الأم والمدينة في رواية “ليالي عبادان “ : سرد التمسك بالجذر والهوية للكاتب عدنان الحيدري
حسن غريب:
ناقد باحث
رسم العلاقة بين الإنسان والمكان:
تمثل رواية ليالي عبادان للكاتب عدنان الحيدري تجربة سردية عراقية حديثة تعيد رسم العلاقة بين الإنسان والمكان في سياق الحروب والتحولات الاجتماعية. تعكس الرواية التشابك بين الذاكرة الفردية والجماعية، حيث تتحول المدينة، وخصوصًا البصرة، إلى شخصية فاعلة تتفاعل مع الشخصيات وتؤثر في سلوكها ووعيها.
تسعى هذه الدراسة إلى تحليل الرواية من زاويتين: المكان والمدينة كعنصر سردي، وشخصية الأم بوصفها محورًا رمزيًا ووجدانيًا، مع التركيز على دلالتها العميقة في نصيحتها بالتمسك بالبصرة.
أولًا
: المكان بوصفه بطلًا سرديًا
يشكل المكان في الرواية محورًا متحركًا، يتقاطع مع دوافع الشخصيات الداخلية ويؤطر السرد بأبعاده الرمزية والوجدانية:
1. عبادان كمدينة ذاكرة المدينة ليست مجرد إطار جغرافي، بل مساحة للعيش والحنين والمأوى النفسي، تتشكل شخصيات الرواية وفقًا لتنوعها الاجتماعي والثقافي.
2. المكان والخراب الحرب تحول المكان من حضن دافئ إلى مسرح للدمار، مع انعكاسات عميقة على الشخصيات، لتصبح المدينة مرآة لاضطرابهم النفسي.
3. المكان والمنفى الداخلي حتى بعد ترك المدينة، يظل حضورها في الذاكرة حاضرًا، مما يربط الرواية بالموضوعة الكبرى للحنين والخسارة والهوية.
ثانيًا:
الشخصيات بين الغواية والارتباك
1. الأم بوصفها محور الذاكرة والتمسك بالأرض
تظهر الأم بوصفها البؤرة الوجدانية في الرواية، غالبًا غائبة عن المشهد المباشر، إلا أن دلالتها الرمزية عميقة جدًا. تمثل البراءة والأصالة والتمسك بالأرض، وتبرز في نصيحتها الحاسمة لابنها قبل موتها:
> «لا تترك البصرة أبدًا يا ولدي»، فيرد الابن: «لن أتركها، لأنها أنتِ التي لا تتركني».
هذا الحوار الصغير يلخص العلاقة العضوية بين الإنسان والمكان، ويحوّل الأم إلى رمز للهوية والجذر والذاكرة، فيما يصبح غيابها موتًا جزئيًا لكل معاني الاستقرار والانتماء. الأم في الرواية ليست مجرد شخصية، بل عنصر حيوي يضفي على السرد عمقًا وجدانيًا ويضبط العلاقة بين الشخصيات والمكان والزمان.
2. الأب بوصفه رمز الاستقرار العملي
الأب يمثل قوة حماية وعملية، متوازنًا مع حضور الأم العاطفي. بينما الأب يمثّل الواجهة العملية، الأم تمثل الواجهة الإنسانية والوجدانية.
3. الأبناء كمرآة للأم
الأبناء يعيون أهمية الأم في حمايتهم الروحية وتوجيههم في فهم مكانهم وهويتهم، ويتجاوبون مع وصاياها ووجودها الرمزي في كل خطوة.
4. الشخصيات الثانوية
الجيران والأصدقاء يرون في الأم نموذجًا للحكمة والصمود، مما يعكس حضورها كأمّ روحية للمدينة والمجتمع بأسره.
ثالثًا: النصيحة بعدم ترك البصرة
تتجلى نصيحة الأم في الرواية بوصفها موقفًا مقاومًا وفعلاً رمزيًا للتمسك بالجذور:
> «لا تتركوا البصرة… مهما ضاقت بكم الدنيا».
النصيحة تجمع بين البقاء والمقاومة، وتحوّل المدينة إلى رمز للهوية والانتماء والذاكرة الجماعية. يمثل هذا الموقف صراعًا بين الرغبة في النجاة الفردية وبين الولاء للمكان الجريح، ويجعل الرواية تحافظ على بعد إنساني وعاطفي عميق رغم فداحة الأحداث التاريخية والاجتماعية.
