مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الدكتورة عزة شبل تبحر في قصيدة للمبدع الدكتور نجدي عبد الستار بعنوان (قلادة عاشق)

طاقات الإبداع الشعرى الأكاديمي
بقلم الدكتورة – عزة شبل محمد
أستاذ اللغويات المساعد بكلية الآداب في جامعة القاهرة

عزيزي القارئ لقد قدمت لك في مقالة سابقة قراءة في رواية (جوهرة) لناقد أكاديمي هو الأستاذ الدكتور حسن البندارى، فرأينا نوعُا جديدًا من الإبداع الأكاديمي الروائي المتميز الذى يعرف قلم صاحبه موضع الكلمات. واليوم سنبحر في قصيدة مع مبدع أكاديمي آخر، هو الدكتور نجدى عبد الستار، فنرى كيف تُنتِج الطاقة الإبداعية الأكاديمية النص الشعرى، فتحوله إلى لوحة فنية بديعة محكمة البناء يصورها الخيال، ودفقة شعورية يطلقها الشاعر لتستقر في وجدان المتلقي.

قد يهمك ايضاً:

أيها العابرون

عند وعدي

قلادة عاشق
ها قد اشتريت قميصا جديدا و بعضا من العطر المفضل
ورسمت على شفتي ابتسامة تداري جرح الغياب
ووقفت كي ألتقط لنفسي صورة
لم يرض أحد من المارة أن يلتقطوها لي
كان كل واحد ينظر لي مندهشا و يكمل الطريق
وحدي حاولت لكني في كل مرة أفشل أن أظهر لك القميص
أن أظهر لك عطري المتراكم عليه
كنت أدرك أنك حين تحملين صورتي بين يديك ستشمين عطري
لكن المحاولة فشلت و لم تبق إلا ابتسامة كاذبة
هل أعجبتك الصورة ؟ و هل مسحت دمعة من عينيك ؟
بوركت أناملك العشر فكم مسحت من عيني دموعا حين ضمت يدي
هل أعجبتك أم أعيد التقاطها مرة أخرى ؟
سأفعل لعل أحدا من المارة يوافق و يلتقطها لي
سأرسلها لك في صباح يوم قادم و ستصلك و أنت تحتسين حلم اللقاء
هل أعجبتك القهوة ؟ أرى ابتسامتك مع كل رشفة
بعد أن تريها لا تضعيها على المنضدة بجوارك فلربما تذروها الريح
ولا تعلقيها على جدار أصم
علقيها كقلادة على صدرك كي أعد نبض الاشتياق ..

