مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

البهلوان في مكة.. أقدم مشهد ترفيهي قبل ستة قرون – قراءة تاريخية للمؤرخ الشريف محمد بن علي الحسني  

كتب – أحمد الشرقاوى 

لم تكن مكة المكرمة عبر تاريخها الطويل موطن العبادة وحدها، بل كانت أيضًا مركزًا للقاء الثقافات والتجارة والحياة الاجتماعية. وقد حفظت لنا كتب التاريخ مشاهد نادرة تكشف عن هذا البعد الإنساني، ومنها حادثة البهلوان التي وقعت قبل أكثر من ستة قرون، واعتُبرت أول صورة موثقة للترفيه الجماهيري في مكة.

وهنا أكد الشريف محمد بن علي الحسني، المؤرخ والباحث ورئيس الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية، أن الحديث عن مكة المكرمة لا ينبغي أن يُحصر في كونها بلدًا للعبادة والطواف والسعي وحدها، بل أوضح أن تاريخ مكة الممتد يثبت أنها كانت أيضًا مركزًا للتجارة والثقافة واللقاء الإنساني.

ورأى أن الذهن حين يذهب إلى مكة يتجه فورًا إلى الكعبة المشرفة وشعائر الحج والعمرة، لكنه شدد على أن مكة عبر القرون لم تنغلق على هذه الصورة وحدها، وإنما احتضنت الأسواق والمواسم، وصارت ملتقى للشعوب والثقافات.

وأشار الشريف إلى أنه يستحضر هنا مشهدًا تاريخيًا فريدًا ذكره المؤرخ الكبير شمس الدين السخاوي (ت 902هـ) في كتابه وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام، عن حادثة وقعت سنة 896هـ/1491م، حيث ظهر رجل غريب في مكة اشتهر بلقب “البهلوان”، وقدم عروضًا استعراضية غير مألوفة أدهشت أهل مكة وزوارها.

 وأكد الشريف أن هذه الحادثة تمثل أقدم صورة موثقة للترفيه الجماهيري في مكة قبل أكثر من ستة قرون، موضحًا أن البهلوان جاء مع ركب الحج المصري، لكنه لم يعد معهم بعد انتهاء المناسك، بل اتخذ من مكة ساحة لعروضه الغريبة. وذكر ما أورده السخاوي من أنه كان يضرب يده بالهاون الحجري حتى تتشقق ثم تعود كما كانت، ويرفع حجارة ضخمة يقدّر وزنها بثلاثين قنطارًا، ويضع خشبة طويلة على كتفه فيصعد عليها الفرسان والدواب دون أن يسقط أو يميل.

وأضاف الشريف أن مثل هذه المشاهد بدت للناس وكأنها خوارق، فاجتمعوا حوله إعجابًا وانبهارًا، حتى أصبح حديث مكة في تلك الفترة، وهو ما يجعله أول من قدّم عرضًا ترفيهيًا جماهيريًا في تاريخ المدينة.

ورأى الحسني أن تفاعل المجتمع المكي مع البهلوان يعكس عقلية منفتحة تدرك حاجة الإنسان إلى التنفيس والفرجة. فقد ذكر السخاوي أنهم لم يكتفوا بالمشاهدة، بل أكرموه بالمال، وألبسوه ثوبًا أخضر من الصوف، وأركبوه فرسًا، وزفّوه حتى بلغ المسعى.

وأكد الشريف أن هذا المشهد يكشف طبيعة المجتمع المكي آنذاك: مجتمع يتجاوب مع المدهش، ويعرف كيف يمنح التقدير لمن يضيف إلى يومه لحظة بهجة، حتى في ظل القداسة العظيمة للمكان.

قد يهمك ايضاً:

اتفاقية تعاون مشترك بين العربي للتنمية وجامعة الزيتونة…

شكاوى متزايدة من ضعف تغطية فودافون في المناطق المغلقة

وأردف المؤرخ الحسني  موضحًا أن هذه الحادثة أثارت – ولا تزال تثير – نقاشًا دينيًا مشروعًا حول حدود المباح والممنوع في باب الترفيه.

