الدكتورة سهير صفوت تكتب عن الصيام ومعانيه الاجتماعية التي تخفى على كثير من الناس
المعاني الاجتماعية للصيام
د. سهير صفوت
رمضان شعيرة من أعظم شعائر الإسلام، ومظهر من أجلّ مظاهره، تتجلى فيه من المعاني الإنسانية والاجتماعية ما ينشرح له الصدر، وهو عبادة اشتملت على خصائص تربوية جليلة اقتبس منها الموجهون والمصلحون أسراراً عظيمة، وفوائد جليلة، صحية وسلوكية واجتماعية وإحساس بعوز الآخر.
والصوم مدخل واسع إلى تحقيق معاني كثيرة تحتاج إليها مجتمعاتنا الإسلامية المعاصرة ومن أهمها التكافل الاجتماعي.. يقول الرسول – صلى الله عليه وآله وسلم – : “إنه شهر المواساة وشهر يزداد فيه رزق المؤمن، مَنْ فَطْرَّ فيه مؤمناً كان مغفرة لذنوبه، وعتقاً من النار “. ويقول أيضًا: ” من سقى صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة” رواه ابن خزيمة في صحيحه.
والأدبيات النبوية تؤكد أن شهر رمضان مدرسة للمسلمين تنمي في نفوسهم الإيمان، وتعمق التقوى، وتوثق الصلات بين أبناء المجتمع، خاصة في وقت يعاني المجتمع فيه من حالة فقدان التوازن الاجتماعي بين الفقر والغنى، والعدل والظلم، وما يفرزه ذلك من الصراع والاقتتال، فتقسو الحياة.
لكن الصيام يمنح المسلمين التقوى، وبالتالي يُعيد التوازن إلى المجتمع، ويقضي على الطغيان المنتشر بين أفراده، وينطلق المسلم بما يمتلك من التقوى للعطاء بلا حدود، فينمو لديه الحس الاجتماعي ويدرك أهمية وقيمة النعم التي لا يدرك معناها في الأيام العادية، حيث يحدث بعض الكفران بتلك النعم فلا يتم الالتزام بحقوقها الاجتماعية وسط حالة من طغيان المادة وكثرة المغريات التي تجعل المرء لا يرضى ولا يكتفي بل يتطلع للمزيد فيفقد الإحساس بالنِعم التي بين حباه الله بها ، وهنا يأتي الصوم ليضع النِعمة حيث أراد المُنعم عزّ وجلّ، وتظهر قيم البذل والعطاء مهما كان المبذول قليلًا حتى لو كان شربة ماء يتجرعها صائم وقت الإفطار.
وعندما يدين الإنسان بالإسلام فإنه يعني إلتزامه أمام الله بأركان الإسلام المعروفة: ((بُني الإسلام على خمس ، شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وصوم رمضان وحج البيت من استطاع إليه سبيلاً)) أخرجه البخاري. ويعني التزامه تجاه الناس بالسلم والأمان ففي الحديث الشريف: ((إذا أصبح أحدكم صائماً فلا يرفث ولا يجهل فإن إمرؤ شاتمه أو قاتله فليقل إني صائم إني صائم)) رواه البخاري.
وهذا يعني أنه بالصيام يدخل الإنسان في باب السلامة فيسلم منه الناس بوائقه، لأن الصيام يهدئ الأعصاب، ويساعد على الجنوح للخير والمعروف، وينهي عن ارتكاب المنكرات وهو ما يسهم في رفع روح التسامح والوئام بين أفراد المجتمع، وما أحوجنا إلى هذه المعانى خاصة في مجتمع أضحى العنف فيه لغة الحوار والتعامل بين الأفراد مما زاد من الصراعات والمشاحنات وزاد معه التوتر المجتمعي.
وتشير آيات التكليف بالصوم (( يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلم تتقون(183) )) سورة البقرة . وقوله تعالى ((شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه ومن كان مريضاً أو على سفر فعدةٌ من أيامٍ أخر يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون (185))) سورة البقرة. وتنبّه الآية إلى وظيفة الصوم التي ترتفع عن طابعه الشكلي إلى وظيفته السلوكية التربوية، فليس الهدف إذن المشقة وتعذيب النفس، وإنما الهدف تعويد المسلم وامتحان إرادته تجاه نفسه وغرائزها، فيتعلم كيف ينظم وقته ويرشد استهلاكه واحتياجاته، وتجاه مجتمعه فيتعلم كيف يعطي المحتاجين والفقراء.
والشعور بالجوع خلال الصوم واستشعار نعمة التمتع بالطيبات عند الفطر تُذكر المسلم بالجائعين في رمضان وفي غير رمضان وهو ما ينمي في النفس معنى الرحمة، لأن من قواعد النفس أن الرحمة تنشأ من الألم، وهذا يفسر السر الاجتماعي الخطير لفريضة الصوم الذي يبالغ أشد المبالغة في منع الغذاء عن البطن مدة النهار، فيُعلم النفس بطريقة عملية أهمية عدم ترك الفقير نهبا للجوع والمرض، ومتى تحققت رحمة الجائع الغني بالجائع الفقير أصبح المجتمع مجتمعا إنسانيا للرحمة فيه سلطانها النافذ، فتخبو ثورة الفقير وتعُمّ المساواة ويصبح المجتمع المسلم بالصيام مجتمعاً ملائكياً.
ويُكسب الصيام المجتمع الأسري معنى يسوده الدفء والمودة مما يسهم في إعادة الوشائج والعلاقات بين أفراد الأسرة والتي من الملاحظ أنها اندثرت تحت وطأة التغيرات الاقتصادية والاجتماعية مما زاد من طغيان المادة الأمر الذي أدى إلى انقطاع العلاقات وتمزق الروابط، فيأتي الصيام ليعيد تماسك الأسرة ويهييء التعاون بين أفرادها.. نلمس ذلك في لحظة تجمع أفراد الأسرة وجلوسهم لترقب لحظة الغروب، وكذلك اشتراكهم في إعداد المائدة في جو من الحب والوئام.
ويرتبط الصوم في رمضان بمعالم لا ينبغي أن يتخلى عنها أحد، ومن بينها صلاة التراويح والتي يسهم أداءها في تخفيف حدة الفردية والانعزالية التي اتسمت بها الحياة المعاصرة، فالمطلوب هو إقامة جسر من العلاقات الاجتماعية المتسمة بالشفافية والصدق والتعايش.
وزكاة الفطر التي هي علاقة اجتماعية مؤثرة تعني بتأدية حق المحتاج أيّا كان، وأداء الزكاة إسهام فعال في تكوين شخصية المسلم في بعدها الاجتماعي والأسري ((يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم (215))) سورة البقرة : الآية 215
تلكم هي بعض المعاني الاجتماعية التي يُكسبنا إياها الصوم، وليكن شهره العظيم تجارة رابحة مع الله، يشعر فيها الغني بالفقير، ويلتزم فيها المرء بالمعاني السامية متأسياً بقدوة البشرية ومعلمهما في بث روح الرحمة وإشاعة التكافل بين المسلمين.