الحلقة الرابعة…جورج والحاخام وكودية الزار الشيخة حبشية
بقلم – محمد حسن حمادة:
قرر (جورج بنجالو) إعادة الكرة مع وافد القصر الجديد الأمير عباس حلمي الثاني
الذي تم استدعاؤه على عجل حيث توج حاكما لمصر وعمره قد تجاوز بالكاد الثامنة عشرة ربيعا وبعد انتهاء حفلة التنصيب ومراسم التتويج طلب (جورج) مقابلة الخديوي الشاب، الذي رسم له صورة وردية عن العالم الجديد وما تزخر به الولايات المتحدة الأمريكية من فرص واعدة كما حدثه عن الاستعدادات الضخمة والمجهودات الخيالية التي تتبناها أميركا ليخرج هذا المعرض في أبهى حلة، وأكد له أن هذه البلاد ستكون محط أنظار العالم في القريب العاجل كما شرح له أهمية المعارض العالمية وضرورة تمثيل مصر في هذا المحفل العالمي فوجود مصر سيحسن صورتها أمام العالم، ويؤكد على أن مصر ليست دولة من الدرجة الثانية حتى بعدما احتلها الإنجليز وعدم مشاركة مصر في هذا الحدث العالمي خسارة فادحة بكل المقاييس، كان (جورج) متعمدا الضرب على هذا الوتر الحساس ليقنع الخديوي بضرورة المشاركة، لكن الخديوي علق موافقته النهائية بعد اطلاعه على تصميمات المهندس (ماكس هيرز) وتصوره لكيفية مشاركة مصر في هذا المعرض الضخم وبالفعل لم ينم (جورج) و(هيرز) وكانا يواصلان الليل بالنهار حتى فرغا من تصميمات جناح القاهرة في معرض شيكاغو في 20 أبريل 1891 وسلماها لسكرتير الخديوي الخاص، وفي اليوم التالي اتصل القصر (بجورج بنجالو) لإبلاغه بتحديد موعد آخر مع الخديوي، استعد (جورج) جيدا لهذا اللقاء، واستطاع ببراعة أن يجيب على كل أسئلة الخديوي ويطمئنه وخاصة أن الخديوي عباس كان لديه بعض التخوفات وخاصة بشأن المسجد.
الخديوي: ما الذي تنوي فعله بالمسجد يا سيد بنجالو؟
بنجالو: يا صاحب السمو، أنا مقدر لقدسية المسجد وسوف أكون حريصا عليه، ولأن الجناح سيكون أشبه بقرية صغيرة خاصة بالمسلمين في شيكاغو، فقد رغبت في أن يكون هناك مسجد لهم يقيمون فيه شعائرهم، وسيكون المسئول عن المسجد ورفع الأذان به هو الشخص الذي تختاره حكومتكم.
الخديوي: أنا سعيد لسماعي هذا التأكيد منك يا سيد بنجالو، فأنا لن أسمح بحدوث أي شيء مماثل لما حدث في جناح (شارع القاهرة) خلال معرض باريس عام 1889، فقد كنت في باريس في ذلك الوقت، ومما أحزنني بشدة أن المسجد الذي أقيم بالشارع لم تحفظ له قدسيته وتم تدنيسه وكان يستخدم في جميع الأغراض باستثناء الصلاة، حتى أنهم حولوا جزءا منه إلى (بازار) ومما رأيته وسمعته في ذلك المعرض، شعرت أن التجربة التي كان من المفترض أن تكون خطوة مفيدة للتعرف على الإسلام، تحولت إلى شيء سيئ لا أستطيع نسيانه.
بنجالو: يا صاحب السمو، إن هدفي الرئيسي كما سبق وذكرت لكم، هو إعطاء العالم فكرة صحيحة عن مصر، وأنا واثق أنه مع وجود ما يشبه مدينة صغيرة تتألف من 200 مصري بما فيهم النساء والأطفال وتشتمل على مختلف المهن التراثية والمنازل المصرية، أستطيع أن أنقل للعالم صورة حقيقية وصادقة عن الأمة المصرية، وهو ما يجعل تجربة المعرض مفيدة وجذابة”.
