مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

الجزء الثاني من قصة ” ميادة “

بقلم – عبد الله بير:
– اطلب ، تفضل ولكن لابد أن تعرف إنني امرأة متزوجة و لدي أطفال … تفضل ما هو طلبك ؟.
– طلبي صعب ولكن بسيط .
– كيف هو صعب و بسيط ؟.
– حسناً ، أريد أن أجلس معكِ لبعض الوقت ، هل هذا ممكن ؟.
– آها … ممكن جدا ولكن هذا الوقت غالي الثمن ، يعني أغلى من ثمن البقالة ، فهمت أو افهمك ؟.
– لا ، لا ، فهمت و لا تهتمي ، المال ليس مشكلة عندي .
– طيب أراك غداً في الشارع الخلفي للمقهى أمام السلم المؤدي إلى الحي القديم ، مع السلامة.
– حسناً، موافق ، مع السلامة .
لما انتهت المكالمة ، قال مخاطباً نفسه:
– هذا الصوت لم يكن صوت ميادة ، صوت ميادة كان موسيقياً ، كانت نبرات صوتها تشبه سمفونية عالمية جميلة ، هادئة ، فيها انوثة و حلاوة تحاكي روح الأنسان ، أيمكن لتقدم العمر أن يغير في الأنسان كل شيء ، حتى صوته ؟ ما أصعب هذه الحقيقة : كل شيء يتغير مع الزمن ، كم أتمنى ان اسمع صوت “ميادة ” مرة اخرى ، غداً ….. أو بعد غد سأعثر على الحقيقة ، غداً سأعرف كم من السنين مرت؟ .
في اليوم التالي ، نهض في الصباح الباكر ، لم يكن يريد أن يقوم من الفراش ، بل بقي يفكر و يخطط فيما سيفعله اليوم . أين؟ متى؟ كم ؟ ماذا ؟ كيف؟ و لماذا ؟ كل هذه الاسئلة غير المكتملة تجري في فكره بسرعة الضوء وكأنه يسافر في مركبة فضائية في أقاصي الكون الفسيح ، لا يعلم ماذا يفعل أو ماذا يقرر او ماذا يريد ؟ وأخيراً قرر الخروج ، بعد تحضيرات دامت ساعة و نصف ، مثل كل يوم عادي ( الحمام و حلاقة اللحية و الفطور و تجوال في غرف البيت و ترتيب غرف الاطفال ) خرج و لم يبدل من هيئته شيئاً كما يخرج كل يوم ، لم يغير من أسلوب حياته ، ذهب ككل يوم إلى المقهى ، لكنه اليوم غيّر شيئاً واحداً فقط ،هو أن يذهب مباشرة إلى المقهى دون أن يقوم بجولته داخل السوق ، احتسى كوباً من الشاي والقى نظرة خاطفة إلى الدكان ،ثم انتظر حتى وقت الموعد ، بحذر ودون أن يثير أدنى ضجة خرج من المقهى ، دلف إلى المكان الذي حددَ بالأمس مع “وفاء ” عبر الهاتف ، حين وصوله كان قد بقي من الموعد عشر دقائق ، نظر حوله وكان المكان يبدو غريبا عليه ، أو كأنه يزور المدينة لأول مرة في حياته ، شاهد بيوت المدينة على شكل مدرجات ، الأبواب و الشبابيك على هيأة أقواس جميلة ، خيل إليه أنها تضحك عليه ، فجأة ظهرت ” وفاء ” بطلّلتها (الجميلة؟ )في زاوية الزقاق ،وكانت تنزل من الدرج المؤدي إلى الحي القديم ، لما لاحت قامتها ، شعر بروحه وكأنها تخرج من جسده :
– إنها ميادة ولكنها لم تكبر ، لم يغيرها الزمن ، إنها هي ، توقف الزمن عندها ، إنها ميادة التي لم أرى أجمل منها أبداً .
ما أن اقتربت منه و ابتسمت له ، شعر بهزة قوية في جسده بل في كل كيانه ، اختل نظامه ،تسارعت كلماته في الخروج ، كلها تخرج في أن واحد ، قافزة الدموع فوق مقلتيه ، ابتسامة حزينة رسمت على وجهه ، يداه ترتجفان و تتحركان دون إرادته ، أفكاره غير منتظمة ، مهشمة ، غير واضحة ، لا تستجيب معه ، فجأة توقف كل شيء عنده، الزمان ، المكان ، الكلام ، التفكير و الكون ،و أصبح لا يرى غيرها في فضاء ضبابي فسيح مع كلمة:
– صباح الخير .
