كتب – محمد عبد الوهاب:
انتهت فعاليات الجلسة الثالثة من المؤتمر العالمي للأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم التي ترأسها دار الإفتاء المصرية هذا المؤتمر الذي يناقش “دور الفتوى في استقرار المجتمعات” وجاءت الجلسة الثالثة بعنوان “فتاوى الجماعات المتطرفة ومواجهة الفوضى والتخريب” برئاسة أ.د/ أسامة العبد رئيس جامعة الأزهر السابق، رئيس لجنة الشئون الدينية والأوقاف بمجلس النواب المصري، وبمقرر للجلسة د. محمد وسام، وشارك في الجلسة أصحاب الفضيلة أ.د/ نصر فريد واصل عضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، أ.د/ محمد الياقوتي وزير الأوقاف السوداني الأسبق، أ.د/ صلاح مجييف مفتي الشيشان، أ.د/ محمد كمال إمام أستاذ الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق جامعة الإسكندرية، أ.د/ محمود الشيخ نائب رئيس جامعة فلورنسا – إيطاليا.
وافتتح أ.د. أسامة العبد كلمته بتوجيه الشكر لدار الإفتاء المصرية على استضافتها هذا المؤتمر العالمي مؤكدًا على أن ذلك يثبت أن ديننا دين رحمة، فلا يكون هذا الدين على الإطلاق خارجًا عن هذا النطاق، فديننا لا يعرف التطرف ولا التشدد أو التعصب، مضيفًا أن التشدد يجيده كل الناس أما التيسير فلا يجيده إلا ذوو الفقه والفهم والذمة والرقة التي تعلموها بالمنهج الوسطي الأزهري، موجهًا رسالة للإعلام أن يتقوا شر الفتن ولا يدخلوا البلاد في اضطراب ولا يستضيفوا إلا من كان أهلًا للعلم والفتوى.
وأكد الدكتور محمد الياقوتي، وزير الأوقاف السوداني الأسبق، في كلمته أن الإسلام يسعى لصنع السلام تحت كل الظروف، ففي أثناء الحروب وعندما يحمي الوطيس ويميل العدو للسَّلام تحت قهر السُّيوف، ومع توفر احتمالية الكيد وعدم الصدق في إرادته للسلام، فإن القرآن يأمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يجنح للسِّلم حتى عند عدم أمن مكرهم، قال تعالى: “وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِى أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ”.
وأشار فضيلته في كلمته إلى حرص الصحابة على إبعاد شبح العنف، بعد انتقال الحبيب صلى الله عليه وسلم إلى الدار الآخرة، وحدث ما حدث من شجار إلا أن الصحابة لم يكفِّر بعضهم بعضًا، ولم يكفروا غيرهم، إلى أن جاء الخوارج وقدموا مجموعة من التهورات وكفروا صحابة النبي وكفروا سيدنا علي رضي الله عنه، بل وقتلوه، وكانوا يرون قتله تقربًا إلى الله، لأنهم تعاملوا مع النصوص بسطحية وعدم دراية.
ولفت فضيلته إلى أن الخوارج استخدموا نفس المرجعية المستخدمة الآن وهي الحاكمية فحينما قيل لهم: لِمَ كفرتموه؟ قالوا: حَكَّمَ الرجال، ولم يحكم كتاب الله، وحصلت لهم مراجعات من قِبَلِ الصحابة رجع بعضهم واستمر نسلهم الفكري تحقيقًا لنبوءة النبي عندما قال في ذي الخويصرة: يخرج من أصلاب هؤلاء قوم حدثاء الأسنان … إلى آخر الحديث عند الإمام البخاري، ومات هذا الفكر زمنًا طويلًا إلى أن برزت بعض اتفاقات له في كتب الشيخ ابن تيمية رحمه الله تعالى في القرن الثامن الهجري، وجاء الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر فنقل المسائل من الكتب إلى التطبيق، وسهل أمر التكفير وقُتِل خلق كثير، وانتشر العنف. وما يؤكد ذلك أن المراجع التي تعتمد عليها جماعات العنف فيها كتب الشيخ محمد بن عبد الوهاب وكثير من تلاميذه.
