بقلم الدكتور – على عبد النبى:
لا يمكن للإنسان أن يشعر بالسلام والراحة دون المحافظة على صحته، أى عندما يحقق السلامة فى بدنه وعقله، والتى تشمل سلامته من الامراض، وشفاؤه منها بعد حدوثها والتخلص منها بشكل نهائى. وهناك مثل شعبى يعبر عن هذا وهو “الإنسان طبيب نفسه”، ومن الأولويات أن يحافظ الإنسان على صحته النفسية ويحميها من عوامل التوتر والقلق والانقباض والاكتئاب حتى يضمن صحة نفسية جيدة تمكنه من الحد من مخاطر الإصابة بغالبية الأمراض الجسدية. وليس الإشعاع هو المصدر الرئيسى للأمراض التى تصيب الإنسان، لكن هناك مصادر أخرى أكثر أهمية، منها تلوث الطعام والشراب والهواء، ومنها التلوث السمعى والبصرى. حتى أن عدد ساعات نوم الإنسان تؤثر على صحته، فقد وجد أن نشاط المئات من الجينات يتوقف مع انخفاض عدد ساعات النوم إلى أقل من ست ساعات فى اليوم.
بسبب العمليات الحيوية الطبيعية داخل جسم الإنسان تنشأ “الجذور الحرة”، وهى عبارة عن ذرات أو جزيئات غير مستقرة. وعند مهاجمتها لأى جزئ مستقر وتسرق منه أحد الالكترونات، فأن الجزئ نفسه يصبح “جذر حر”، وبالتالى فإنه يهاجم جزئ أخر مستقر، وهكذا تنتج سلسلة من التفاعلات السلبية. وتكمن خطورة “الجذور الحرة” فى أنها تقوم بالإعتداء وبقسوة على الخلايا محدثة أضرارا فى جدارها، وهذا يمنع دخول الغذاء وخروج الفضلات، وتموت الخلية تدريجيا. أو يحدث تهتك لجدران الخلايا غير قابل للإصلاح وهو ما يسبب ضرر بالمادة الوراثية “الحمض النووى”، وقد يتسبب هذا فى تدمير الخلية أو تشويهها أو تحويلها الى خلية سرطانية. ويمتلك جسم الإنسان مجموعة من نظم الدفاعى الداخلية الفعالة وهى “مضادات الأكسدة”، وهى فى الوضع الطبيعى تستطيع القضاء على “الجذور الحرة” والتخلص منها. لكن فى الوضع الغير طبيعى ونتيجة التلوث البيئى أو بسبب عادات سلبية مثل التدخين أو التعرض للإشعاعات أو التعرض للأمواج الكهرومغناطيسية، تتكون كميات كبيرة من “الجذور الحرة”، ولا يستطيع الجسم السيطرة على هذا الكم الهائل منها، وبالتالى فأنه يحتاج لمساعدة خارجية بتناول “مضادات الأكسدة”.
فى هذه المقالة سوف استعرض مشاكل امتصاص الإشعاع فى الكائنات الحية، وآثار الإشعاع على الكائنات الحية – النبات والحيوان والإنسان – والعواقب المتأخرة نتيجة التعرض للإشعاع.
الإشعاع إما أن يكون طبيعى أو اصطناعى. فالإشعاع الطبيعى إما أن يكون مصدره المواد المشعة والتى نواة ذراتها غير مستقرة (مثل اليورانيوم) وهى من مكونات القشرة الأرضية ، أو يكون مصدره الفضاء الكونى (الشمس والنجوم). والإشعاع الاصطناعى ينتج من التطبيقات العملية التى تتعامل مع ذرات بعض المواد بغرض استخدام الأشعة الناتجة فى المجالات المختلفة لخدمة الإنسان.