 وأشار إلى أن الموقف يمكن النظر إليه من زاويتين: فمن جهة، هناك من يرى أن الأصل في الترفيه الإباحة ما لم يتضمن محرمًا، مستشهدًا بما ورد في الصحيحين من أن النبي ﷺ كان يسابق السيدة عائشة رضي الله عنها، ويسمع الغناء المباح في الأعياد، وقوله: روحوا القلوب ساعة بعد ساعة. ومن هنا أكد الشريف أن ألعاب القوة وخفة اليد التي قدّمها البهلوان تدخل في باب المباح، طالما أنها لم تشتمل على منكر أو تضييع لواجب.

لكن من جهة أخرى، أوضح الشريف أن هناك من تحفظ على ما جرى، معتبرًا أن المبالغة في الاحتفاء بمثل هذه الأفعال قد تشغل الناس عن مقصد العبادة، خاصة في مكة التي هي حرم الله الآمن.

وأكد أن زفّ الرجل حتى المسعى قد يُفهم على أنه نوع من الغلو والمبالغة، وهو ما يستدعي النقد. ورأى الشريف أن هذين الموقفين يعكسان طبيعة المجتمع الإسلامي الذي يجتهد دائمًا في الموازنة بين المباحات والواجبات.

وأضاف الحسني أن لهذه الحادثة بعدًا ثقافيًا لا يقل أهمية عن بعدها الديني، فهي تكشف عن الميل الإنساني الفطري إلى المشاهدة والفرجة. وأوضح أن مكة، برغم قدسيتها، لم تكن استثناءً من هذا الميل؛ فهي كما عرفت أسواقها بالشعر والخطابة والمبايعات، عرفت أيضًا مشاهد الدهشة والاستعراض. وأكد أن البهلوان يمثل أول نموذج لفنان استعراضي في مكة، سبق بقرون طويلة ما نعرفه اليوم بصناعة الترفيه.

وأشار الحسني إلى أن اللافت أن المملكة العربية السعودية اليوم، في إطار رؤية 2030، جعلت الترفيه صناعة منظمة تستجيب لحاجات الإنسان الروحية والجسدية، وتوازن بين العبادة والفرجة، وهو ما يثبت أن لهذه الظاهرة جذورًا ممتدة في تاريخ مكة نفسها.

وأوضح الشريف الحسني  أن هذه الحادثة القديمة لا تقف عند حدود الرواية التاريخية، بل تمتد بدلالتها إلى حاضرنا المعاصر. فرأى أن السؤال ما زال مطروحًا: هل ينبغي للإنسان أن ينكفئ على العبادة وحدها؟ أم أن التوازن بين العبادة والراحة النفسية مطلب أصيل؟ وأكد أن الإسلام لم يحرم الترفيه لذاته، بل أراده منضبطًا بالشرع والذوق العام، ليصنع إنسانًا متوازنًا لا يعيش على العبادة المجردة وحدها، ولا ينغمس في اللهو الفارغ بلا قيود.

وفي ختام قراءته، استنتج الشريف أن حادثة البهلوان في مكة قبل ستة قرون تمثل شاهدًا بليغًا على أن المدينة لم تكن فقط مركزًا للطواف والصلاة، بل فضاءً للدهشة الإنسانية أيضًا،مؤكدًا أن الجدل الذي أثاره الرجل آنذاك ما زال حاضرًا اليوم: بين من يرى في أفعاله بهجة مشروعة، ومن يعتبرها انشغالًا عن المقصد الأعلى في بلد الله الحرام. وشدد الشريف على أن الثابت عبر القرون أن مكة ظلت دائمًا ملتقى الروح والعقل، العبادة والفرجة، الطواف والبهجة. ومن استقبال المكيين للبهلوان في القرن التاسع الهجري، إلى استقبالهم اليوم لملايين الزوار الباحثين عن تجربة متكاملة، يبقى التاريخ يعيد نفسه في صور جديدة، تتغير فيها الأشكال وتظل الروح واحدة: روح الإنسان الباحث عن التوازن بين العبادة والبهجة.

 

المصدر:

السخاوي، محمد بن عبد الرحمن. وجيز الكلام في الذيل على دول الإسلام. تحقيق: بشار عواد وآخرين. بيروت: مؤسسة الرسالة، 1995م.

التعليقات مغلقة.