ومن جانبه أكد الدكتور محمد الخلايلة، مفتي الأردن، أن بعض الفتاوى اليوم تنشر ثقافة متطرفة ومتشددة بين المسلمين، وعلينا أن نحصن مجتمعاتنا من الذين يصدرون تلك الفتاوى.
وأضاف د. الخلايلة في كلمته أنه وجد في مجتمع الصحابة من يرى أن في زيادة التشدد زيادة في التدين وسبيلًا لكسب الدرجات، ومثال ذلك ما ورد عن أنس بن مالك رضي الله عنه، يقول: “جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي يسألون عن عبادة النبي، فلما أُخْبِرُوا كأنهم تَقَالُّوهَا، فقالوا: وأين نحن من النبي؟ قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدًا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدًا، فجاء رسول الله إليهم، فقال: أنتم الذين قلتم كذا وكذا، أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكنى أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني”.
وبذلك استطاع أن يُفقِّه أصحابه ويعلمهم ليصحِّحوا ما قد طرأ من بعضهم من غلو – إن جاز التعبير -، من الثلاثة الذين تَقَالُّوا عبادته، لكن سرعان ما رجعوا إلى الاعتدال لما فقهوا.
كما وجه الدكتور صلاح مجييف، مفتي الشيشان، عددًا من التوصيات لمؤتمر دار الإفتاء، وهي التأكيد على أهمية مراعاة المقاصد الشرعية ودورها المحوري في عملية إصدار الفتوى، لتكون الفتوى محققة للمصالح الشرعية التي وضعها وأرادها المشرع الحكيم، والتأكيد في نفس الوقت على أن معرفة المقاصد الشرعية لها أهمية بالغة في بيان الإطار العام للشريعة، وتحديد أهدافها السامية، والمعاونة على الدراسة المقارنة والترجيح، وإبراز هدف الدعوة، والإنارة في الاجتهاد والاستنباط.
كما أوصى بتدرج مصالح الإنسان على درجات، أهمها المصالح الضرورية، وهى حفظ الدين، وحفظ النفس، وحفظ العقل، وحفظ النسل أو العرض، وحفظ المال، ثم تأتي المصالح الحاجية التي ترعى المقاصد الخمسة، ثم المصالح التحسينية التي تكمل المقاصد، وتصونها في أحسن أحوالها، والحض على مضاعفة الجهود والإكثار من الأبحاث والدراسات حول المقاصد الشرعية لإبراز أهميتها لأصحاب التخصص في مجال الفتوى وللباحثين ولطلاب العلم ولعامة الناس على حد سواء، لأنها تتصل بهم جميعًا، والعمل على الاستفادة من التراث العلمي القيم الذي تركه لنا علماؤنا، وجعله في المرتبة الأولى في عمليات البحث والتأصيل والشرح والتوضيح والتبيين لكل جديد.
كما أكد على أهمية الإعلام ووسائل الاتصال الحديثة، وضرورة أن يكون لنا فيها مشاركات مؤثرة، مع ما تلعبه هذه الوسائل من دورٍ كَبيرٍ في التأثير على عقول الناس، وخاصة فئة الشباب منهم، وضرورة عقد مثل هذه المؤتمرات العلمية الهامة، لما لها من دور كبير في تصحيح كثير من المفاهيم والقضايا الحساسة، وخاصة عندما يعقد هذا المؤتمر في بلدٍ مباركٍ مثل جمهورية مصر العربية، البلد الذى طالما رعى العلم والعلماء، وبحضور مجموعة مباركة من خيرة العلماء والباحثين والمفتين من جميع أنحاء العالم.
