بقلم – زهرة خصخوصي ” تونس”:
استيقظ على أنامل مطر تطرق سطح الغرفة.
تسارعت دقّات قلبه مهلّلة لرضاب السّماء، وبحركة طفوليّة مدّ كفّه كأنّه يهمّ باغتراف بعضه، لكنّ الجدار الصّلف ذكّره بأنّه أسير الغرفة، فاشرأبّ عنقه نحو السّقف، صفعه البياض الشّاحب، تسّاقطت نظراته على البلاط المنخور جُلّيزه، لتَغرق في فضاء الغرفة الضّيّقة، وتنهال عليه سهام الحقيقة الغاصّة بالألم…
“قابع في الحجر الصّحّيّ…
كم بائس أنت يا نضال، الكون يقيم أعراس الحياة وأنت، هنا، موبوء تسأل القدر امتداد حياة !
الكون يقيم أعراسه، لا شيء يمنع فيه المحافل والأعراس، وأنت، هنا، محجورٌ خطوُك، مؤجّلٌ عرسُك، ممنوعٌ تهليلك لعيد الميلاد !”
واندسّ في الفراش كطفل هارب من ويلات شبح.
تتّسع هوّة الوجع فيه، تسع صداعا وغثيانا وحمّى واختناقات صدر، كم كان لدوافق الهواء يتّسع… !
تضيق الغرفة بالصّمت الرّهيب، يضجّ الصّمت بحشرجة الأنفاس تحت الغطاء الرّهيف، يضجّ الغطاء بحركة الجسد المحموم، والجسد المحموم بما فيه يضيق…
لم يطق نضال مشانق الألم، فاستلّ جسده الوهن من الفراش المتّقد، واتّجه نحو النّافذة بخطى مضطربة.
شردت نظراته خلف عصفور دوريّ يغازل خلّه.
عصفور الدّوريّ المضمّخ ريشه بوهج الحنّاء يقفو خطى خلّه بين الشّجر. الخلّ الحِنّيّ يلاحق عيون الفرح، يسابق الفرح نحو ضياءات المساء.
العصفور الدّوريّ لايغادر خلّه، لا تغفو عينه بين مزق الأنفاس وصولات الأنين، لا تحتجب عن درب خلّه مسارب الخطى…
تابعت نظرات نضال عصفور الدّوريّ مختالا في غمرة حبور سرمديّ، يقفز من فنن إلى فنن مقتفيا هديل النّبض في صوته، ناثرا جمالا في المدى.
اشتاق واشتاق واشتاق…
اضطرمت الرّوح في أتون الاشتياق، فاندفعت إلى حلقه آهات حرّى حارقة.
بصوت مشروخ ضرّجه السّعال نادى:
“أيّها الطّير المضمّخ جناحك
بحنّاء الرّحيل
بمسك الأوبة إلى الطّريق…
أنّى السّبيل إلى الوصال المباح
ضرّجني الحنين… والصّبر عنّي راح…..
أيّها الطّير المحمّلُ جناحك
بوميض القرار المستحيل
بسحر الخفقة في ريش الرّفيق…
خذ أحلامي ترنيمة لأهازيج الصّباح
وهبني.. من جناحك ريشا تعانقه الرّياح”
تضجّ الغرفة بالآهات الحرّى، تتدافع كأسراب دخان تحرّرت من كفّ مدخنة، ويندفع الصّبر مخذولا إلى فكّ المقصلة، وينسكب الحنين كؤوسَ توق، وينسكب الأنين كؤوسَ وَدق، وترتجّ أضلعه تحت صدى صيحات الذّاكرة.
مذ عام مضى، كانت تجمعهما غرفته الرّحيبة، مَرآها يغرقه فرحا، عطرها يثمله ولهًا، كلماتها ـ يا سحر الكلمات ـ تهبه إلى فردوس الحياة جناحا…
منذ عام مضى، كانا يهلّلان لميلاد عام فيه يتعالقان بلا فراق، يتعالقان فلا يظمأ الفؤاد المشتاق.
ومضت من العمر سنة، مسحوقة تحت أقدام الوجل، بين قبضات الحَجْر، بين انتظارات وآهات وصبر، وزخّات أمل…
وها اليوم، سنة أخرى حزينة عليه تهلّ، بلا شموع ولا دعاء، بلا عناق ولا قُبل…
اضطرم أتون الوجع في فؤاده المنسيّ في زخام مواجع الجسد، تلظّى فؤاده شوقا وتوقا وحنقا على كؤوس هذه السّنة البغيضة. فاقترب من النّافذة أكثر، مسح عنها ضباب أنفاسه اللّاهثة، وترك نظراته تجول في حديقة المبنى المضمّخة أشجارها بقبل السّماء.