الطاقة النووية يمكن أن تكون مفيدة للغاية أو خطيرة للغاية، ويعتمد ذلك على كيفية استخدامها. فنحن نستخدم الإشعاعات النووية فى الكشف والعلاج، فهى تستخدم بشكل واسع لتشخيص حالة العظام والفقرات والمفاصل وعظام الجمجمة وتوضح ما بها من أمراض وعلل كالكسور وبيان تكلسها والتئامها، وتشخيص حالات التهابات أو تسوس وهشاشة العظام، وتشخيص التهاب المرئ والمعدة والأثنى عشر والتهابات القولون، وتشخيص حجم ووظيفة الكلى والحالب والمثانة والحصوات التى بها، وتشخيص حالات الانسداد فى الأوردة والشرايين. كما تستخدم فى معرفة ما إذا كان هناك نزيف أو ورم فى الدماغ أو بقية أعضاء الجسم بالإضافة الى الكثير من الأمراض التى يعانى منها الإنسان. ولا يقتصر دور الأشعة على تشخيص الأمراض بل لها دور كبير فى علاج الأمراض، وتستخدم فى معالجة بعض السرطانات جنباً إلى جنب مع العلاج الكيميائى والهرمونى. ومن أهم استخداماتها هو استخدامها فى محطات توليد الكهرباء. ولكن على العكس فإننا نستخدمها فى الأسلحة النووية.
هناك إشعاع طبيعى متواجد بداخلنا وخاصة فى العظام، فجميع الناس لديهم إشعاع داخل أجسامهم منذ الولادة ، وبشكل رئيسى من المواد المشعة مثل البوتاسيوم -40 والكربون -14. بالإضافة إلى ذلك، هناك جرعات إشعاعية إضافية تأتى من الأكل والشرب ومن الأرض ومن الأشعة الكونية ومن استنشاق الهواء، وذلك نتيجة استنشاق غاز الرادون المشع أثناء عملية التنفس الطبيعى، حيث أن الهواء يحتوى بشكل أساسى على غاز الرادون، وهو المسؤول عن معظم الجرعات التى يتلقاها البشر كل عام من “الإشعاع الطبيعى”.
وحدة قياس الإشعاع هى “سيفرت”، والسيفرت هى الوحدة الموزونة لقياس الجرعة الممتصة فى الأنسجة الحية، وتستخدم فى وضع معايير الوقاية الإشعاعية، وتأخذ بعين الاعتبار الآثار البيولوجية للأنواع المختلفة من الإشعاع وهى تشير إلى الجرعة المكافئة. والسيفرت مساوى 1000 مللى سيفرت.
حسب قدرة البشر على تفسير معنى الإشعاع فقد وجدوا أن نواة أى ذرة تتكون من جسيمات تحمل شحنة موجبة تسمى البروتونات وجسيمات لا تحمل شحنة كهربائية وتسمى نيوترونات. ولكى تتواجد المادة فلابد من لم شمل البروتونات والنيوترونات لتكوين نواة الذرة. السؤال : كيف يتم لم شمل مكونات النواة؟، وخاصة وأن البروتونات تحمل شحنة موجبة وتتنافر مع بعضها البعض. فلابد من وجود طاقة أكبر من طاقة التنافر الموجودة بين البروتونات لكى تجبرهم على التعايش مع بعض. اتضح أن كتلة نواة الذرة وهى مكتملة البروتونات والنيترونات أقل من مجموع كتل البروتونات والنيوترونات منفردة ، فهناك فرق فى الكتلة والتى تتحول الى طاقة بناءً على قانون “أينشتاين”. وبذلك فقد تم تفسير وجود الطاقة التى تستطيع لم شمل مكونات النواة ، ويطلق عليها أسم “طاقة الترابط”.
نواة الذرة المستقرة تمتلك طاقة ترابط كبيرة بما يكفى لاحتواء مكونات النواة. لكن فى نواة الذرة الغير مستقرة (المشعة) نجد أن طاقة الترابط لا تكون قوية بما يكفى لاحتواء مكونات النواة، وبالتالى لكى تستقر النواة فلابد من فقد بروتونات ونيوترونات للحد الذى تصبح فيه طاقة الترابط تستطيع لم شمل مكونات نواة الذرة، وتصبح الذرة مستقرة. وعندما تفقد الذرة بروتونات ونيوترونات يقال أن الذرة تتفكك أو يحدث لها اضمحلال، وهذا الاضمحلال يحدث تلقائيا بغرض الوصول الى حالة الاستقرار، ويتم ذلك على مدى فترات زمنية متفاوتة، من ميكروثانية إلى مئات الآلاف من السنين.
