الانتقال الهادئ للسلطة بسلطنة عُمان … رسائل للعالم
كتب – سمير عبد الشكور:
أبهر الانتقال الهادئ للسلطة بسلطنة عُمان كافة المتابعين والمراقبين في العالم، وجاء رداً على المخاوف الداخلية والخارجية، لتسجل السلطنة تجربة رائدة في واحدة من أعقد المسائل في شؤون الحكم.
ففي غضون أقل من 24 ساعة كانت كل الأمور الحساسة والكبيرة قد تمت من دون ضجيج أو تباين لشغر مكان السلطان الراحل، تنفيذًا للمادة السادسة من النظام الأساسي للدولة، من خلال تنفيذ مراحل الانتقال حسب ما خطط له آنيا وقبل ذلك، والتي نصت إلى تنفيذ خيارين الأول اختيار مجلس العائلة من يرونه مناسبا لقيادة الدولة، أو الذهاب إلى الخيار الثاني الذي يتضمن فتح الوصية التي وضعها السلطان الراحل، فكان الخيار الثاني هو الأنسب كما رآه مجلس العائلة، تقديراً وعرفاناً منه للسلطان قابوس – طيب الله ثراه -، بفتح الوصية التي حملت اسم جلالة السلطان هيثم بين طارق لتبدأ عمان مرحلة جديدة من عهد سلاطين البوسعيد.
دولة المؤسسات
قدم هذا الانتقال رسائل مهمة إلى الداخل والخارج، واستطاع أن يؤكد على أن عمان دولة مؤسسات ثابتة لا تتأثر ولا تتغير في أحلك الظروف، وهذا شأنها ليس فقط في مثل هذه الظروف، وإنما منذ عهد الإمام أحمد بن سعيد مؤسس الدولة البوسعيدية قبل 276 عاما، وتحديدا منذ عام 1744م؛ لأنها قامت على مبادئ راسخة ورؤية واضحة، وقد كرس السلطان قابوس طيب الله ثراه هذا النهج منذ توليه مقاليد الحكم في عمان في 23 يوليو 1970، حيث عمل على قاعدة مهمة، وهي تثبيت مؤسسات الدولة التي أراد لها أن تكون قادرة على الاستمرار خلال العقود القادمة، لا تتأثر بأي غياب وتستجيب لأي تغير على رأس السلطة، وهذا ما أثبتته تلك المؤسسات المعنية.
ولعل مجلس الدفاع الذي أوكلت له مهمة قيادة الدولة في ظروف حالكة كهذه وضع في أعلى مراتب تلك المؤسسات، واستطاع بقدرة كبيرة أن يكون صمام الأمان لحفظ الدولة ومكوناتها ومقدراتها وتسيير أمورها، وأن يكون عند مستوى تلك الثقة التي أودعها السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ فيه وراهن على قدرة رجالات وقيادات هذا المجلس الذين كانوا عند العهد والمسؤولية بامتياز في نظر الكثير.
ثم مجلس العائلة الذي أكمل المشهد، واختار الذهاب إلى رغبة السلطان الراحل، لإيمانه بأن الاختيار جاء بناء على معطيات يؤمن بها في شخصية السلطان هيثم بن طارق، وإيمانه بأنه سيكمل المسيرة حسب ما كان يرى ويرغب في أن تكون، ودعم مجلس العائلة السلطان الجديد الذي يؤمن عامة الشعب بأنه سيكمل تلك المسيرة التي بدأها مع فجر النهضة العمانية قبل 50 عاماً واستطاع أن يوفر لها أركان الدولة التي يجعلها قادرة على الاستمرار بمنهجية بالغة.
رسائل للعالم
لعل أبلغ هذه الرسائل هي أن عملية الانتقال السلس للسلطة تمت حسب ما خطط لها وما أراده لها السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ ، وحققت أهدافها بأفضل مما كان متوقعا، وهذا يمثل نموذجا في ضمان الانتقال السلس والهادئ لأمور الحكم في عمان، وقد يستفاد من تلك الدروس التي مرت.
وثانيا قدم هذا الانتقال تجربة عربية فريدة في التوافق والتعاضد، معاكسا ما يدور من عدم توافق على السلطة في العديد من الحالات في الوطن العربي والعالم.
وثالثا استطاع أن يثبت أن هناك مصالح للدولة أعلى من المصالح الذاتية، وتغليبها يأتي ضمن رؤية أهمية المحافظة على استمرار مسيرة السلطنة خلال السنوات المقبلة، واستكمالا للنهج التاريخي الذي سارت عليه عمليات الانتقال في هذه الأسرة أو غيرها من الأسر التي كانت قبلها مثلت حقبا في التاريخ العماني الممتد.