وفجأة ألفى نفسه يهرع إلى هاتفه.
هاتفُ عَزّة يدندن لحن أغنيتهما الحبيبة “مستنياك”، ونضال يدندن معه “يا روحي… بشوق كلّ العشّاق”، حتّى قاطعهما صوت عزّة هادلا:” نضال…”
توقّف اللّحن وصوت عزّة وعمّ السّكون.
سكون غريب يمتدّ ونضال يغالب نوبة ألم تكاد تدكّ عظامه.
نادته عزّة:” حبيبي…”
فأجابها بلهفة:” أنا قادم إليك، أسرعي إلى الحديقة العامّة.”
وعاد الصّمت سيّدا للغرفة هنا، وهناك، عجّت غرفة عزّة بالصّخب، تتقارع فيها الحيرة واللّهفة، يتجادل فيها الوجل والفرح، وتعتنق الحبيبة شريعة الاشتياق.
اتّجه نضال نحو باب الغرفة، وأصاخ السّمع طويلا…
الممرّات خالية من قرقعة الخطى، خاوية الوفاض من العابرين.
تحسّس المقبض، حرّكه بكلّ لطف، فتح الباب بحذر، جالت نظراته في كلّ الاتّجاهات وفي شتّى الزّوايا.
كلّ الزّوايا يعشّش فيها الصّمت، ويقيم فيها الصّقيع أعراسه.
لا شيء يفتضّ الصّمت فيها غير فيض أنين…
فجأة أزهقت الصّمتَ استغاثاتُ سيّارة إسعاف تفرّ بموبوء من بؤر العدوى إلى مراكز الموت الثّقيل.
انتفض نضال هلعا، لكنّه سرعان ما اعتلى ناصية العزم وتسلّل خارج المبنى.
أجفله صوت جلبة في غرفة الحراسة، وهِنًا جرّ جسده المحموم إلى جدارها، التصق به، دنا من نافذتها، نظر مليّا، لا أحد في المكان. لا شيء غير أصوات الممثلين خلف شاشة التلفاز.
افتر ثغره عن ابتسامة ظفر، استعاد عزمه ودفع خطاه بعيدا عن المبنى ولسان حاله يردّد:” على الله…”
في الحديقة العامّة كلّ الكائنات في احتفال طقوسيّ، المطر رذاذ يداعب وجنة الأديم الشّاحبة، والعشب المتناثر على غير هدى يفتح ثغره للزّقّ الزّلال.
تحت شجرة تضامّت غصونها مشكّلة مظلّة تصدّ قطرات المطر، اجتمع الحبيبان، وقفا متباعدين، بينهما خطوة أو تكاد، كمّامتان تحجبان نصفي وجهيهما أو تكادان، ونظراتهما تعرّي محارق التّوق، فيلتحم النّبض بالنّبض ويتماهيان.
بصوت كالهمس، رهيف، ردّدت عزّة:” عوفيت، عوفيت سريعا… إنّي ما عدت صبرا على غيابك أطيق…”
بصوت، كالهمس، رجيف، ردّد نضال:” آمين، اللهمّ آمين… إنّي في محارق الشّوق إليك، بهذا الحجر كم بتّ أضيق… ربّاه كم بتّ به أضيق !”
تضامّت النّظرات، ارتجف الفؤادان، سكنت عزّة حمّى الهيام، اجتاحت نضال حمّيان، وخارت عُمد الحذر !.
اشتدّ هطل المطر والشّمس طفقت تسحب أذيالها تدحرها جحافل الدّجى المغيرة.
همس نضال في أذن عزّة وهو يودّعها:
“سنظلّ كلّ نبض.. نردّد لحن البداية
كلّ خطو نرفرف على براق الهوى
يطوي بنا دروب الحلم
تيمًا.. نعانق سحر الخطى
وتعانق ذكرانا.. القراطيس وألواح الحكاية”
ثمّ ما كادت تختفي عن بصره حتّى هرع إلى الطّريق ينشد سيّارة أجرة.
اصطدم نضال ببوّابة مبنى الحجر الصّحّيّ موصدا والحارس غير بعيد عنه منشغل بمهاتفة.
دفع الباب بهدوء ليغنم أوبةً آمنةً إلى غرفته، لكنّ