التراثُ هويةٌ وحياة
بقلم/ د. حنان شكري
في ظل الحراك العالمي لتأصيل الأفكار الغربية، وانتشار العولمة، تلك الرؤى الحديثة التي تسعى إلى عملية إذابة العالم العربي في الفكر والثقافة والعادات الغربية، والعمل على تنميط دول العالم الثالث وطمس هويته، يتحتم علينا أـن نعي هذه التحديات، ونعمل للنهوض نحو آفاق جديدة تحفظ علينا حضارتنا، وتمدّ جسور الصلة بتراثنا، وتصلنا بأسباب الرقي والتقدم الحضاري الأصيل؛ حتى نستعيد تألق وعزة الحضارة العربية، ونمكّن لهُويتنا وخصوصيتنا.
ولعل من أهم أساليب استعادة الخصوصية الثقافية، الحفاظ على تراثنا العربي كأحد المقومات الأساسية والأصيلة لتحقيق الهوية العربية والحضارية، فهذا التراث يمثل ركنا أصيلا لمواجهة محاولات مسخ الهوية، وتهوين ميراثنا الفكري، وكياننا الحضاري الذي امتد من الشرق إلى الغرب؛ ليضيء العالم، ويمنحه الحياة.
وانطلاقا من تلك الرؤية، وإيمانا برسالة العلم الحقيقية، أنشأت جامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا منذ عام 2010 ، مركزا لتحقيق التراث العربي، وهي بذلك حققت السبق؛ بل التفرد في هذا المضمار، ففي حدود علمي أنه لا توجد جامعة -لا سيما جامعة خاصة – قامت بهذا العمل الجليل. ويقوم هذا المركز بجهد كبير في المحافظة على التراث العربي، وخاصة التراث العلمي، تلك المنطقة شبه المهجورة من المحققين، والتي تحتاج إلى جهد شاق مستمر.
وكان من الثمار الطيبة لهذا الغرس مجموعة من الذخائر التراثية القيمة، المُحقّق منها والمُترجَم، فعلى مستوى التحقيق – للتمثيل لا الحصر- “كتاب ” لواقح الأنوار في طبقات الأخيار” عبد الوهاب الشعراني، و”مزيل نقاب الخفا عن كُنى سادتنا بني الوفا” مرتض الزبيدي. علاوة على كتاب من أهم الكتب الطبية التراثية على الإطلاق، وهو كتاب ” القانون في الطب” لابن سينا، ذلك الكتاب الذي تُرجم إلى عدة لغات، وطُبع أكثر من مرة، وانطلق من تلك التراجم إلى العالم أجمع ليكون العمدة في تدريس الطب في العالم الغربي على مدى خمسة قرون.
وعلى مستوى الترجمة -على سبيل التمثيل كذلك- كتاب” تاريخ الطب العربي ” للمستشرق الفرنسي” لوسيان لوكير” ترجمة أ.د أسامة عبد الجليل.
كما حقق هذا المركز- بفضل الله – أكثر من جائزة كبرى، ففي العام الماضي، نال المركز جائزة أفضل كتاب محقق لعام 2019م وهو ” تلخيص البيان في مجازات القرآن ” للشريف الراضي تحقيق الأستاذ الدكتور عشري الغول والدكتور أشرف غنام، وإشراف الأستاذ الدكتور أنس عطية الفقي، ومما هو جدير بالذكر حصول المركز هذا العام أيضا على جائزة أفضل كتاب تراثي محقق لعام 2020، من الهيئة العامة للكتاب ودار الكتب والوثائق القومية، عن كتاب “المغني” في الأدوية المفردة لمؤلفه أبو محمد عبد الله بن البيطار”ت 646ه” ، وقد قام بتحقيق هذا الكتاب الأخ المتميز الأستاذ الدكتور محمود مهدي بدوي، عضو مركز التراث البارز، ونائب رئيس المركز، والذي تم تكريمه في المعرض الدولي للكتاب.
وقد اعتمد المحقق د. محمود مهدي على خمس نسخ خطية، علاوة على أنه اهتمّ بضبط النَّص ضبطًا كاملا، وقدّم تعريفا للمصطلحات الخاصة بالأدوية والأدواء، ثم أردف كل جزء مما سبق بمجموعة من الكشافات الدقيقة.
ويعد هذا الكتاب من أهم كتب ابن البيطار، بعد كتابه ” الجامع ” الذي تبدو فيه شخصية ابن البيطار عالم التاريخ الطبيعي، بينما في كتابه “المغني” تتضح شخصية الطبيب الفذ الذي يمتلك أدواته في تحديد الأمراض الباطنة التي تصيب الإنسان موزعة على أعضاء الجسم، بداية من الرأس ونهاية بالقدم، ثم يذكر الأدوية المفردة التي تعالجها. وليس هذا فحسب، ولكنه كذلك يذكر الأمراض الظاهرة ، مثل الأمراض الجلدية وغيرها، ويذكر طرق علاجها كذلك، مستفيدا بما قدّمه السابقون، وما شاهده وجربه بنفسه.
ومما لاشك فيه أن العمل الجاد الخالص لهذا المركز، قد أثرى المكتبة التراثية العربية، ومد جسور الصلة بين الماضي والحاضر لصناعة المستقبل.
كل الشكر لجميع القائمين على مركز تحقيق التراث بجامعة مصر للعلوم والتكنولوجيا، وأخص بالشكر الأستاذ الدكتور أنس عطية الفقي رئيس المركز، لسعيه الدائم للتميز والإجادة، والشكر موصول للدكتور محمود مهدي نائب مدير المركز والفائز بجائزة أفضل تحقيق عن كتاب ” المغني ” لابن البيطار، نفع الله بكم جميعا.