الهدوء.. كان يصرخ:
ــ أنا آخر الرسل .أنا المهدي المنتظر.
هرولت خلف الشيخ فتاة جميلة ترتدي ملابس النوم، يصل شعرها إلى منتصف ظهرها، عيناها عسليتان، ووجهها مشرق حتى كاد يلمع في الظلام.
أمسك بالشيخ عبد الجليل وهدأ من روعه, وأشعل له سيجارة، دخنها حتى غلب عليه النوم، وانتابته رعشة حين لمست يد ابنة الشيخ كفه.
حمل الشيخ عبد الجليل على ظهره، وأعاده إلى بيته، وكلمات الإعجاب من بنت الشيخ تحفه , وحين وضعت يدها الرقيقة على عنقه التي تحملت كثيراً، آخرها الحذاء العسكري، شعر بسعادة لم يعرفها مطلقاً.
كلما انتصف الليل خرج الشيخ عبد الجليل للصراخ بتلك الكلمات، كأنه يرتب لموعد غرام بين ذاك المتوسد للرصيف وابنته.. جمعهما الحب على الرصيف.
في ليلة انقطع التيار الكهربائي عن المنطقة بأكملها، انتظرها أن تأتي، انتظر صوت الشيخ عبد الجليل طويلاً حتى مضت سبع ليالٍ.. وأخيرًا خرج الشيخ، لكنها لم تخرج خلفه.
قال في نفسه: ربما تكون مريضة.
حمل الشيخ، وذهب به،وأخذ يطرق الباب، فإذا برجل يخرج عليه بملابسه الداخلية، زاعقاً في الشيخ:
ــ خلاص، كفاية فضايح كان يوم زفت يوم ما أتزوجت بنتك.
أحسن أن الخرس عقد لسانه.. عاد إلى الرصيف، واحتضنه، ثم نام.