وفي نهاية اللقاء نجح (جورح) في انتزاع موافقة الخديوي لكنها كانت موافقة مشروطة أيضا إن صدق (جورج بنجالو) ونفذ هذه التصميمات، كما شدد الخديوي على أن (جورج) سينفذ فكرته دون تدخل رسمي من الحكومة المصرية.
كان القدر في صف (جورج بنجالو) ومنحه هدية ثمينة على طبق من ذهب، ففي نفس هذا التوقيت أرسل الرئيس الأميركي (بنجامين هاريسون) دعوة رسمية للحكومة المصرية للمشاركة في معرض شيكاغو، لكن الوضع الاقتصادي المتأزم والاحتلال الإنجليزي رفض مشاركة مصر في معرض شيكاغو حتى لاتظهر مصر في صورة الدولة الكبرى، فأجبرا وزارة المالية المصرية بالرد بشكل رسمي على دعوة الرئيس الأميركي بالرفض بحجة عدم وجود تمويل كاف للمشروع، لكن الخديوي عباس قبل التحدي ولم يرضخ للأمر الواقع وقرر اشتراك مصر في المعرض رغم أنف الإنجليز لكن بشكل غير رسمي، مع تحمله للنفقات المادية للمعرض من حسابه الشخصي.
ومن جديد عاد (جورج) يضرب بقوة فقد كان رجلا عمليا لأقصى درجة سافر على الفور لبلاد العام سام وحصل على الموافقة النهائية وحق امتياز إقامة الجناح المصري بشكل نهائي رغم المنافسة الشرسة من عدة منافسين وسرعان ماقام بتدشين شركة (شيكاغو مصر، شوارع القاهرة) برأس مال بلغ 2250 ألف دولارا، وبعدها عاد إلى القاهرة لتأجير مكتب مناسب في القاهرة حيث داهمه الوقت ولا مفر أمامه إلا البدء الفوري في العمل بتصميمات المباني واختيار مجموعة من الموظفين، فاستدعى (ماكس هيرز) للشروع في البدء الفوري في تصميمات المباني فصارحه (هيرز) بتخوفه من المساحة الضخمة التي خصصت لجناح شوارع القاهرة بالمعرض التي كانت تساوي ربع مساحة القاهرة التاريخية، علاوة على عامل الوقت المضغوط لذلك طلب (هيرز) من (جورج بنجالو) الاستعانة بالمهندس المعماري ذوي الأصول النمساوية (إدوارد ماتاسيك) العضو أيضا بلجنة حفظ الآثار العربية فوافق (جورج) فبدأ (هيرز) و(ماتسيك) الشروع في بناء شارع قاهري بطول 180 مترا يضم 26 مبنى يمثلون القاهرة التاريخية ذات الطراز العربي الإسلامي، ومع الوقت أدرك (جورج) أن جناح شارع القاهرة بمعرض شيكاغو يجب أن يكتمل بمجسم لمعبد فرعوني وخاصة أن الأمريكان لديهم شغف كبير بالحضارة المصرية القديمة، ولهذا الغرض طلب منه (هيرز) الاستعانة بعالم المصريات (ديميتريوس موسكوناس) الذي رحب بالفكرة وفي بداية حديثه سأل (جورج بنجالو) و(ماكس هيرز) كيف تنويان بناء معبد فرعوني دون تماثيل وتوابيت ومسلات فرعونية؟ لذلك اقترح عليهما (موسكوناس) تصميم نسخ مقلدة لأشهر الشخصيات الفرعونية وصناعة توابيت ومسلات ومومياوات من الشمع لملوك مصر القديمة العظام، أنهى (موسكوناس) عمله بعدما يقرب من عامين وبعدما أنجز المعبد طلب منه (جورج بنجالو) نقش اسم الرئيس الأمريكي (جروفر كليفلاند) باللغة الهيروغليفية على إحدى المسلتين اللتين تم وضعهما أمام أبواب المعبد الذي أطلق عليه (معبد الأقصر). لمغازلة الشعب الأمريكي وكنوع من أنواع الدعاية والإعلان لجناح شارع القاهرة، لكن كانت الخطوة الأصعب التي تؤرق (جورج) هي كيفية إقناع المصريين البسطاء من مهن مختلفة للسفر إلى بلاد العام سام؟
كان العمل يجري على قدم وساق وفي خضم التحضير للمعرض وبدون موعد سابق يدخل (الحاخام بنيامين عزرا) كبير الحاخامات بمعبد (موسى بن ميمون) بحارة اليهود وكبير الطائفة اليهودية بمصر ومعه شاب مهندم يطلبان مقابلة (جورج بنجالو). أذن لهما (جورج) ورحب بهما، وبعد التعارف بدأ (الحاخام) بالحديث و(جورج) كله آذان صاغية لفك لغز هذه الزيارة الغريبة، شكر الحاخام (جورج بنجالو) على مجهوداته لرفع اسم مصر عاليا في هذا المعرض الدولي العالمي ولكن أردف الشكر بعتاب رقيق لجورج: كيف ياخواجة (جورج) تخلو هذه المباني والتصميمات التي ستبنى في معرض شيكاغو من أي كنيس أو مجسم يهودي؟ أما العتاب الأكبر الذي وجهه الحاخام لجورج فهو أن: الجناح المصري سيمثله مسلمون ومسيحيون مصريون وليس هناك تمثيلا لليهود! لماذا أسقطت اليهود من حساباتك يا خواجة جورج؟ ونحن جزء أصيل من نسيج هذا البلد؟ فتعلل (جورج) بضيق الوقت وفي المعارض التالية سيتدارك هذا الخطأ ووعد (الحاخام) بتمثيل اليهود فيما هو قادم”. وبكل هدوء يرد (الحاخام) لاعليك يا خواجة (جورج) عذرك مقبول لكن لنا طلب بسيط لديك وأعتقد أنك لن تخذلنا فيه لتبرهن لنا على مدى حرصك على صداقتنا فما زلنا نضعك في خانة الأصدقاء ونحن سنثبت لك أننا نبادلك نفس الشعور وسنوفر لك امتيازات مادية ضخمة وخدمات لا حصر لها في الداخل والخارج ولكن قبل ذلك يجب عليك أن تثبت لنا صدق نواياك بأنك فعلا تريد تدارك خطيئتك لابد أن يكون لليهود تمثيل في هذه الرحلة حتى ولو بشخص يهودي واحد وهاهو صديقنا المشترك (سولومون ليفي) وهو بالمناسبة مرشد سياحي في منطقة الأهرامات ويتحدث الإنجليزية بطلاقة كما يجيد بجانبها عدة لغات ونريدك أن تصطحبه معك في رحلتك وبهذا تكسبنا في صفك”.
(جورج): كان بودي جناب الحاخام تلبية مطلبك لكن الوقت قد أزف وأكرر لكم أنني سألبي مطلبكم في المعارض القادمة.
نهض الحاخام عزرا غاضبا مزمجرا منتفخ الأوداج وبلهجة حادة: إذن أنت تعادينا ياجورج بالمجان، أنت الجاني على نفسك أنت من اخترت وستعرف مصير من يعادينا”. ثم هم وانصرف وفي ذيله (سولومون ليفي).
لم يكترث (جورج) بتهديد الحاخام لكن الذي استحوذ على تفكيره أن اسم هذا الشاب (سولمون ليفي) قد مر عليه من قبل، هذا الاسم يظن أنه يعرفه!