ثم أردفت!
– ها …. عمي ماذا تريد ؟ ممكن أعرف ماهي نيتك ؟ .
بهذه الكلمات استفاق من هول الصدمة ورد بهدوء مقلق !
– صباح الخير.
ثم أضاف
– كل ما أريده أنت ، أنت وفقط .
– حسناً ، ممكن جداً أن أكون لك ، لكنني امرأة متزوجة ولدي طفلان ، ثم كيف تريدني أن أكون لك وأنا متزوجة من رجل أخر ؟ ثم ألا تخاف أن يرانا أحد في هذا الشارع و يخبر زوجتك و أنت رجل كبير بالسن ؟ ألا تخاف ان يأتي زوجي ويراك معي ؟ ماذا تريد بالضبط ؟ انا لست بالمرأة التي تستحق ذلك ، أنا ميتة منذ زمن بعيد ، ابتعد عني ، أنا ملزمة بخدمة أولادي و بيتي .
– حسناً كل ما تطلبينه مني جاهز، ولكن اعتبريني صديقاً ، أو اعتبرني منقذ ، سأحقق لك كل شيء، ولكن هل أستطيع أن أزوركِ في البيت ؟.
– آها … طيب و بأي صفة ؟ وعندما يراني الناس وانت تدخل بيتي ماذا أقول لهم ؟ او يعرف زوجي ذلك ماذا أقول له ؟ أو ابي ، عمي او أخي …..او …. اقول صديقي ، وانت نفسك ،هل تؤمن بعلاقة الصداقة بين الرجل و المرأة في هذه المجتمعات ؟ وكيف سينظر الناس إلى هذه العلاقة ،حتى لو كانت علاقة بريئة ؟ ثم هل يؤمن الرجل نفسه في مجتمعاتنا بوجود هكذا علاقة ، أم ينظر إلى المرأة كأداة للجنس و إشباع رغباته أو وسيلة للترفيه عن نفسه ؟. مع السلامة يا …. بابا ، عمي أو يا صديقي .
وحاولت أن تمر من أمامه ، فقال وهو يحاول استجماع قواه و لملمة شتات أفكاره ليركب جملة واحدة فقط كي لا يضيعها إلى الأبد مرة أخرى:
– ليس لدي مانع ، لكن لنكن على التواصل عبر الهاتف، وأن أراكِ من حين لأخر ولو من بعيد.
فاستدارت إليه ونظرت إليه من فوق كتفها:
– موافقة بشرطين ، الالتزام بمواعيد المكالمات و ثانياً مصاريف المكالمات عليك .
ودون إضافة شيء اخر نزلت من الدرج المؤدي الى الشارع الفرعي ، المفضي إلى الشارع الرئيسي . بقي هو في مكانه سامراً لفترة ثم سلك نفس الدرب ، انحرف يساراً نحو المقهى مرة ثانية ، شرباً من الشاي و قليلاً من الماء ، بعد هذه المقابلة كان كمحارب مهزوم يجر هزائمه وراءه, او كعاشق مكسور الفؤاد ، جرجر نفسه إلى البيت ليستريح و يرتاح من هول الضربة . ثم كرر المكالمات و المواعيد على الطرقات، في الزوايا الخفية في الشوارع و الازقة الضيقة، بعيداً عن أعين البشر ، استمر الحال لأشهر دون اي تغيير لا في وقت المكالمات و لا في أماكن المواعيد، إلا أن جاءت اللحظة التي كان قد يئس منها ، فاذا هو يتفاجأ ،عندما سمعها في إحدى المكالمات وهي تقول :
– غداً في الساعة الثانية بعد الظهر انتظرك في البيت ، يا عمي ….يا صديقي . مع ضحكة خفيفة ، ناعمة ، كانت اُنوثية جداً لأنها كانت نابعة من أعماقها ، وكأنه ولأول مرة يسمع صوت امرأة تضحك .
