بقلم / الشريف محمد بن علي الحسني
شهدت الآونة الأخيرة تداولًا لمقالٍ نُسب إلى المفكر الكبير الدكتور مصطفى محمود، يحمل عنوانًا استفزازيًا هو: “ما حاجة البشرية إلى الإسلام طالما أن كل شيء فيه محصور في بني هاشم؟”، ومؤرخ بتاريخ 20 يونيو 2025م. ولأن هذا المقال لا يخلو من مغالطات فكرية ومنزلقات مذهبية صارخة، ويُمثل تشويهًا صريحًا لفكر أحد رموز الفكر الإسلامي الحديث، كان من الواجب الوقوف عليه، وكشف زيفه، والرد عليه بمنهجية علمية موثقة.
أولًا: المقال مزيّف
إن أول ما يلفت النظر في هذا النص هو بطلان نسبته إلى الدكتور مصطفى محمود جملةً وتفصيلًا. فالرجل قد تُوفي إلى رحمة الله في عام 2009م، ولم يُعرف عنه كتابة أي شيء بعد هذا التاريخ، وهذا كافٍ من الناحية التاريخية لإسقاط نسبة المقال.
لكن الأمر لا يقف عند هذا الحد؛ فأسلوب المقال وتوجهاته لا تمت بأي صلة إلى روح فكر الدكتور مصطفى محمود، الذي عُرف في كتبه وبرامجه بنزاهة الطرح، وعمق التأمل، واحترام المقامات الدينية، خاصة مقام أهل البيت عليهم السلام. بل إن الدكتور مصطفى نفسه من السادة الحسينيين، من سلالة الإمام الحسين بن علي رضي الله عنه، فكيف يُعقل أن يطعن في مقام أهله وسلفه الصالح، وينتقص من قيمة آل البيت الذين طالما دافع عنهم ورفع من شأنهم في أحاديثه ومؤلفاته؟
ثانيًا: المغالطة الكبرى
من أعظم ما حمله هذا المقال من انحرافٍ فكريٍّ، هو اتهامه للإسلام بأنه “حصر النور والهدى والخلاص في بني هاشم”، وكأن الدين قد أُسس على عنصرية نسبية أو امتياز وراثي، والعياذ بالله. وهذا طعن صريح في عدالة الرسالة، وتجاهل متعمد لما جاء به القرآن الكريم من نصوص صريحة تؤكد أن ميزان التفاضل هو التقوى والعمل الصالح، لا النسب أو العرق.
قال الله تعالى:
“إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللّهِ أَتْقَاكُمْ” [الحجرات: 13]
وقال أيضًا:
“وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى” [محمد: 17]
وهذا يدل على أن الهداية متاحة لكل من سعى إليها، بصرف النظر عن نسبه أو قبيلته.
ولكن في ذات الوقت، فإن الله سبحانه وتعالى قد اصطفى من عباده من شاء لحمل الرسالة، قال تعالى:
“اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ” [الأنعام: 124]
فالنبوة ليست عطاءً بشريًا، بل اختيارٌ إلهي، والاصطفاء ليس تمييزًا عنصريًا، وإنما اختيار لِمن استحقه. ومن الخطأ الفادح الخلط بين عموم الهداية لجميع البشر، وخصوصية الرسالة التي اصطفى الله لها بني هاشم من ذرية إبراهيم عليه السلام.
ثالثًا: مناصب بني هاشم لم تكن سلطة دنيوية
إن كاتب المقال – أو من لفّق كلامه – يغفل عمدًا أن بني هاشم لم ينالوا من الإسلام امتيازًا دنيويًا، بل كانوا أكثر الناس ابتلاء وتضحية. فالذين قُتلوا وسُجنوا وشُرّدوا بعد وفاة النبي ﷺ كانوا من أهل بيته، ولم يكونوا من أصحاب النفوذ والسلطان.
أليس الإمام الحسين قد قُتل شهيدًا في كربلاء؟
أليس زيد بن علي صُلب، ومُثّل بجسده؟
أليس محمد النفس الزكية غُدر به في المدينة؟
فأين الامتياز وأين النفوذ المزعوم؟
لقد دفع بنو هاشم ثمن الوفاء برسالة النبي ﷺ من دمائهم وأعمارهم، ولم يجعل الإسلام من الهاشمية درعًا للحصانة أو مفتاحًا للنجاة، بل كان الاتباع للحق هو المعيار، مهما كان النسب.
فالإسلام لا يؤمن بفكرة “الخلاص العرقي”، بل يعتبر أن كل إنسان مسؤول عن نفسه:
“كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ” [المدثر: 38]
رابعًا: الخلط بين المذهب والدين
يتضح من لهجة المقال أنه متأثر بمدرسة معينة – وتحديدًا الروايات المنقولة عن المذهب الإمامي الاثني عشري – التي تُضيق دائرة النجاة والحق في سلالة معينة فقط، وهذا لا يُمثل الإسلام ككل، ولا حتى عموم المذاهب الشيعية.
فالمذهب الزيدي – وهو مذهب شيعي أيضًا – له رؤية مختلفة تمامًا في مسألة الإمامة، ويُخالف الإمامية في الكثير من النقاط، ولا يُقصي بقية الأمة من فهم الدين.
أما جمهور أهل السنة والجماعة، فقد أجمعوا على توقير آل البيت ومحبتهم، لكنهم لم يحصروا الدين فيهم، بل عدّوا الإيمان والاتباع هما الأساس.
القرآن محفوظ بفضل الله، والشريعة واضحة وميسرة، ومن اتبع رسول الله ﷺ فقد اهتدى، سواء كان هاشميًا أو حبشيًا، عربيًا أو أعجميًا.
خامسًا: المقال يحمل نَفَسًا شعوبيًا
يظهر في ثنايا المقال نوع من الحقد المبطّن على آل البيت، وتلميحات تنال من مقامهم، وكأن الاصطفاء النبوي أمر يُستحق النقد، لا الفهم. وهذا امتداد لنزعة شعوبية قديمة، لطالما أرادت أن تُقصي مقام النبوة من أهله، وأن تُلبس الهجوم على الاصطفاء ثوبًا من العقلانية الزائفة.
لكن هذا الهجوم في جوهره ليس اعتراضًا على الدين، بل رفضٌ لحكمة الله في اختياره. والاعتراض على الاصطفاء الرسالي هو في حقيقته طعن في ربانية الرسالة لا في عدالتها.
خاتمة
إن عدالة الله لا تتنافى مع الاصطفاء الرسالي، بل تُكمله. فاختيار الله لآل بيت النبي ﷺ لحمل الرسالة ونصرتها لا يُعني بأي حال من الأحوال أنهم وحدهم طريق النجاة، بل يعني أنهم قدوة في العمل، ومصدر نور في الفهم، ومقامهم في الأمة مقام المحبة والاقتداء لا التفرّد ولا التسلط.
أما من افترى وزوّر، ووضع على لسان الموتى ما لم يقولوه، فليعلم أن الله سائلُه، وأن الزيف لا يُثبت حقًا، وأن الكذب على الأموات من أعظم المظالم، قال تعالى:
“وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ” [الإسراء: 36]