الإشعاع المؤين هو نوع من الطاقة تطلقه ذرات المواد الغير مستقرة فى شكل جسيمات أو موجات كهرومغناطيسية حيث ينطلق الإشعاع تلقائيا. وهناك عدة أنواع من الجسيمات أو الموجات التى قد تنطلق من نواة الذرة المشعة. وهى جسيمات ألفا وجسيمات بيتا وأشعة جاما وكذا النيوترونات، وهى الأشكال الأكثر شيوعاً للأشعة المؤينة (أى الخطيرة). والتأين هو أن تفقد الذرة الكترونات وتصبح موجبة الشحنة. الأنواع المختلفة من المواد المشعة تشع هذه الأنواع من الإشعاع مع الاختلاف فى شدتها وطاقاتها. المادة المشعة تأخذ أشكال فيزيائية عديدة – يمكن أن تكون صلبة أو سائلة أو غازية – كما يمكن أن تكون فى أشكال كيميائية مختلفة. وينطلق هذا الإشعاع عندما تتحول نواة الذرة الغير مستقرة إلى نواة ذرة أخرى أو تنتقل الى مستوى طاقة آخر. وقد تكون الطاقة التى يحملها هذا الإشعاع كافية للتسبب فى تلف الخلايا الحية وبالتالى فهى تشكل خطراً على الكائنات الحية وعلى صحة الإنسان. وبالتالى ، فإن الإشعاع هو السبب الرئيسى لمخاوف الأمان المتعلق بالطاقة النووية.
جسيمات “ألفا” تتكون من 2 بروتون و 2 نيوترون(نواة ذرة الهيليوم). وجسيم “ألفا” ينطلق فى كثير من الأحيان نتيجة تفكك الذرات الكبيرة. جسيمات “ألفا” كبيرة نسبيا وشحنتها موجبة، وبالتالى فإن قدرتها على الأختراق للمواد ضعيفة. وهى تسير فى الهواء لمسافة 5 سنتيمتر فقط ، وتستطيع قطعة ورق رقيقة أن توقف سيرها فى الجو. وجسيم “ألفا” يمكنه أن يخترق 0.005 سنتيمتر من نسيج جلد الإنسان ثم يتوقف. ومع ذلك ، فان جسيمات “ألفا” تتسبب فى وقوع ضرر كبير فى المواد التى تتوقف داخلها.
جسيمات “بيتا” هى “إلكترونات” نشطة تنبعث من نواة الذرة عندما يتحول النيوترون إلى بروتون. بعض النظائر تتحلل عن طريق تحويل بروتون إلى نيوترون ، وبالتالى ينبعث منها “بوزيترون” (مضاد للإلكترون). يمكن لجسيمات “بيتا” أن تخترق المادة أكثر من جسيمات “ألفا” ، وتستطيع صفيحة ألومنيوم رقيقة أن توقف سير معظم جسيمات “بيتا” فى الجو. وجسيمات “بيتا” يمكنها أن تخترق النسيج الحى لجسم الإنسان بعمق واحد سنتيمتر وتتوقف.
أشعة “جاما” عبارة عن “فوتونات” منبعثة من النواة وهى تنتقل فى شكل موجات كهرومغناطيسية. عندما تكون الذرة فى الحالة المثارة فلابد من إطلاق أشعة “جاما” منها لكى تعود الى حالتها الطبيعية. أشعة “جاما” ليس لها شحنة ، ويمكن أن تخترق معظم المواد بسهولة ، مما يتطلب قوالب من الرصاص للوقاية منها، وهى قادرة على اختراق جسم الإنسان والخروج من الطرف الآخر.