كانت “وفاء” امرأة في حوالي الثلاثين من عمرها ، متوسطة الطول نحيفة الجسم ، ذات وجه دائري ممتلئ ، و بشرة بيضاء صافية ، خدودها ملساء ومتوردة؟ تظهر عليها حمرة قليلة، وتملك شفاه مكتنزة و شكل فم جميل و صغير و كأنه مرسوم بيد رسام ماهر ، كانت عيناها عسلية مائلة إلى الخضرة مرسومة بشكل جميل ، تزداد جمالها حينما تضحك ، لانهما تكونان على شكل هلالان فوق خديها البيضاوين ، كانت لها خصلات شعر شقراء، تنزل على خديها وكأن الطبيعة عمدت الى رسم هكذا وجه لهذا الشعر ، اما باقي جسمها فكان في تناسق عجيب و رائع ، ممشوقة القوام و لا ترى في قامتها اعوجاجاً ، دائما تلبس ثوباً احمراً كأنها لا تملك غيره، مع شال اسود مهترئ للراس و فوقهما عباءة سوداء تحملها الى النصف ، وتظهر تحت عباءتها السوداء ساقان بيضاويتان لتشبه لوحة فنية في منتهى الروعة و الجمال .
دنت اللحظة التي كان ينتظرها منذ خمس وعشرين عاماً ، هو وميادة في مكان ما وحيدان دون أن يزعجهما أحد هكذا تصور ، كانت روحه عطشى لهذه اللحظة ، كان كمن سار في صحراء جافة و فجاءةً لاحت أمامه واحة مزدهرة بالماء و الخضرة و الظلال ، كان كل جزء من كيانه له نغمة معينة لاستقبال هذه اللحظة ، اقترب موعد اللقاء ، مشى إلى حيث دلته على مكان اللقاء و لاصطحابه الى منزلها ، وقف في المكان المحدد ينتظر ظهور “وفاء ” ، لم يمر كثير من الوقت حتى ظهرت ، وبنفس الهيئة التي رأها من قبل ، وقالت:
– مرحباً.
بدأ بالكلام وهو يرتجف كالواقف على سلك رفيع فوق هاوية عميقة ، فرد:
– اهلاً وسهلاً.
– تفضل معي.
مشى وراءها كأنه أعمى ، دخلا زقاقاً ضيقاً ، لا يكاد يمر فيه شخصان معاً ، ثم صعدا درجاً طويلاً وسخاَ جداً ، بدا المكان قديماً جداً ، مكان لم تصل اليه يد الحضارة ، بيوت منخفضة, الأبواب و الشبابيك من الطراز القديم ، شعر بأنه في المدينة ألف ليلة و ليلة ، في نهاية الدرب وجدا أمامهما بيتاً كبيراً ذا طرازٍ حديث و كأنه خارج من الارض في هذا المكان العالي و الصعب الوصول ، يلف به زقاق ضيق و وسخ ايضاً و استدارا في الجانب الشرقي للبيت الكبير ،كان ثمة باب حديدي أحمر يبدو أنه باب سرداب البيت الكبير ، وللانحدار الكبير للأرض أصبح الجزء السفلي خارج الأرض ، و الأغلب وجِد هذا لتعديل أساسات البيت الكبير ،و فتحت الباب الحديدي الأحمر و دخل ورائها دون أن ينطق بكلمة واحدة ، كان بيتها مكوناً من جزأين رئيسين ، الجزء الامامي مقسم كذلك مرة اخرى إلى قسمين ، وفي اليمين هناك جدار من قوالب اسمنتية عليها ستارة يبدو أنها تستعمل كحمام و دورة مياه في نفس الوقت ، أما في اليسار فكانت تبدو كمطبخ البيت ،لكن بدون جدار ، مع ستارة سميكة من القماش ، ثم يواجهك باب بلاستيكي أبيض يفضي إلى غرفة مستطيلة طويلة ذات شباك صغير على الجهة اليمنى ،كانت هي أيضا مقسمة غلى قسمين ، في الجانب الايمن من الشباك يبدو انه بستخدم كغرفة للمعيشة ، أما في الجانب الايسر و الأكثر ظلمة كان يستخدم كغرفة نوم، و يحتوي على دولاب خشبي ذي أربعة أبواب ، كانت نصف مفتوحة أو أقفالها معطلة ، كانت الغرفة بشكل عام نظيفة و مفروشة بسجاد صناعي مخطط ، نظيف و مرتب .
– تفضل ، اجلس .
قالت و خلعت عباءتها السوداء،
– اخذت اطفالي إلى بيت خالتهم. قالت وهي تستند إلى الباب و تضع يدها على خاصرتها.