رابعًا: الزمن والسرد
توظف الرواية تقنيات سردية متوازنة تجمع بين:
زمن الحاضر المضطرب: أحداث الحرب والتهجير.
زمن الماضي المستعاد: ذكريات المدينة والمكان والطفولة.
التقاطع بين الأزمنة يعكس الصراع بين الانكسار والمقاومة ويبرز الأم كمركز للذاكرة والوعي.
خامسًا: اللغة والأسلوب
تميزت الرواية بلغة شعرية مقطّرة، مقتضبة، غير مملة أو فضفاضة، تعكس وعي الكاتب الكامل بما يريد أن يقوله.
الإيقاع السردي سريع ومتوازن، ينسجم مع الأحداث دون أن يفقد القارئ إحساسه بالعمق النفسي والوجداني، ويجعل من الرواية نصًا حيويًا يستطيع القارئ أن يعيش أحداثه بروح الشخصيات ومكانها.
سادسًا: الدلالات الفكرية
الهوية والانتماء: الأم والمدينة رابطان لا ينفصلان.
الذاكرة كقوة: الحفاظ على الماضي يمنح القوة للبقاء والصمود.
الصمود الإنساني: الأم رمز الصبر والقدرة على مواجهة الخراب.
الشهادة على التاريخ: الرواية وثيقة وجدانية على فترة صعبة من التاريخ العراقي الحديث.
سابعًا: نقاط القوة ومساحات التطوير
نقاط القوة
1. مركزية الأم ورمزيتها: تحليل متعمق للأم ونصائحها ومكانتها الرمزية.
2. تحليل المكان والمدينة: إبراز البصرة كمدينة ذاكرة وتأثيرها على الشخصيات.
3. اللغة والإيقاع السردي: لغة شعرية مقطّرة، وإيقاع سريع ومتوازن.
4. الدلالات الفكرية والرمزية: تمسك الشخصيات بالجذر والهوية والذاكرة.
مساحات التطوير
1. غياب تفاصيل بعض الشخصيات الثانوية: تركيز كبير على الأم فقط.
2. قلة التوثيق التاريخي والاجتماعي المفصل: لم يتم التوسع في الخلفية الاجتماعية والسياسية.
3. نقص في المقارنة النقدية مع أعمال أخرى: عدم ربط الرواية بأعمال عربية أو عراقية مشابهة.
4. التركيز الرمزي على الأم فقط: قد يطغى على تحليل الشخصيات الأخرى.
خاتمة نقدية
تؤكد ليالي عبادان أن العلاقة بين الإنسان والمكان ليست مجرد إطار جغرافي، بل أرض للهوية والذاكرة والإنسانية. شخصية الأم، من خلال نصيحتها بالبقاء في البصرة، تبرز كرمز للمقاومة والدفء الإنساني، وتتحول إلى المركز الذي يربط كل عناصر الرواية ببعضها: المكان، الشخصيات، الزمن، والذاكرة.
الإيقاع السردي المتوازن، واللغة الشعرية المقتضبة، والدلالات الرمزية العميقة تجعل من الرواية نصًا متكاملًا يعكس صمود الإنسان العراقي وارتباطه بالجذور رغم كل التحديات.
المراجع:
سعيد يقطين (1997).
انفتاح النص الروائي: النص والسياق. المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء.
يمنى العيد (2000).
في معرفة النص: قراءة نظرية في الرواية العربية. دار الآداب، بيروت.
محمد برادة (2008). استعادة الزمن البهيّ. منشورات الاختلاف، الجزائر.
بول ريكور(2009).
الذاكرة، التاريخ، النسيان. ترجمة جورج زيناتي. دار الكتاب الجديد، بيروت.
نورا، بيير (1984–1992). أماكن الذاكرة. سلسلة موسوعة لافاييت، باريس.
عبد الله
إبراهيم (1990).
المتخيل السردي. المركز الثقافي العربي.
جوليا كريستيفا(1997). أسطورة الأم، ضمن قوى الرعب. ترجمة جلال بدلة. وزارة الثقافة السورية.
سيمون دي بوفوار.
الجنس الآخر. ترجمة كامل يوسف حسين. دار الآداب، بيروت.
نورة الغامدي (2012).
صورة المرأة في السرد العربي الحديث. دار الحوار، اللاذقية.
عبد الخالق كيطان (2018). السرد العراقي بعد 2003: تحولات الحساسية والأصوات الجديدة. دار الرافدين، بيروت.
شجاع االعاني(1986).
الحرب في الرواية العراقية. دار الشؤون الثقافية، بغداد.