كان على (جورج بنجالو) القيام بحملة دعاية وإعلان ضخمة لمعرض شيكاغو يغرق بها القاهرة لحث المصريين على السفر إلى العالم الجديد فطبع نصف مليون إعلان باللغة العربية يتحدث فيها عن مميزات المعرض والدول التي ستشارك وأهم المنتجات والمخترعات التي ستعرض بمعرض شيكاغو لكن الجزء الأهم كان عن التعريف بالجناح المصري الذي سيقام بمعرض شيكاغو وفي لمح البصر أصبح معرض شيكاغو حديث القاهرة بعدما وزع (جورج) النصف مليون إعلان كما خصص (جورج) عشرين موظفا مصريا يتحدثون عن المعرض ومميزاته والفوائد والأرباح التي سيجنيها المشاركون في المعرض لكن تأتي الرياح بما لاتشتهي السفن فقد سرت شائعة مازال (جورج) يحاول اقتفاء أثرها مفادها: أن الشعب الأمريكي يريد استدارج العرب المسلمين للعالم الجديد لقتلهم وإبادتهم والتخلص من المسلمين كما فعلوا بالهنود الحمر”. أسقط في يد (جورج) فهذه الإشاعة السخيفة كفيلة بوأد حلمه وقتل مشروعه والوقت في غير صالحه وبينما يضرب (جورج) أخماسا في أسداس ويحاول التفكير بشتى الطرق في التغلب على هذه العقبة والخروج من هذا المأزق يطلب الحاخام (بنيامين عزرا) وصديقه (سولومون ليفي) الإذن بالدخول فيستقبله الخواجة (جورج) بامتعاض، عفوا ياخواجة اقتحمت عليك خلوتك لكنني لن أقتطع من وقتك كثيرا، وبتخابث تُرى ياخواجة (جورج) من الذي يقف وراء هذه الشائعة السخيفة التي انتشرت عن معرض شيكاغو؟ ولكنني كما أخبرتك مازلنا نضعك في خانة الأصدقاء وسأثبت لك الآن بالدليل الفعلي وسأدلك على الحل السحري للخروج من ورطتك هذه إن وافقت بسفر صديقنا (سولومون ليفي) بلع (جورج بنجالو) ريقه والتقط أنفاسه وبلهفة شديدة نعم نعم أوافق لكن ليس قبل أن تدلني عن كيفية الخروج من هذه الورطة، الحاخام بابتسامة المنتصر: ليس من السهل إقناع المصريين المسلمين بفكرة السفر لأميركا فمابالك بأنك تريد إقناعهم للسفر والعيش في مجتمع غربي مسيحي بهذه البساطة؟ ولكني سأرشدك للحل السحري ماعليك إلا أن تذهب لرئيس شرطة العاصمة وتشرح له الوضع والمشكلة التي نحن بصددها واطلب منه وضع شرطيين أمام الباب الرئيسي لهذا المكتب واطلب منه أيضا بشكل ودي بأن يصدر أوامره إلى كل مراكز الشرطة الفرعية في القاهرة، أن يؤكدوا للمواطنين: أن شركة شوارع القاهرة التي تنظم الجناح المصري في شيكاغو تعمل تحت سمع وبصر الحكومة المصرية”.