– ماذا تريد ؟ انا لست بالمرأة التي تتصورها ، أنا دعوتك الى بيتي لسببين ، أولا أنت مثل أبي و ثانيا لأنهي حكايتك معي ، لأنني لا استطيع ان تستمر هذه المسرحية .
ثم ختمت كلامها تهم بالخروج من الغرفة ، استدارت وقالت :
– ماذا تشرب شاي ، قهوة ؟ .
ظل ساكناً و ساكتاً دون أن ينبس بكلمة واحدة ، وكأنه تمثال رخامي نُصِبَ وسط الغرفة ، بعد هينة رفع رأسه و تمتم بكلام نصف مفهوم:
– يمكن أن اكون منقذك من هذا القبر الذي تعيشين فيه ، انا مستعد لفعل اي شيء تطلبين إلا الزواج، بشرط ان أناديك ميادة وأن أراك كل يوم على الأقل و أزورك متى شئت ، أقضي بقية عمري معك ، فأمري و أنا أنفذ كل ما تأمرين به .
خرجت بعصبية و دون أن تنظر إليه مع حركة من يدها ،وكأنها تريد أن تقول مجنون ،و لكن حركتها كانت تنمي عن حالة عصبية أو حالة من الغضب . جهزت الشاي ، جلبت كوبين من الشاي و جلست امامه :
– تريد سعادتي ، تخلصني مما أنا فيه من غير زواج ، كيف؟ تشتريني ؟ تحررني من هذه العبودية ، تخرجني من هذا القبر الذي أدفع أجره من جهدي و شبابي و سعادتي ، تشعرني بالسعادة ، أضحك من كل قلبي دون خوف أو تردد ، تحررني لأتهن بحياتي ، ولكن السؤال كل هذا مقابل ماذا ؟ ما هو الثمن ؟ إن المرأة في هكذا مجتمعات هي مقياس الرجولة ، مقياس الشرف و مقياس الكرامة ليس للعائلة بل ربما للعشيرة وهي بالأساس فاقدة الكرامة ، الشرف و الحياة ، أنا لن اقبل بعبودية مقابل عبودية ، ابتعد عني ، دعني و شأني ، أنا لا أستطيع تحمل أكثر ، يكفيني ما انا فيه ، أرجوك ، أنا أُمارس حياتي ببساطة ولدي ما يكفي من الصعوبات في حياتي ، ولا أُريدها معقدة أكثر من هذا ، كل همي أن أربي أطفالي ، امنحهم فرصة تعليم لائقة تجعلهم سعداء في المستقبل و لا يكونوا مثلي ، أنا تخليت عن الحياة في سبيلهم ، ليس لديهم أحد غيري ، أرجوك ابتعد عني ، أُخرج من طريقي ، دعني أعيش حياتي كما أُريد ، أنا راضية بما كتب لي ، لا أُريد منك شيئا لأنك رجل مثل باقي الرجال.
كان ينظر الى كوب الشاي ، يرفع راسه بين حين و آخر لينظر إليها و هي تتحدث إليه ، خلال كل هذا الكلام لم يرى دمعة واحدة في عينيها ، وقال في نفسه:
“ربما هي بكت ما يكفي لأن تجف دموعها أو لا أنها لا تريد أن تشعر بانها امرأة ضعيفة ، أو إنها امرأة حقيرة بائسة و لا تريد أن أعطف عليها “.
– انتِ كيف تريدني أن أُحرركِ ؟.
سال وهو ينظر إلى قعر كوب الشاي وما بقي فيها من بقايا السكر ، قطع من ورق الشاي ، ثم أضاف :
– أنا أستطيع أن أُوفر لك كل ما تريدين ولكن لا أضمن السعادة ، لأنني لا أعرف كيف تكوني سعيدة ، إن كنت ستسعدين بالمال فهذا بسيط جداً ،أما إذا كنت غير مستعدة للسعادة ، فانا لا أستطيع أن أفعل أيّ شيء .
نظرت إليه و سألته :
– تريدني ككل ، أم تريد جزءاً مني ؟ اذا كنت تريدني ككل ، أنا مستعدة لأن أتنازل عن بعض ما أملك في المقابل تمنحني الطمأنينة و السعادة و الحرية ، أما إن كنت تريد شيئا آخر ، فهذا الشيء لا يهمني و لا يهم أحداً ، أُعطيك كيفما تريد لأنني ميتة ، ميتة ، ولا اعتقد بأنني سأشعر يوما ما بعارٍ أكثر مما أشعر به الآن ، أصبحت أكره نفسي ، أكره كل جزءٍ من جسمي ، حتى أكره كل ما ألمسه ، أكره الناس ، الدنيا و كل شيء .