تبدأ القصيدة بالتقاط المحب أنفاسه، وسعادته بنجاحه فى شراء قميص جديد وبعض من العطر المفضَّل، ورسم ابتسامة على شفتيه مصطنعة تدارى ما بداخله من جرح غياب محبوبته. فيختار الشاعر كلمات ذات دلالات منفتحة، يصف بها العطر بكونه مفضلاً، تاركا للمتلقى تصور مدى شغف المحبوبة وتطلعها إلى الحبيب، وقد سبقت حاسة الشم كل الحواس، فهى الحاسة الرئيسة التى تعمل حتى فى غياب الرؤية، فيتجاوز عملها المسافات والأمكنة. ويكمل الشاعر الصورة بكلمة أخرى منفتحة الدلالة الزمنية، ألا وهى كلمة (الغياب)، فلا نعلم مدة هذا الغياب، فلربما كان للحظة من الزمن أو كان لسنوات طوال. وقبل أن ننتقل إلى خيط آخر من خيوط الحكى نرى المبدع قد نجح فى استلهام التراث الدينى فى صدارة ذلك المطلع، بتوظيفه التناص مع قصة (يوسف) عليه السلام، وكيف اشتاق أبوه إلى رؤيته، وعندما شم قميصه، وجد ريح يوسف، وارتد إليه بصره وعادت إليه سعادته وروحه. بداية ذكية من الشاعر؛ لتوظيف التناص الدينى داخل الشعر الرومانسى، وسر تميزها لا يكمن فى استحضار تلك الصورة التراثية المستقرة فى وجدان القاعدة العريضة من الجمهور، بقدر ما يكمن فيما يتبع ذلك الاستحضار من تأثير وجدانى عميق ومرجو فى الوقت ذاته، يمتد شعوريًّا وزمنيّا على طرفى النقيض، من الإحساس بالفقد إلى فرحة تمنى اللقاء.
وبعد رسم تلك الصورة البصرية التى قدمها الشاعر من خلال الاستعداد المظهرى بارتداء القميص الجديد، ووضع العطر المفضَّل لديها، بدأ المحب ينتقل بنا إلى نوع آخر من الصور داخل القصيدة، وهى الصورة الوجدانية للقاء المحبوب، التى تعبر عن الاستعداد النفسى. ولكن كيف يسعد بهذا اللقاء، وبداخله جرح الغياب، إذن عليه أن يرسم على شفتيه تلك الابتسامة المصطنعة التى سوف يدارى بها ذلك الجرح. وهنا كان الاختيار المعجمى لكلمة (رسمتُ) متناغمًا فى سياقه مع عملية القصد إلى مدارة الجرح. فقد كانت تلك الابتسامة الظاهرية التى وضعها على شفاهه ابتسامة من نوع خاص، ليس مصدرها السعادة، وإنما كانت قناعًا يدارى به مرارة الزمن المنقضى بعيدًا عن المحبوبة.
وبعد أن رسم تلك الابتسامة المزعومة، وارتدى قميصه الجديد، ووضع عطره المفضَّل؛ وقف كى يلتقط لنفسه صورة. لم يرض أحد من المارة أن يلتقطها له، فقد كان كل واحد ينظر إليه مندهشًا، ويكمل الطريق. ونكمل معه القصة التى بدأها بعملية التشويق. لماذا يلتقط هذه الصورة لنفسه؟ سنعرف الإجابة مع نهاية القصيدة، لكن الشاعر لا يفتأ يستخدم الكلمات منفتحة الدلالة فى ذلك المقطع السردى أيضًا، من هم المارة؟ وما هذا الطريق؟ فتثير الكلمات العديد من التساؤلات داخل ذهن المتلقى. لماذا لم يرض أحد من المارة التقاط صورة له، ولماذا ينظر كل واحد منهم إليه مندهشا؟ يا ترى ما سر هذا الاندهاش؟ ولمَ يتركه المارة ويكملون طريقهم؟ أكان مقصودًا أن يشعر القارئ بأنه صار وحيدًا لا أحد يستطيع أن يساعده ممن حوله، أم أراد أن يقول إن كل المحبين تحولوا إلى مارة به على طريق الحب ذاته؛ لذا فهم فى حالة دهشة من أمره، فحاله مثل حالهم، فهم مثله، وهو مثلهم، لكل منهم شأن يغنيه؛ ومن ثمَّ فكل واحد منهم يتركه ويكمل الطريق فى صورة حركية.