كما أكد فضيلة الدكتور محمد كمال إمام على أهمية مقاصد الشريعة قائلًا: إن الشريعة ما وضعت الخصوص إلى جانب العموم، والنصوص إلى جانب المقاصد، إلا ليحتكم المسلم إليهما، ويلتمس الهدي فيهما، ويستخرج الحق من بينهما في كل مسألة، فلا غنى له عند النظر في القواعد والمقاصد عن الاسترشاد بنماذجها من الجزئيات القولية والفعلية، لكيلا يذهب التأويل إلى ساحة الهوى والضلال البعيد، ولا مناص له عند النظر في النصوص والوقائع الجزئية من الاستئناس بأسبابها وظروفها وغاياتها -إن كانت معللة- لينزلها منازلها ويضع كل حكم في الموضع الذي يناسبه، وليعتبر بها في أمثالها من المسائل المتجددة، وأن يمتنع عن تطبيقها حرفيًّا إذا اختلفت طبيعة الحوادث وتغير مناط الحكم فيها، وإلا لرجعت به المحافظة على ظواهر النصوص أحيانًا إلى حد الإخلال بمقاصد التشريع، وإيقاع الحرج في الدين وقد نفاه الله عنه.
كما افتتح د. محمود الشيخ كلمته بتوجيه الشكر لدار الإفتاء على الدعوة الكريمة.
وسرد فضيلته قصة أحد الشباب الذي تأثر بالفهم السلفي الوهابي إلى أن أصبح متهمًا في قضية إرهابية متهمًا الشيخ يوسف القرضاوي بأنه المغذي لقناعات هذا الشاب محمِّلًا بعض العلماء بالتقصير في نشر الفكر الصحيح.
كما أكد الدكتور نصر فريد واصل، مفتي الجمهورية الأسبق، في كلمته على أن الإسلام جاء لعموم الناس، لقوله تعالى: “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين”.
وأضاف فضيلته: إن العالم أخطأ في لصق الإرهاب بالإسلام مما خلق الإسلاموفوبيا منوهًا أن الإسلام والسلام وجهان لعملة واحدة، ونافيًا ما يسمى الآن ما يعرف بدار الحرب مؤكدًا أنه لا يوجد إلا دار سلام.
كما أكد د. واصل أن الإسلام من حيث مفهومه العام كدين سماوي ذو شقين يكمل كل واحد منهما الآخر والشق الأول من مفهوم الإسلام: هو في جانب العقيدة، وهو الإيمان بالله عن يقين كامل لا يتزعزع، والإقرار بوجود الله وحده لا شريك له، وبصفاته الكمالية التي تليق به، وبأنه المُنزه عن كل صفات البشر وجميع خلقه.
وأما الشق الثاني من الإسلام بعمومه: فهو المتعلق بالجانب العملي والقانون التشريعي التطبيقي، الذي وضع للناس والحياة الإنسانية والبشرية جميعًا ينظم علاقتهم الاجتماعية ومعيشتهم الدينية في هذه الحياة ومعاملاتهم المدنية مع أنفسهم، ومع جميع بني جنسهم محليًّا وعالميًّا، وعباداتهم الدينية مع الله في الصحة والمرض والحل والترحال والسلم والحرب، وذلك بما يناسب العباد والبلاد في كل زمان وفي كل مكان.
وشدد على أن الحرب شُرعت في الإسلام للدفاع عن الإسلام وكلياته الخمس الضرورية للحياة، فشُرعت الحرب للضرورة القصوى فقط إذا تعين القتال بضوابطه وشروطه الشرعية لحماية كليات الحياة الضرورية أو إحداها، سواء كان ذلك شخصيًّا أم اجتماعيًّا، وذلك لقوله تعالى: ﴿وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلۡمِ فاجنح لَهَا وَتَوَكَّلۡ عَلَى اللَّهِ).
وجاءت مداخلات الحضور ثرية للغاية فمنها من طالبت بتشريع قانون لمعاقبة من يهاجم التراث، ومنها ما يؤكد على أن الغرب لا يحتاج لتصحيح صورة الإسلام لأنه يعرف جيدًا أن الإسلام بريء من العنف وأن ما يحدث من تشويه فهو متعمد.