إشعاع النيوترونات ، إنطلاق النيوترونات الحرة من الذرات يكون نتيجة انشطار نووى أو اندماج نووى، أو من التفاعلات النووية مثل الاضمحلال الإشعاعى أو التفاعلات بين الجسيمات. وتتفاعل هذه النيوترونات الحرة مع نوى الذرات الأخرى وتشكل نظائر جديدة ، والتى بدورها قد تنتج إشعاعاً. النيوترونات الحرة غير مستقرة ، وتتحلل إلى بروتون وإلكترون ، و”نيوترينو الكترون مضاد”. وهذه الأشعة قادرة على اختراق جسم الإنسان وهى ذات خطورة شديدة. وأكثر المواد المستخدمة فى الوقاية من النيوترونات فى العديد من قطاعات العلوم والهندسة النووية هو دروع من الخرسانة المسلحة بسمك 1 متر.
الأشعة السينية، هى شكل من أشكال الإشعاع الكهرومغناطيسى. الأشعة السينية تتوليد فى أنبوب مفرغ يستخدم جهدا عاليا لتسريع إلكترونات مادة الكاثود الساخن إلى سرعة عالية، وعندما تتصادم الإلكترونات عالية السرعة مع سطح الأنود تتولد الأشعة السينية. يمكن إيقاف الأشعة السينية بواسطة صفيحة سميكة من الرصاص، وهذه الأشعة قادرة على اختراق جسم الإنسان والخروج من الطرف الآخر.
أعضاء جسم الإنسان وأنسجته تتكون من خلايا ، وكل خلية تحتوى 46 “كروموسوم” وهى مرتبة على شكل 23 زوجا وكل زوج يتصل ببعضهما عند نقطة قرب المركز، والكروموسومات تركيبها يتكون من جينات وهى بذلك تحمل الصفات الوراثية. و”الكروموسومات” هى عبارة عن حزمة منظمة البناء والتركيب يتكون معظمها من “حمض نووى ريبى منقوص الأكسجين” DNA مع العديد من “البروتينات”. الكروموسومات هى المسؤولة عن انتقال الصفات الوراثية بشكل رئيسى من خلية إلى خلية ومن جيل إلى جيل.
الحمض النووى DNA هو أساس الكائنات الحية ووجود الحياة على الأرض. والصفات الوراثية مطبوعة على جزئ DNA. والحمض النووى عبارة عن سلاسل طويلة رقيقة جدا (شريط) ، وتأخذ هذه السلاسل شكل الحلزون المزدوج، وفى خارج الحلزون يوجد عمود فقرى الذى يربط الحمض النووى مع بعضه، وداخل كل سلسلة من الحمض النووى توجد مجموعات من التعليمات تسمى “الجينات”، وهذا “الجين” يخبر الخلية بكيفية صنع “بروتين” معين وتقوم الخلية بإستخدام “البروتينات” لأداء وظائف معينة فى النمو والبقاء على قيد الحياة. وبذلك فخلايا الجسم المختلفة تحصل على التعليمات المطلوبة للقيام بوظائفها من “الحمض النووى”.
يمكن أن يظهر تأثير الإشعاع على الجسم فورى أو بعد فترة. تأثير الإشعاع على الخلايا الحية إما يكون تأثير مباشر أو تأثير غير مباشر. وليس هناك فرق على الإطلاق إذا ما تم تدمير الخلية أو مكوناتها عن طريق التأثير المباشر أو غير المباشر. لكن إلحاق الضرر بالخلايا فى غالب الأحيان يكون نتيجة التأثير غير المباشر بسبب تواجد الماء بكميات كبيرة فى الخلايا والأنسجة.
التأثير المباشر، إما يكون فى أعضاء الجسم أو يكون فى العامل الوراثى. تأثير الإشعاع على الجسم إما يصيب جهاز المناعة أو يصيب الأنسجة الحية. والتأثير يعتمد على شدة الإشعاع ونوعه وزمن التعرض للإشعاع والمسافة بين مصدر الإشعاع والشخص، ويعتمد أيضا على العضو الذى تعرض للإشعاع لأن كل عضو من أعضاء الجسد له حساسية خاصة بالنسبة للإشعاع، كما يعتمد على عمر الشخص ، فإذا كان صغيراً أو فى مراحل العمر المتأخرة فإن خطر الإشعاع يزداد، وأخطر مراحل التعرض للإشعاع من حياة الإنسان فى مرحلة تكوين الأجنة، فى هذه الحالة يكون أكثر حساسية للإشعاع، مما يؤدى إلى التشوهات الجينية.
