بقلم : د/عمرو أبو الوفا
مدير منطقة الإصلاح الزراعي بالمنيا
في خضم التحولات الاقتصادية والاجتماعية التي تشهدها مصر، تعود الحركة التعاونية إلى الواجهة كأحد الأدوات الفعّالة في تحقيق التنمية المستدامة، وتمكين الفئات المهمشة، وبناء مجتمع منتج قائم على التعاون والتكافل. وتُعد التعاونيات، بما تحمله من قيم العمل الجماعي والمصلحة المشتركة، من أبرز الوسائل التي تعتمد عليها الدول المتقدمة للنهوض بالقطاعات الحيوية وتحقيق الاستقرار الاجتماعي.
انطلاقًا من هذا الفهم، بدأت الدولة المصرية خلال السنوات الأخيرة في اتخاذ خطوات جادة وشاملة لإعادة بناء منظومة التعاونيات على أسس حديثة، تجمع بين الإرث التاريخي العريق لهذا القطاع، والآليات المعاصرة لإدارته وتفعيله.
أولًا: تحديث الإطار التشريعي والهيكلي
أدركت الحكومة أن أي تطوير حقيقي يبدأ من تحديث البنية القانونية التي تحكم العمل التعاوني. لذلك، شرعت الدولة في إعداد قانون تعاوني جديد يُعَد بديلاً لقانون التعاون الزراعي رقم 122 لسنة 1980، ليواكب متغيرات الاقتصاد والسوق والمجتمع. القانون الجديد يستهدف:
* تعزيز استقلالية الجمعيات التعاونية.
* إدماج مبادئ الحوكمة والشفافية.
* تمكين الشباب والمرأة من الانخراط في العمل التعاوني.
* الحد من البيروقراطية وتفعيل الرقابة الذاتية.
* إلى جانب ذلك، جرى إعادة النظر في الهياكل الإدارية والتنظيمية للاتحادات التعاونية المختلفة، لضمان الكفاءة والمرونة في الأداء.
ثانيًا: دعم مالي وفني مباشر
خصصت الدولة العديد من برامج الدعم المالي والفني لتطوير التعاونيات، خاصة في المجالات الزراعية والإنتاجية والاستهلاكية، ومن أبرزها:
* تقديم قروض ميسرة للجمعيات التعاونية من خلال البنك الزراعي المصري.
* تمويل مشروعات إنتاجية وتسويقية صغيرة داخل الجمعيات.
* توفير برامج تدريبية في الإدارة والحوكمة والتخطيط المالي للعاملين بالتعاونيات.
* دعم الجمعيات في التوسع بأنشطتها لتشمل التصنيع الزراعي والتخزين والتسويق.
* كما لعبت وزارة الزراعة، ووزارة التضامن الاجتماعي، دورًا كبيرًا في إعادة تأهيل الكوادر التعاونية من خلال دورات تدريبية وورش عمل شملت مختلف المحافظات.
ثالثًا: الرقمنة والتحول الإلكتروني
في إطار توجه الدولة نحو التحول الرقمي، أُطلقت خطة طموحة لميكنة التعاونيات، وتهدف إلى:
* حصر وتحديث بيانات الجمعيات إلكترونيًا.
* إنشاء أنظمة لإدارة العضويات والخدمات.
* إطلاق منصات إلكترونية لربط التعاونيات بالمزارعين والمستهلكين والأسواق.
* تسهيل التواصل بين الاتحادات التعاونية والوزارات المختصة.
وقد أظهرت التجربة نجاحًا ملحوظًا في بعض المحافظات، حيث سهلت الأنظمة الإلكترونية عملية التوزيع والمحاسبة والرقابة.
رابعًا: دور تكاملي في المبادرات القومية
من أبرز مظاهر دمج التعاونيات في السياسات العامة، هو إشراكها في المبادرات القومية مثل:
* مبادرة “حياة كريمة”، حيث تساهم التعاونيات الزراعية في تحسين الخدمات الزراعية وتوفير فرص عمل في القرى.
* دور التعاونيات الاستهلاكية في توفير السلع بأسعار عادلة، خاصة خلال الأزمات التضخمية وتأتي الهيئة العامة للإصلاح الزراعي خير مثال على ذلك
* مساهمة الجمعيات السكنية في مشروعات الإسكان الاجتماعي والمتوسط.
هذا التكامل أعاد للتعاونيات دورها الحقيقي في خدمة المواطن والمجتمع المحلي.
خامسًا: تمكين المرأة والشباب من خلال العمل التعاوني
تشجع الدولة تأسيس تعاونيات نسائية وشبابية تدير مشروعات صغيرة ومتوسطة، خاصة في الريف والمناطق الحدودية. ومن أبرز المبادرات:
* دعم المرأة الريفية من خلال مشروعات تصنيع غذائي وحرف يدوية.
* توفير تمويل وتدريب للشباب الراغبين في تأسيس تعاونيات إنتاجية أو خدمية.
* تخصيص مساحات في المعارض الترويجية لعرض منتجات التعاونيات.
هذا التوجه يسهم في خلق فرص عمل وتحسين دخل الأسر، خاصة في المجتمعات محدودة الدخل.
سادساً : تعزيز الرقابة والتنظيم
أعادت الحكومة تفعيل دور الاتحاد التعاوني المركزي، والاتحادات النوعية (الزراعي، السكني، الاستهلاكي، الإنتاجي)، لمتابعة أداء الجمعيات، وضمان إلتزامها باللوائح، ومنع التجاوزات.
كما تم التنسيق بين وزارات الزراعة، والتموين، والإسكان، والتضامن الاجتماعي، لتوحيد الجهود وتذليل العقبات أمام التعاونيات .
تشير المؤشرات إلى أن التعاونيات المصرية مقبلة على مرحلة جديدة من التوسع والنمو، مدعومة بإرادة سياسية واضحة، ودعم فني ومؤسسي منظم. ومع إدماج التكنولوجيا الحديثة والحوكمة الرشيدة، يتوقع أن تتحول التعاونيات إلى أدوات تنموية حقيقية تسهم في:
* تحقيق الأمن الغذائي.
* خفض البطالة وتحسين مستويات المعيشة.
* تعزيز الإنتاج المحلي وتقليل الاعتماد على الاستيراد.
* دعم الاقتصاد غير الرسمي ودمجه في المنظومة الرسمية.
ختامًا
فإن تطوير التعاونيات في مصر لم يعد مجرد مشروع تنموي تقليدي، بل أصبح ركيزة من ركائز بناء مجتمع أكثر عدالة واستقرارًا. ويبقى نجاح هذا المشروع مرهونًا بالاستمرار في الإصلاح، والاستماع لاحتياجات الجمعيات على الأرض، وتوفير البيئة التشريعية والمؤسسية المحفزة.
فالدولة المصرية اثبتت أنها عازمة على تحويل التعاونيات من كيانات هامشية إلى شركاء حقيقيين في التنمية.