الأطعمة فائقة التصنيع دائما ما تكون العدو الأول في نقاشات خبراء التغذية، فالكثير منهم يربطها بالخرف والسمنة وإدمان الطعام، ويعتبرونها منتجات مصنعة عمدا لتحفيز الدماغ على الأكل الزائد وتحقيق أرباح الشركات.
تتهم هذه الأطعمة بأنها السبب وراء عدد من أمراض العصر بداية من رقائق البطاطس إلى الوجبات الجاهزة والمشروبات الغازية، لذلك يقترح بعض صناع القرار فرض ضرائب عليها أو وضع تحذيرات على عبواتها أو حتى منع بيعها قرب المدارس، لكن السؤال الجوهري هو هل هذا الهلع يستند فعلا إلى دليل علمي قوي؟
الباحثون في جامعة ليدز حاولوا النظر إلى المسألة من زاوية مختلفة، ما الذي يجعل الناس يحبون طعاما ما؟ وما الذي يدفعهم إلى الإفراط في تناوله حتى بعد زوال الجوع؟ أجريت الدراسة على أكثر من ثلاثة آلاف شخص في المملكة المتحدة قيموا أكثر من أربعمائة نوع من الأطعمة اليومية، وكانت النتيجة أن التفسير التقليدي الذي يربط الإفراط في الأكل بدرجة تصنيع الطعام مبسط أكثر مما يجب، وأن ما يحرك السلوك الغذائي في الحقيقة هو التصورات والمعتقدات حول الطعام وليس مكوناته فقط.
تختلط في النقاشات الغذائية فكرتان مختلفتان أولا الإعجاب بالطعام من حيث الطعم، ثانيا الإفراط في الأكل بدافع المتعة، فالأول يتعلق بالاستساغة، أما الثاني فيشير إلى الاستمرار في الأكل لأن ذلك يشعرنا بالرضا، قد يحب الناس العصيدة مثلا، لكن نادرا ما يفرطون فيها، بينما تحتل الشوكولاتة والبسكويت والآيس كريم المراتب الأولى في النوعين معا.
في ثلاث دراسات موسعة عبر الإنترنت طلب من المشاركين تقييم صور لأطعمة غير مميزة بعلامات تجارية، مثل البطاطس المشوية والتفاح والمكرونة وفطيرة اللحم والبسكويت بالكاسترد، من حيث درجة الإعجاب بها واحتمال الإفراط في تناولها، ثم قورنت النتائج مع محتوى هذه الأطعمة من الدهون والسكر والألياف والكثافة الحرارية، ومع درجة تصنيفها ضمن نظام “نوفا” الذي يقيس مدى تصنيع الطعام، إضافة إلى تصورات الناس عنها من حيث كونها “حلوة” أو “دهنية” أو “صحية”.
كانت بعض النتائج متوقعة، فالأشخاص أحبوا الأطعمة التي يتناولونها كثيرا، كما أن الأطعمة الغنية بالسعرات كانت أكثر إغراء للأكل الزائد. لكن المفاجأة كانت في قوة تأثير المعتقدات، فمجرد إدراك الناس لطعام ما على أنه دهني أو حلو أو مصنع زاد من احتمال الإفراط في تناوله، حتى لو لم يكن غنيا بهذه المكونات فعليا، أما الأطعمة التي يعتقد أنها مرة أو غنية بالألياف فقل احتمال الإفراط فيها، في أحد الاستطلاعات، استطاع الباحثون التنبؤ بنسبة 78% من التفاوت في سلوك الأكل المفرط عند الجمع بين المعلومات الغذائية ومعتقدات الأشخاص عن الطعام.
هذا يعني أن طريقة تفكيرنا في الطعام تؤثر على طريقة تناولنا له بقدر ما تفعل مكوناته الحقيقية. وهنا برزت مفارقة أخرى، تصنيف الأطعمة على أنها “فائقة التصنيع” لم يضف سوى القليل إلى النماذج التنبؤية، إذ لم يفسر سوى أقل من 2% من الفروق في الإعجاب بالطعام و4% فقط في سلوك الإفراط في الأكل بعد أخذ المتغيرات الأخرى في الحسبان.
ولا يعني ذلك أن الأطعمة فائقة التصنيع كلها غير ضارة، فالكثير منها عالي السعرات وفقير بالألياف وسهل الإفراط في تناوله، لكنها فئة واسعة جدا تضم أنواعا متباينة من المنتجات مثل المشروبات الغازية السكرية والحبوب الكاملة وألواح البروتين والبدائل النباتية للحوم، بعض هذه المنتجات قد يكون مفيدا، خصوصا لكبار السن أو لمن يتبعون أنظمة غذائية محددة. لذا فإن الرسالة العامة التي تصف كل هذه الأطعمة بأنها “سيئة” تبسط المشكلة إلى حد التضليل.
فالناس لا يأكلون بناء على تصنيفات التصنيع، بل بناء على الطعم والشعور الذي يمنحهم إياه الطعام، ومدى توافقه مع أهدافهم الصحية أو النفسية أو الاجتماعية، لذلك الاعتماد على تصنيف “الأطعمة فائقة التصنيع” لتوجيه السياسات العامة قد يأتي بنتائج عكسية، كأن يثني المستهلكين عن تناول منتجات صحية فعلا أو يربكهم في التمييز بين المفيد والضار.
ويرى الباحثون أن الحل لا يكمن في التحذيرات أو الحظر، بل في مقاربة أكثر وعيا وتخصيصا، تبدأ برفع الوعي الغذائي وتعليم الناس كيف يفهمون أسباب شهيتهم، ثم تطوير منتجات مصممة لتكون مشبعة ولذيذة في آن واحد، وأخيرا بمساعدة الأفراد على فهم دوافعهم العاطفية والاجتماعية للأكل، فالإفراط في الطعام ليس مجرد مسألة تصنيع أو مكونات، بل قصة معقدة من الإدراك والعادة والعاطفة.