إذا زادت شدة الإشعاع المؤين الساقط على الخلية الحية فإنه يؤدى إلى تأين بعض مكوناتها وخصوصا جزئ الماء، الذى يمثل الجزء الأكبر فى أى خلية حية. وتؤدى هذه التفاعلات إلى تكوين ذرة “الهيدروجين” المتعادلة و جزئ “هيدروكسيد” متعادل، وهم معروفين بنشاطهم الكيميائى الشديد. يتم تفاعل هذه النواتج مع الجزئيات العضوية المختلفة فى الخلية الحية، ويؤدى هذا إلى حدوث تغيرات كيميائية قد تؤدى بدورها إلى إحداث تغيرات فى وظيفة الخلية. ويتراوح زمن ظهور تأثير التغيرات الكيميائية التى حدثت فى الخلية بين عدة دقائق وعشرات السنين، وناتج هذه التأثيرات إما أن يؤدى الى موت الخلية أو تأخر انقسام الخلية أو منع انقسام الخلية أو زيادة معدل انقسامها أو حدوث تغيرات مستديمة فى الخلية تنتقل وراثيا إلى الخلايا الجديدة، والتى بدورها تنتقل من جيل الى جيل.
تأثير الإشعاع فى “الحمض النووى”DNA ينطوى على خطورة كبيرة ، فيمكن أن يتسبب فى حدوث سرطان. وحيث أن “الحمض النووى” هو المسؤول عن نقل الصفات الوراثية فى الخلايا، فإن الإشعاع يمكن أن يتسبب فى تلف “قواعد” شريط الحمض النووى، وهذا يؤدى فى الغالب الى ظهور التشوهات، وفى بعض الحالات يؤدى الى موت الخلية، أو يتسبب الإشعاع فى كسر أحادى أو مضاعف لسلسلة “الحمض النووى” ، مما يؤدى إلى محو الصفات الموجودة فى الجزء المدمر من شريط الحمض النووى. وبالتالى نتيجة تعرض الأب أو الأم أو كلاهما للإشعاع المؤين وخاصة أثناء فترة الحمل بالنسبة للأم، فإن الأشعاع يعمل على إحداث تشوهات فى “الحمض النووى” والذى بدوره يؤدى إلى تشوهات جسمانية أو عقلية لدى الأطفال منذ الولادة وفى بعض الحالات لا تظهر هذه التشوهات الوراثية إلا بعد عدة أجيال من التعرض للإشعاع مما يؤدى إلى صعوبة متابعتها لدى الإنسان.
التأثير غير المباشر، التأين والإثارة التى تحدث للخلية الحية نتيجة الإشعاع تتم فى فترة زمنية تقاس بالفيمتو ثانية، فهى فى حدود عُشر فيمتو ثانية. ونتيجة أن الماء هو المكون الرئيسى للخلية ويمثل 75% من تكوينها، فإن نسبة كبيرة من الإشعاع تمتصها جزيئات الماء ويؤدى الى حدوث تأين لجزئ الماء ويصبح جزئ الماء موجب بعد انطلاق الإلكترونات والتى تسمى “الإلكترونات المائية”. جزئ الماء الموجب ينقسم الى أيون هيدروجين موجب (وهو عبارة عن “بروتون” لأن ذرة الهيدروجين تتكون من بروتون واحد والكترون واحد)، والى “جذر هيدروكسيل” وهو جزئ ماء فاقد ذرة هيدروجين وتبقى فيه بالتالى ربطة سائبة حرة، وهذا الجزئ يسمى “الجذور الحرة” فهو جزئ يتألف من ذرة هيدروجين وذرة أكسجين مع الكترون فردى، وهذه الإلكترونات الفردية (الغير مزدوجة) غالبا ما تكون نشطة، ولذلك فهى تلعب دورا فى التفاعلات الكيميائية للعمليات الحيوية التى تتم فى جسم الإنسان. و”الجذور الحرة” تقوم بمهاجمة “الحمض النووى” DNA والحامل للشفرة الوراثية، وتحدث تفاعلات مع مكونات الخلية الحية، وبالتالى يحدث خلل فى وظائف الخلية الحية، وهى الخطوة الأولى نحو حدوث سرطان.