قام من مكانه وهو محطم ، يشعر بثقل كبير في راسه :
– حسناً ، سأذهب اليوم ، و سأعود متى ما سمح الوقت بذلك ، أزورك في وقت آخر ،ستكونين بحال أحسن من الآن ، شكراً على الشاي و الضيافة و طيبة قلبك ، مع السلامة .
حاولت ان تمنعه من الخروج لأنها كانت لديها فتات كلام مازال يعشعش في صدرها ، تريد أن تخرجه ، لأنه كان يسبب لها ضيقاً في صدرها ، إلا أنه خرج ، كأنه من أصحاب الأعراف ، لم يظفر بشيء مما في خياله ، ووجدها امرأة مختلفة جداَ عن “ميادة” ،التي كانت رقيقة ، ناعمة ، حنونة و رومانسية بل وجدها امرأة بائسة ،محطمة ،مهمومة ، منحطة وحزينة حزن الدنيا كلها لحد السوداوية . ، أصبح هو أيضاً يحس بأن فضاءه قد اضطرب و كواكبه قد خرجت من مساراتها ، تسير بغير هدي و لا هدف ، ظلّ منشغل البال ، الفكر لعدة أيام تالية .
بعد أيام من المقابلة الأولى ، اشترى كمية من حاجاتٍ منزلية ( ملابس ، احذية ، منظفات ، مواد غذائية )، وذهب حسب الموعد المحدد ، ولكن هذه المرة طلب رؤية الاطفال ، فلما فتحت الباب ، رأت كل الأكياس التي كان يحملها ، لم تفاجأ ولم تظهر على وجهها اي علامات تعجب و لا علامات السرور ، فقط ساعدته على دخول البيت .
عندما رأى الطفلين ، كان أحدهما بنت و هي الكبرى بعمر اربع سنوات ، والثاني ولد بعمر سنتين ، لم يتكلم ، ذهب مباشرةً نحوهما و قبلّهما ، وحمل الولد الصغير و قبله مرة اخرى ، ابتسم للبنت ثم نظر إلى الام:
– لم انساهما و اشتريت لهما بعض الملابس و بعض الحلويات.
ولما فرغت هي من تفتيش كل الاكياس ، كانت بين الحاجيات التي جلبها علبة ورقية صغيرةً وعليها صور امرأة بملابس النوم فرفعتها.
– ما هذا ؟ ولِمَ هذا ؟.
فأجابها وهو يلعب مع الولد الصغير الذي في حضنه .
– هو لك ، اشتريته خصيصاً لك ، إنه ثوب نوم أحمر ، أرجو أن تجربيه الآن لأراه عليك إذا كان ممكناً .
قال ذلك ولم ينظر اليها ، ومازال يداعب الولد ويلاطفه كي لا يبكي .
– كيف ألبس وأنت موجودٌ ، كيف أنزع ملابسي أمامك ؟ اخرج من الغرفة أو أخرج أنا .
التفت إليها وقال:
– لا .لا سأخرج أنا لدقيقة.
بعد أن أذّنتْ له بالدخول ، أصابته دهشةٌ كبيرةٌ ، لما راها وقد لبست ذلك الثوب ، فاقترب منها و دون أن يسيطر على نفسه امسك معصميها و اقترب منها:
– أنتِ اجمل امرأة على الإطلاق ، أنتِ هدية الله ، أنتِ ملاك انزله الله لي ، أنتِ ميادة بروح وفاء ، أنتِ ماضيي الدفين ، اقبلي أن أخدمك ما دمت حياً.
– ولكن لماذا تفعل كل هذا ؟.
ردت بسرعة و بعصبية ،كانت قسمات وجهها توحي بحزن عميق و ارباك عظيم .