كما أعدك أن نصل لمروجي الإشاعات السلبية عن المعرض وسنقطع ألسنتهم”. كان جورج كالغريق الذي يبحث عن قشة النجاة فنفذ نصائح الحاخام على الفور وفي اليوم التالي كان على باب المكتب الرئيسي للشركة شرطيان فعادت ثقة المصريين بالشركة وتوافد على الشركة جموع غفيرة من المواطنين من شتى المهن طهاة وحواة ومصارعين ومكاريين وكتبة وموسيقيين ورجال دين، وحرفيين ونساجين، وصانعي الطرابيش والأحذية والخيام والحلويات والمجوهرات والخزف، والنحاس والترزية، وبائعي المحار والصدف، وأيضا بائعي العطور، وغيرها من الحرف، أما الظاهرة الأبرز فهي حضور نوبيين وشوام ومغاربة وأتراك وأرمن وأوربيين فكانت سعادة (جورج بنجالو) غامرة بهذه الجنسيات التي تعج بهم القاهرة فبهذا سيكسب الجناح المصري بشيكاغو مصداقية كبيرة وسيكون صورة طبق الأصل من المجتمع المصري، لكن اللافت أن سائقي الحمير كانوا أكثر الفئات التي تملأ استمارات السفر لبلاد العم سام! فعين شخص يدعى (حسن شوربا) كبيرا لطائفة المكارية بجناح شوارع القاهرة، وحسن شحاته وهو أيضا سائق حمير عينه نائبا (لحسن شوربا) المعروف عنه قوته الخارقة للعادة مع دماثة خلقه وبعد أسبوع واحد كان مجموع من وقع على طلبات التوظيف أكثر من مائة وخمسين شخصا.
بدأ جورج التجهيز الفعلي للرحلة فقام بشراء الخيام اللازمة للجناح كما اشترى عشرين حمارا وسبعة جمال بسرجها وأغطيتها الخاصة بها وعدد من القردة والثعابين كما قام بشراء أدوات الزفاف وكل الأدوات التي تخص الموالد كما قام بتصنيع كسوة الكعبة فقد كان ينوي إقامة زفة جمل المحمل والمولد النبوي وإقامة الموالد للأولياء والقديسين والاحتفالات الدينية، حتى الطقوس الشعبية المصرية قرر محاكاتها في قلب شيكاغو.
لكن من أغرب المهن التي تقدمت لجورج وتوقف أمامها كثيرا مهنة (كودية الزار) لم يفهم جورج السيدة حبشية أو كما أطلقت على نفسها الشيخة حبشية التي ملأت طلب استمارة السفر لتحجز مكانا لها في معرض شيكاغو، فاستدعاها (جورج) ليفهم منها حقيقة مهنتها كانت سيدة أربعينية سمراء فارعة الطول ممشوقة القوام ترتدي جلبابا أبيض ومعممة بشال أبيض متشبهة بالرجال وتضع في عنقها ومعصم يدها مجموعة سبح بأشكال مختلفة عيناها واسعتان جميلتان وبقدر جمالهما عيناها مخيفتان أخذت تشرح له وتحاول إقناعه بأنها تقيم حفلات زار لخروج الأسياد والجان والعفاريت وفك السحر والعقد وشفاء المريض وتزويج العانس ورد الغائب وإعادة المطلقة لزوجها وطرد الأرواح الشريرة التي تسكن الجسد وخاصة جسد المرأة فالزار عبارة عن طقوس دينية ورقصات هستيرية على إيقاعات معينة تساعد على الهروب من الزمان والمكان لتطهير الجسد من كل الأرواح الشريرة التي علقت به، لكن بأت كل محاولاتها بالفشل فلم تستطع أن تقنع الخواجة (جورج) بحقيقة مهنتها مما اضطرها لدعوته في الليلة التالية لأحد حفلات الزار التي تقيمها حتى يفهم الخواجة على الطبيعة مهنة الشيخة.
وبالفعل في الليلة التالية ذهب الخواجة (جورج) لبيت الشيخة بالدرب الأحمر مصطحبا معه صديقيه (هيرز) و(محروس السقا) رحبت بهم الشيخة حبشية أيما ترحيب وأجلستهم في مكان منزو بعيدا عن العيون يروا منه كل شيء دون أن يراهم أحد.