كان ذلك المقطع الشعرى السردى محملاً بتساؤلات ضمنية مكثفة تم توظيفها بشكل مبهر؛ إذا أنتجت نوعًا من الأساليب غير معتاد فى النظم الشعرى، ألا وهو الحوارية الضمنية، ونقصد به تقديم الحوار بشكل ضمنى يُفهم من السياق، دون عملية التصريح المباشر به. وهذا النوع من الأساليب الحوارية أكثر تكثيفًا وملاءمة للنوع الأدبى (الشعر)؛ لأنه يتجاوز نص الحوار المباشر، ليضع القارئ أمام نتيجة هذا الحوار غير المذكور، الذى انتهى بعدم رضا أحد من المارة الذين سألهم المحب التقاط صورة له. ويربك المبدع معه القارئ، أكان الاندهاش من المارة كما هو وارد فى عالم النص، أم أن الاندهاش شعور تولد لدى المحب كرد فعل لانصراف المارة عنه، وعدم رضا أى واحد منهم عن التقاط الصورة. ويزداد الموقف تعقيدًا بتلك المقابلة التى عقدها الشاعر بين دلالة الفعلين (وقفتُ، ويكمل الطريق)، فهى دلالة تقابل بين حدثي الوقوف والحركة، وتقابل زمنى آخر بين دلالة الماضى ودلالة المضارع. وباستخدام تلك الدلالات المتوزعة بين الماضى والحاضر التى يتضافر معها دخول شخصيات جديدة إلى عالم الحكى، يتحرك العالم السردى داخل القصيدة، فتتخذ البنية الشعرية من النوع الحكائى قالبًا لها، وتستبدل القصيدة ببنيتها السطرية المائزة للنوع الأدبى الشعرى، بنية مشهدية، مائزة لنوع أدبى آخر هو الحكى، فتتداخل البنية العليا للأنواع الأدبية فى تناغم سحرى سلس يزاوج بين ما يحققه كلا النوعين من وظائف التواصل والتأثير فى المتلقى.
وفى المشهد التالى يؤكد المحب وقوفه وحيدًا محاولاً التقاط صورة ، لكن هيهات، فإن محاولاته تبوء بالفشل فى كل مرة، يفشل فى أن يظهر لها القميص، ويفشل فى أن يظهر لها عطره المتراكم عليه. وهنا تظهر تقنية جديدة من التقنيات البلاغية يتلاعب بها الشعراء المجيدون، مستخدمين تراسل الحواس الذى يسهم المجاز فى بنائه. فقد جسَّد الشاعر عطره (المتراكم)، فغيَّر من خصائصه الفيزيقية، وحوله عن طبيعته إلى طبيعة مرئية تراها العين متراكمة فوق بعضها، محاولاً التقاط صورة له؛ ليعطيها لمحبوبته، فترى عطره الذى لم يضعه مرة، بل وضعه مرات ومرات من أجلها، ووصف العطر بكونه متراكمًا يزيد عمق دلالة اشتياقه إلى محبوبته، وتجافى هذا اللقاء منذ أمد بعيد.
لماذا يصر المحب على إظهار عطره فى الصورة؟ صورة جديدة يفاجأ بها الشاعر جمهوره من القراء. فقد كان يدرك أن محبوبته حين تحمل صورته بين يديها سوف تشم عطره. عندئذ ينتقل بنا الشعر إلى مشهد حكائى آخر. فبعد أن رسم المحب صورته للقارئ فى المشهد السابق على افتراض عملية الإرسال، رسم فى هذا المشهد صورة محبوبته، وهى تحمل صورته، وتشم فيها عبيره فى عملية استقبال مُتمنَّاة، ومع هذا المشهد المستقبلى المأمول كان لابد من تحويل الزمن فى الحكى، لننتقل مع الشاعر إلى تخيل كيفية استقبال المحبوبة صورة المحب بكل شوق وشغف معبرًا عن ذلك اللقاء بقوله: (كنت أدرك أنك حين تحملين صورتى بين يديك ستشمين عطرى)، ولكن المحاولة فشلت، ولم يبق إلا ابتسامته الكاذبة التى اتخذ منها ستارًا يوارى به سوءة جرحه.