تحت الإشراف الطبى لا يوجد خوف من إستخدام الإشعاع فى حالات الكشف أو العلاج بالمواد المشعة، فإن كمية الإشعاع التى يتعرض لها الجسم تكون ضئيلة جدا بحيث لا يتسبب عنها أى ضرر. وبداية التخوف من حدوث السرطان بجسم الإنسان نجدها عندما تزيد الجرعة الإشعاعية السنوية التى يتعرض لها الشخص العادى عن 100 مللى سيفرت، لكن الجرعات الإشعاعية التى تستخدم فى الطب هى أقل بكثير من هذه الكمية. فعلى سبيل المثال نجد أن جرعة الكشف بالأشعة السينية على الصدر هى 0.1 مللى سيفرت، وجرعة الكشف بالأشعة السينية على البطن هى 8 مللى سيفرت، وجرعة الكشف بالأشعة المقطعية على البطن والحوض هى 20 مللى سيفرت ، وجرعة الكشف بالأشعة المقطعية على الصدر هى 7 مللى سيفرت، جرعة أشعة “الماموجرافى” (الثدى) هى 0.4 مللى سيفرت، جرعة الأشعة للكشف على الأسنان هى 0.005 مللى سيفرت.
نحن نتعايش مع الإشعاع فى كل لحظة من حياتنا “من الميلاد حتى الممات” فبداخلنا يوجد إشعاع ومن خارجنا يحيط بنا الإشعاع. ويختلف التعرض للإشعاع الطبيعى من مكان إلى مكان اعتمادًا على جيولوجية المكان وارتفاع المكان عن سطح البحر. والجرعات الإشعاعية التى نتعرض لها من الطبيعة غير ضارة تمامًا. ولو عرفنا أن متوسط الجرعة السنوية للإشعاع الطبيعى حوالى 2.8 مللى سيفرت، ومصادرها هى “من استنشاق غاز الرادون 1.2 مللى سيفرت، ومن الإشعاع الأرضى 0.5 مللى سيفرت، ومن الإشعاع الكونى 0.4 مللى سيفرت، ومن الأكل والشرب 0.3 مللى سيفرت ، ومن الإقامة بالقرب من محطة نووية 0.001 مللى سيفرت”. ونحذر هنا السادة المدخنون فالإنسان المدخن لعشرون سيجارة فى اليوم يحصل على جرعة إشعاعية مقدارها 8.8 مللى سيفرت فى السنة وهى تعادل ثلاثة أضعاف جرعة الإشعاع الطبيعى.