بدأت حفلة الزار على إيقاع الدفوف والطبول بنغمات وإيقاعات صاخبة تشبه إيقاعات القبائل الإفريقية، يصاحبها البخور بدأت الأجساد تنسجم مع وقع الموسيقى الصاخبة، نصبوا مقعدا يتوسط حفل الزار لتجلس عليه المريضة الممسوسة من الجن ثم قامت الشيخة حبشية بذبح الذبائح التي طلبتها على رأس الضحية، ثم قامت بتلاوة بعض النصوص والتمائم والتعاويذ، ويردد عقبها الحاضرات ويقلن: دستور يا سيـادي، مدد ياأهل الله ياسيادي، فتزيد الشيخة حبشية إيقاع الدفوف بصورة أسرع، وتغرق المكان بالبخور، ثم بدأن في تبادل الملابس مع الرجال لخداع الأرواح الشريرة ولفك السحر على حد زعم الكودية حبشية، تساقطت النساء واحدة تلو الأخرى وحبشية تصرخ في وجوههن وتخاطب الجان والعفاريت بالخروج من أجسادهن مقابل تلبية طلباتهم وتكون عادة في صورة أموال أو خرفان أو ديوك، بدأ الرجال في حمل النساء وأدخلوهم في غرف مغلقة، لاحظ (جورج) أن السيدة (صوفيا) الإيطالية بينهن فسأل الشيخة حبشية إلى أين يذهبن هؤلاء النسوة؟ فقالت له هل تروق لك إحداهن؟ فأخبرها بنعم، فسألته بتخابث من منهن؟ فقال لها السيدة الأجنبية”. فاصطحبته إلى غرفتها حيث شاهد أحد الرجال يقوم بنزع ملابسها الداخلية، وهم بالتأهب لمضاجعتها، فنهرته الشيخة وقالت له توقف ودعها فليست من نصيبك واتركها للخواجة، فنزل عن جسد السيدة (صوفيا) مكرها ممتعضا من (جورج) فهرع إليها (جورج) على الفور وقام بإفاقتها بعدما ساعدها في ارتداء ملابسها وهم بالانصراف، حاول رجال الكودية منعه فأخرج حفنة من المال ورماها في وجه الكودية فأشارت لصبيانها: علموه الأدب، واغتصبوا عشيقته أمام عينيه، نظير تطاوله على أسياده”. لم ينقذ جورج إلا وقع ضربات على باب البيت وصوت جهوري عال يشتم ويلعن ويحوقل ويستعيذ: ياكفرة، ياعدمات الدين، أوقفوا هذه المساخر أوقفوا هذه الطقوس الشركية وإلا حابلغ البوليس، نجستوا الدرب الأحمر ووصمتونا بالعار ياولاد الشياطين”. وإذ بالكودية تأمر الجميع بالخروج وتأمر صبيانها بفض الزار ومن خلف الباب ترد بوجل وتصنع: حاضر حاضر ياشيخ عبد الهادي تحت أمرك يامولانا، وفي لمح البصر، خرج (جورج) والسيدة (صوفيا) بصحبته تتأبط ذراعة مستندة على كتفه فلم تسترد وعيها بعد، اصطحب جورج السيدة (صوفيا) حتى باب بيتها ولم يطمئن إلا بعدما سلمها لخادمتها، ثم اتجه ليشكر هذا الشيخ الذي أنقذه من براثن هذه المرأة الجهنمية، سأل عن الشيخ، أخبروه أنه ذهب لمسجد السلطان حسن لصلاة العشاء فهو إمام وخطيب لمسجد السلطان حسن، اتجه جورج لمسجد السلطان حسن وانتظر الشيخ الذي لم يخرج من المسجد إلا بعدما فرغ من صلاة العشاء.
شكر (جورج) الشيخ عبد الهادي وأخبره بقصته مع هذه الكودية ثم عرض عليه السفر لمعرض شيكاغو ليكون إماما وخطيبا للمسجد الذي سيبنى في شيكاغو، لم يبد الشيخ في البداية أي حماسة لكن (جورج) طلب منه لقاءً آخر حتى يشرح له العرض بالتفصيل، فوافق الشيخ عبد الهادي، على أن يكون اللقاء بعد صلاة الجمعة القادمة بقهوة الفيشاوي بالحسين.
التعليقات مغلقة.