ورابعاً أكد أن احترام ما نص عليه النظام الأساسي للدولة يشكل ضمانة بالغة للدولة ومكوناتها ومستقبل شعبها وحرص جميع أطياف شعبها على الوحدة والتلاحم والوقوف صفا واحدا في تعزيز نجاح التجربة، يثبت استيعاب الجميع لمكانة وأهمية هذا النظام الذي ينير الطريق لمسيرة عمان ويكون ضامنا لتلك التوازنات بين المكونات التي تتشكل منها الدولة.
وخامسا أثبتت التجربة أنه لا مجال للصدفة في هكذا أمور تحدد مصير دولة بشعبها وعدم تركهم في مهب الريح، فقد أدرك السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ أن وجود خارطة طريق بعده كفيلة أن يبنى عليها في مسيرة الحكم، وتعزيز الوحدة التي هي صمام الأمان بين أبناء الشعب، فعمل على تكريس مفهوم الدولة ومؤسساتها وأهميتها وقدرتها على تجاوز التحديات التي تفرض عليها في أي من الظروف.
مستقبل الدولة
ولا شك أن انتقال السلطة بهذه الكيفية يؤسس لدولة حديثة تحظى بالاحترام الدولي، وستكون أساسا مجربا في العقود القادمة، وبذلك فقد أرست مساحة كبيرة من الاطمئنان الذي يمكن البناء عليه في قادم الأيام، ولأن الكثير من المراقبين لم يكن مطلعا على خصائص النظام الأساسي للدولة، فإن الرؤيا لم تكن واضحة جلية لدى البعض الذين أبدوا العديد من المخاوف التي قد تهدد هذا الانتقال المنتظر، هذه التجربة وضعت حدا لتلك التكهنات والمخاوف والقلق.
لذلك فإن ما تم يعزز دور الدولة الحديثة التي تستطيع الانطلاق إلى آفاق أرحب خلال العقود القادمة لتحقق تلك المعدلات المرجوة من التنمية، متكئة على اطمئنان كبير للنظام الأساسي الذي يحفظ مسيرتها ويحدد مسارها ويعمق من أدائها ويرفع من مكانتها في العالم كدولة مؤسسات لا يمكن أن تحيد عنها، ويجعلها أكثر قدرة على التفاعل مع الآخرين، وانفتاحا عليهم وضمانا لبقائها واستمرارها وقبولا في التعاطي معها كدولة راسخة قادرة على إدارة أمورها الداخلية بحكمة واقتدار، وهذا ما يرفع رصيدها.
والمتابع السياسي للشأن العماني يلحظ ما حظيت به عمان وسلطانها الجديد من احترام وتقدير من العالم الذي نكس الأعلام حدادا على فقيد عُمان الكبير السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ بدءا من الأمم المتحدة والمملكة المتحدة ومملكة تايلند والهند إلى جانب دول شقيقة، وهو ما لم تحظ به أي دولة في العالم، وهذه شهادة كبيرة جدا لكل عماني ولقيادته الجديدة التي تتطلع إلى الاستمرار على نهج السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ الذي استطاع أن يغرس حب الآخرين لهذه الدولة التي أراد لها أن يكون في الكون كله صديقا لها على الود والاحترام المتبادل.
وسيعزز المستقبل هذا التوجه وستحافظ عمان بقيادة السلطان هيثم بن طارق على النهج نفسه، ولن تكون السلطنة أقل من المكانة التي وصلت إليها بل ستسير على تلك التوجهات السلمية ومد يد الصداقة ونشر السلام والأمن والاستقرار في العالم والتعاون مع الأصدقاء في جعل العالم أكثر أمانا وسلاما.
وعلى المستوى الداخلي، فإن الخطط التنموية سوف تنطلق لرؤية عمان 2040 مع بداية العام المقبل الذي تستعد له الدولة في تعزيز أداء الخدمات والتحول إلى الثورة الصناعية الخامسة، وفتح المزيد من فرص الاستثمار والعمل، وجعل عُمان أكثر جاذبية ومناخا ملائما لممارسة الأعمال العالمية، إضافة إلى التركيز على الابتكار العلمي ودعم الصناعات والقطاعات الأخرى كالزراعة والثروة السمكية والسياحة والزراعة والاستثمار ودعم المشاريع التي يمكن أن تصنع فارقا في الإيرادات بهدف تخفيف الاعتماد على عائدات النفط.