ويستمر المبدع فى إدهاش قارئه عبر قفزات فى الحكى، ووجود فجوات نصية، التى تثير خيال المتلقى فيكملها كما يحلو له. ففى المقطع التالى من الحكى، يوجه المحب تساؤلاته للمحبوبة، وعلى الرغم من انتهاء المشهد السابق بالتأكيد على فشله فى التقاط الصورة، فإذا به يفاجأ المتلقى بسؤال المحبوبة عن رأيها فى الصورة، وهل أعجبتها، وهل مسحت دمعة من عينيها، داعيًا لها بالسعادة، فلطالما مسحت تلك الأنامل العشر من عينه دموعًا حين ضمت يده. فتتعانق هنا حاسة اللمس مع الحواس الأخرى فى إظهار مدى تأثير اشتياقه إليها، فعندما تضم يده بين يديها تحتويها، وتحتويه معها، ولا شك أن المجاز المرسل بدلالته على علاقة الجزء بالكل يلعب دورًا بليغًا فى بناء تلك الصورة الشعرية.
يؤكد الشاعر وصول صورته إلى المحبوبة بسؤاله لها، هل أعجبتها، أم يعيد التقاطها مرة أخرى، وأنه سوف يفعل راجيًا أن أحدًا من المارة يوافق ويلتقطها له. إدهاش وإرباك للمتلقى فى الوقت نفسه. هل كان وصول الصورة لمحبوبته حقيقيًّا، أم كان على سبيل التمنى؟ وحقيقةً فإن كلا الاحتمالين خيال فى مخيلة الشاعر، لكنه سوف يحوله إلى حقيقة. فنرى المشهد الأخير من الحكى يسيطر عليه الزمن المستقبلى القريب، الذى يحمل الأمل فى اللقاء، ويعبر عنه اختيار أداة المستقبل القريب (حرف السين) المتصل بتلك الأفعال: (سأفعل..سأرسلها لك فى صباح يوم قادم وستصلك وأنت تحتسين حلم اللقاء). وينتقل الشاعر من مشهد إلى مشهد، ومع تلك النقلات يتحول من حالة شعورية إلى أخرى. فبعد أن طالعنا المشهد الأول بابتسامة كاذبة يدارى بها جرح الفراق، نجده فى هذا المشهد قد تغير وتبدَّل حاله إلى الشعور بالتفاؤل بقرب اللقاء، منتقيًا كلمة (الصباح) للدلالة على الأمل، وأنه سيبعث فيه صورته إليها، وأن وصول صورته إليها سيوافق احتساءها حلم اللقاء.
أراك عزيزى القارئ تتوقف معى عند تلك الصورة المركبة (وأنت تحتسين حلم اللقاء، هل أعجبتك القهوة، أرى ابتسامتك مع كل رشفة). فنرى جمال التصوير فى تشبيه اللقاء بالحلم، يتداخل معه تراسل الحواس فى بناء صورة احتساء ذلك الحلم، ثم ترشيح الصورة بمجاز آخر يقوم على الاستعارة فى الجمع بين القهوة واللقاء، ليصل ذلك المشهد المحسوس القائم على حاسة التذوق ذروته من التأثير المرجو، وتتعانق حاسة الرؤية مع حاسة التذوق، عندما يرى المحب ابتسامتها مع كل رشفة. وأعود لأسألك أيها القارئ الكريم هل يرى الشاعر ابتسامة محبوبته بالفعل؟ أم أنه يتمنى رؤيتها؟
إن الشاعر بارع فى الانتقال بالمتلقى عبر الأزمنة الماضى والحاضر والمستقبل فى سهولة ويسر؛ ليرسم لنا تلك الدفقة الشعورية المحمَّلة بالاشتياق إلى محبوبته. فيطلب منها بعد أن ترى الصورة ألا تضعها على المنضدة بجوارها مثلما يفعل المحبون، فهذا المكان الذى يبدو قريبًا على المستوى المادى، فإنه بعيد وجدانيًّا، كما أنها لو وضعتها على المنضدة بجوارها فلربما تذروها الريح، ويطلب منها كذلك ألا تضعها على جدار أصم، وإنما مثلما يفعل العاشقون، تعلقها كقلادة على صدرها كى يعد نبض الاشتياق.
ويأبى المبدع إلا أن يترك قلمه دون أن يقدم لنا تلك الصورة المجازية المركبة، حيث تستقر صورته على صدر المحبوبة كالقلادة تتجمل بها، ويكون بقربها، فتتحول تلك القلادة عبر تشبيه مضمر إلى جهاز قياس نبضات كالذى يستخدمه الطبيب، لكنه جهاز مخصوص، لأنه سيعدُّ به مرات الاشتياق، اشتياقها له، واشتياقه لها، فهو اشتياق متبادل؛ لذا اختار له الشاعر صيغة المصدر دون الفعل.

اترك رد