الجرعات الإشعاعية المسموح بها للعاملين فى مجال الكشف بالأشعة والعاملين فى مجال الصناعات النووية يتم تحديدها من قبل الهيئات الدولية المنظمة للعمل فى مجال الإشعاع. كما أنه من المرجح أن يزيد احتمال تعرض أعضاء فريق الإنقاذ والعاملين فى المحطة النووية فى حالة حدوث حادثة لجرعات إشعاعية عالية بما يكفى لإحداث آثار حادة. فعلى سبيل المثال نجد أن 20 مللى سيفرت فى السنة هى حد الجرعة لموظفى الصناعة النووية وعمال مناجم اليورانيوم. جرعة 50 مللى سيفرت هى الجرعة المسموح بها على المدى القصير للعاملين فى حالات الطوارئ. جرعة 100 مللى سيفرت هى أدنى مستوى سنوى يظهر فيه ارتفاع خطر الإصابة بالسرطان، وهى الجرعة المسموح بها للعاملين في حالات الطوارئ والذين يتخذون إجراءات علاجية حيوية خلال فترة زمنية قصيرة. وجرعة 130 مللى سيفرت فى السنة هى المستوى الآمن طويل الأجل للجمهور بعد وقوع حادث إشعاعى. وجرعة 170 مللى سيفرت فى الأسبوع هى المستوى الآمن المؤقت لمدة 7 أيام للجمهور بعد وقوع حادث إشعاعى. جرعة 500 مللى سيفرت هى الجرعة المسموح بها على المدى القصير للعاملين فى مجال الطوارئ والذين يتعاملون فى إجراءات إنقاذ الحياة. جرعة 1000 مللى سيفرت خلال فترة زمنية قصيرة، من المفترض أن تسبب سرطانًا مميتًا بعد عدة سنوات، فى حوالى 5 من كل 100 شخص معرضين للإشعاع، وكذا هى الحد الذى عنده يحدث مرض الإشعاع “متلازمة الإشعاع الحاد” وهى حالة مؤقتة. وجرعة 5000 مللى سيفرت خلال فترة زمنية قصيرة، سيموت حوالى نصف هؤلاء الذين يتلقون هذه الجرعة جرعة كاملة للجسم خلال شهر واحد. وجرعة 10000 مللى سيفرت خلال فترة زمنية قصيرة، سيموت كل من تعرض لهذه الجرعة خلال فترة زمنية قصيرة أو خلال أيام أو خلال بضعة أسابيع. مثل هذه التعرضات الحادة نادرة للغاية.
متلازمة الإشعاع هى مجموعة علامات وأعراض قد تظهر بعد الجرعة التى تشمل الجسم بأكمله، مثل الغثيان والقئ وانخفاض عدد خلايا الدم البيضاء ، والجرعة فى هذه الحالة تزيد عن 1000 مللى سيفرت (أى أعلى 300 مرة من الجرعة السنوية للتعرض للإشعاع الطبيعى). وهى تتعلق بتلف النخاع العظمى حيث يتم إنتاج خلايا الدم.
نشر الخوف من الطاقة النووية تعتبر من السياسات المستوردة والمغرضة. حالات الوفاة نتيجة الحوادث الإشعاعية تعتبر أقل من حالات الوفاة نتيجة حوادث السيارات أو الطائرات أو القطارات أو السفن الخ. فأكبر كارثة إشعاعية حدثت كانت نتيجة حادث محطة “تشرنوبل” النووية فى 26 إبريل 1986 ، وكان إجمالى الوفيات المؤكد 56 شخص حتى عام 2008. كما أصيب أكثر من 200 من الموظفين الآخرين ورجال الإطفاء بمرض الإشعاع ، وقد تعرض سكان المناطق القريبة من المحطة لجرعة إشعاعية مقدارها 450 مللى سيفرت ، قبل أن يتم إجلاؤهم. وهذه الكارثة تعتبر أقل بكثير جدا من كارثة مدينة “بوبال” الهندية، حيث حدث انفجار فى مصنع “يونيون كاربيد” للمبيدات فى 3 ديسمبر 1984 مما أدى إلى انطلاق غاز “ميثيل إيزوسيانات”، وتعرض أكثر من نصف مليون نسمة لهذا الغاز. وبلغت حصيلة الوفيات الفورية الرسمية 2259 شخصاً، وكان إجمالى عدد الوفيات خلال الأيام الثلاثة الأولى هو 10 ألاف شخص ، وحوالى 25 ألف شخص ماتوا فى السنوات اللاحقة.
فى الختام، نقول ان الإشعاع النووى يعتبر الأقل خطورة على الإنسان من المصادر الأخرى، فبسبب تعاطى التبغ فهناك أكثر من 5 ملايين حالة وفاة فى السنة فى العالم، وبسبب حوادث المرور فهناك حوالى 1.23 مليون حالة وفاة سنوياً فى العالم.
وفقنا الله الى ما فيه الخير لشعب مصر ، والله هو الموفق والمستعان.