مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

إهانة المبدع العربي

بقلم – حسن غريب أحمد:

ناقد باحث

لماذا لا تدفع المجلات الأدبية مكافآت للنشر ؟

وما الذي يصنعه الفساد الثقافي من خراب؟

في العالم العربي، لا يزال الكاتبُ آخر من تُفكّر فيه المؤسسات الثقافية، وآخر من يحصل على حقه، وأول من يُطلب منه أن يتبرّع بجهده ووقته وخبرته “لوجه الثقافة”، وكأن الثقافة صدقة، وكأن الإبداع مشروع خيري، وكأن السنوات التي ينحت فيها الكاتب نصّه ليست عملاً يستحق المقابل، بل هواية يمكن استدعاؤها مجانًا وقت الحاجة.

هذه ليست مجرد ظاهرة عابرة، بل مأساة ثقافية متجذرة تُفسِّر لماذا يظل الإبداع العربي يدور في مكانه، ولماذا يغادر المبدع الحقيقي بينما يبقى المزيّفون في الواجهة.

هذا المقال يحاول تفكيك أسباب الظاهرة بجرأة وصدق:

لماذا لا تُقدِّم معظم المجلات الأدبية العربية –ورقية كانت أو إلكترونية– أي مكافأة نشر  حقيقية للكاتب؟

ولماذا تتصدر المشهد أسماء ضعيفة، بينما يقف المبدع الحقيقي على الهامش؟

أولًا: غياب الرؤية… لا غياب المال فقط

ليس نقص التمويل هو المشكلة الأساسية، بل غياب الرؤية الثقافية.

المؤسسات الثقافية العربية –إلا قِلّة نادرة– لا ترى الكاتب بوصفه عاملًا فكريًا محترفًا، ولا تعتبر النص منتجًا معرفيًا له قيمة اقتصادية، ولا تضع في حساباتها أن مكافأة الكاتب جزء من صناعة ثقافة مستدامة.

إنها تتعامل مع الأدب بوصفه ترفًا، ومع الكاتب بوصفه متطوعًا، ومع العمل الأدبي بوصفه مادة مجانية يمكن الحصول عليها بسهولة.

هذه عقيدة ثقافية خاطئة قبل أن تكون مشكلة مالية.

وحتى إن منحت الكاتب مكافأة نشر لا تزيد عن بضعة جنيهات لا تغني ولا تسمن من جوع .

ثانيًا: المجلات الأدبية العربية مؤسسات بلا اقتصاد

في الغرب، الصحف والمجلات الثقافية تعيش على:

1-الاشتراكات

2-الإعلانات

3-رعايات المؤسسات

4-الدعم غير الربحي

5-بيع المحتوى

6-منظومة حقوق ملكية قوية

أما في العالم العربي، فالمجلة الثقافية غالبًا:

بلا تسويق

بلا رؤية تجارية

بلا دخل إعلاني

بلا خطط استدامة

بلا إدارة محترفة

ثم يطالبون الكاتب بالصمت لأن “لا ميزانية لدينا”!

وكأن الحل الطبيعي لضعف الإدارة هو سرقة جهد المبدع.

ثالثًا: الشللية… المرض العضال الذي يقتل الإبداع

هذا هو العصب المكشوف الذي يتجنب الكثيرون الحديث عنه:

الوسط الثقافي في بعض البلدان موبوءٌ بالمجاملة والشللية والتواطؤ.

فقد صار كثير من المنابر الثقافية أشبه بـ غرف مغلقة تدور فيها أسماء تتكرر، مهما كان مستواها، ومهما كانت رداءة النصوص.

يُنشر الضعيف لأنه ابن صداقة، ويُقصى الجميل لأنه خارج “الشلة”، ويُبرز أحدهم فقط لأنه مقرب من المسؤول، ويُدفن آخر لأنه لا يعرف أحدًا.

هكذا يتحول المشهد الثقافي إلى:

تحالفات صغيرة

ومصالح ضيقة

وفرص تُشترى بالعلاقات

ومواهب تُهمّش بلا ذنب سوى نزاهتها

وفي ظل هذا الفساد الناعم، يصبح دفع المكافأة أمرًا مستحيلًا:

فكيف يدفعون مالًا لكتابة لا يقدرون قيمتها أساسًا؟

رابعًا: غياب النقابات واللوائح… الكاتب بلا حماية

لا توجد آلية واحدة تحمي الكاتب العربي:

لا نقابة قوية، لا قوانين ملزمة، لا حد أدنى لحقوق النشر.

وبسبب هذا الفراغ:

تُنشر النصوص دون إذن

تُعاد نشرها دون حق

تُحذف الأسماء أو تُشوَّه

ولا تُصرف مكافآت لأن “لا أحد يجبرهم”

إنها فوضى ثقافية مكتملة الأركان، يدفع ثمنها من؟

الكاتب بالطبع، لأنه الحلقة الأضعف.

خامسًا: لماذا تتميز مجلات خليجية معدودة؟

لأنها تمتلك:

1. تمويلًا حقيقيًا

لا يُدار بعقلية الصدقة.

2. إدارة تعرف معنى الاحتراف

وتدرك أن الكاتب شريكٌ أساس، لا زائر مؤقت.

3. احترامًا للمبدع

وهو ما يفتقده كثير من المنابر العربية.

4. رؤية استراتيجية للهوية الثقافية

تجعل الأدب جزءًا من مشروع وطني، لا مجرد نشاط هامشي.

ولهذا أصبحت هذه المجلات ملاذًا للكاتب العربي…

وفي المقابل، أصبحت المنابر الأخرى مقابر للمواهب.

سادسًا: ما الذي ينتج عن هذا الوضع؟

1. إحباط المبدعين الحقيقيين

تتساقط المواهب واحدة تلو الأخرى، لأن بيئة لا تقدّر الكاتب لن تحتفظ به.

2. صعود أدعياء الأدب

فالعلاقات تفتح لهم الأبواب، والرداءة تجد لها منابر.

3. انحدار الذائقة العامة

لأن ما يُنشر لا يمثل أفضل ما كُتب، بل أفضل من “عُرف”.

4. هجرة العقول الثقافية

فالكاتب الذي يُهدر يُغادر… إلى مجلات أجنبية أو خليجية أو عالمية.

5. موت النقد الحقيقي

إذ يصبح النقد جزءًا من اللعبة، لا جزءًا من التطوير.

خلاصة رؤيتي أقول:

لا نهضة أدبية بلا احترام، ولا احترام بلا مكافأة

الكاتب العربي اليوم لا يحتاج فقط إلى منصة تنشر له، بل إلى:

مؤسسات تحترمه

سياسات تنصفه

نقابات تحميه

خطط تحفّزه

بيئة تُقدّر عقله قبل نصه

فالثقافة التي لا تدفع للكاتب، ولا تحميه، ولا تحتضنه، هي ثقافة تُعلن انهيارها مبكرًا.

لا يمكن أن نطلب من الكاتب أن يكون عظيمًا، بينما نصرّ على معاملته كمتطوّع.

ولا يمكن أن نتوقع نهضة أدبية، بينما المؤسسات تنشر الضعيف وتكافئ الرداءة.

احترام الكاتب ليس رفاهية…

بل هو الشرط الأول لأي مشروع ثقافي حقيقي.

قد يهمك ايضاً:

سر جاذبية عضوية مجلس النواب  ؟ .. !!بقلم …د / صبحي…

البصمة الكربونية بقلم أ.د/السيد حسن عِشرة