– اسمع صحيح إن زوجي إنسان وليس بإنسان ، لا يهمه إلا نفسه ، لا يقوم بأدنى واجبات الزوج ، وحتى هذان الطفلان كانا نتيجة اغتصاب ، اجل كانا بسبب اغتصاب ، أنهما جاءا إلى الدنيا ليس رغبة مني ، ولذلك فأكرهما كثيراً، مع ذلك ليس لهما ذنب في ذلك ، لذا أفعلُ كل شيء من أجلهما وان لا يكونا مثلي و يمرا بما مررت به ، زوجي لا يعمل أي شيء و لا يريد أن يعمل ، همه جيبه و بطنه ، لو يعرف أنك موجود الآن لَجاء و باعني اليك بثمن بخس ، همه الأوحد أن يكون في جيبه كم دينار و يذهب إلى المقهى يشرب الشاي و يلعب القمار ، ويرجع على مشارف الصباح ، مفلساً و سكراناً ، ولو لم يجد أي مال في جيوبي ، يضربني ثم يغتصبني و ينام و يتركني أتألم لوحدي ، أي لا يقوم بواجباته لا في الليل و لا في النهار كانسان صاحب مسؤولية و زوج ، وهذان كانا نتيجة ذلك الاغتصاب و الضرب .
ثم أضافت و عيناها مغرورقان بدموع صافية ، تجلس أمامه ، لابسةً ذلك الثوب الاحمر .
– هل تريد ان تغتصبني أيضاً ؟.
وحملت طفلها و أدارت ظهرها له ، قالت:
– انا أكره الرجال ، يا ليتني لم أكن ، ولكن ما دمت موجودة ، لي حق في الحياة و العيش ولكن بكرامة و شرف، اليس كذلك ؟
ثم ذهبت إلى زاوية من زوايا الغرفة ، جمعت طفلاها إليها ، بكت بمرارة ، فذهب إليها وجلس إلى بالقرب منها وقال:
– أنا لا أريد منك شيء سوى أن تكوني سعيدة ، أنا لا أريد منك إلا ضحكة و ابتسامة .
– اريد أن يكون بجانبي انسان يكون زوجي ، ابي وصديقي ، يغمرني بحب و حنان ، يمنحني حياة كريمة ، يحزن لحزني و يفرح لفرحتي ، ويُشعرني بأنني زوجته ، وانني ام أطفاله ، يحسني بانني قادرة على إسعاد عائلتي ، أنا لا أريد رجلا يظلمني و يأتي آخر يعطف عليَ .
قالت ذلك و قامت بخلع الفستان أمامه ، ولبست ملابسها .
– أنت هكذا لن تجعلني سعيدة بل ستزيد من بؤسي فشكراً لك .
ثم أضافت:
– اخرج من حياتي فلا فرق بينك و بين زوجي لأنكما تريداني ذليلة و أنا لا أُريد أن أرى نفسي كذلك .
ثم فتحت الباب و قالت:
– تفضل .
لم يستطيع أن يقاوم :
– كل ما أريد أن ابقى معك ، و أجعلك سعيدة ، انا وعدت زوجتي بأن لا اتزوج بعدها ، هذا كل ما في الامر ، أنتِ ذكرى جميلة في حياتي ، أُريدك أن تبقين ، سأحاول بكل قوة أن أُحررك .
قال وهو يحاول أن يقنعها بأن تقبل صداقته و لكن لم ينفعه ذلك .
– أنا هكذا سعيدة و شكراً لك ، أرجو أن تخرج من حياتي ، ولا تأتي إليَ و لا تخابرني و شكراً للهدايا سأقبلها و لكن لو أردت سعادتي اخرج من حياتي ، وإذا أردت رؤيتي ، سوف تراني عند محل البقالة ، لكن دون أن تتصرف اي تصرف تغضبني وإلا بعد ذلك لن تراني إلى الابد ، مع السلامة و ارجو لك حياة سعيدة .
ختمت كلامها و حملت طفلها الصغير ومسك الأخر طرف ثوبها ، لا يعرفان ماذا يجري . خرج و لم يضف شيئاً و غادر متوجهاً إلى البيت ، مشتت الافكار لا يعرف ماذا يقول ، ماذا يريد ، ماذا يفعل ، سجن نفسه في البيت لعدة ايام ، بركان ذكرياته مع “ميادة ” انفجر فجاءة ، ثم أسرع و قام بحلاقة لحيته ، اخذ حماماً و لبس بسرعة ، كأنه في انتظار موعد قد تأخر لعصور و أزمان كثيرة و سار مباشرة نحو المقهى وجلس في مكانه المعتاد منتظراً مجيئها

اترك رد