مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

إفتراض سطحية الأطفال خيانة لمخيلتهم

بقلم – رابعة الختام – مصر

ما أن تلقي الشمس بأشعتها الذهبية على فراش “نور” وتداعب أنفها خيوط النهار، ونسمات الهواء الباردة تتسلسل من باب شرفتها المطلة على الحديقة المزهرة، حتى تنهض الطفلة، تفتح نافذتها لإستقبال يوما جديدا.

ومضت الأحداث، سردت قصة طفلة إلتقطت حقنة فارغة بها بعض دماء ملوثة بفيرس “سي” الذي كان يمثل رعب من نوع نادر في هذا التوقيت، أصيبت الطفلة وغابت عن زميلاتها، إنقطعت عن الدراسة تماما.

بدأت رحلتها مع العلاج، وبدأ الزملاء بدورهم الرحلة مع التساؤلات عن المرض وطرق الوقاية منه، والعلاج المتاح، ودور وزارة الصحة والجهات الحكومية المعنية بالتوعية بهذا المرض المعدي.

كنت أسوق المعلومة مغلفة بالحكي المتوازن بين السرد القصصي السريع، والإستفاضة في إيضاح المعلومة، ليستوعبها الطفل وتعلق في ذهنه في قصتي القصيرة للأطفال.

ففي عام بعيد من أعوامي الأولى في بلاط صاحبة الجلالة كنت مندوبة لجريدتي الحزبية العريقة  بوزارة الصحة والسكان أنذاك، تجمعني علاقات عمل، وعلاقات ود بالكثيرين، وكنت أكتب القصة القصيرة، وبعض القصص المتناثرة للأطفال، وطلبت مني الطبيبة المسؤولة عن حملة الوزارة للتوعية بأمراض الكبد وفيرس سي للأطفال بأن أكتب قصة قصيرة لهم لتوعيتهم بهذا المرض الفتاك، ومسبباته وأعراضه، وكيفية الوقاية منه.

قد يهمك ايضاً:

قصيدة: دكان قديم عند المقام

أيها العابرون

فكتبت قصتي، “الحقنة القاتلة”، قرأتها الطبيبة بتركيز، لكنها طلبت مني تبسيط الكلمات والبعد عن الرمزية للطفل حتى يفهم، فأطفالنا حسب وصفها عقولهم أضيق من إستيعاب كلمات، رأتها مسؤولة الحملة أكبر من مستوى تفكير الطفل المصري، مثل (تلقي الشمس أشعتها، خيوط النهار، وغيرها من مفردات تعبيرية تضيف للنص جماليات تثريه، قالت أنها أكبر من مستوى الطفل المصري!!)

ضحكت، هذا التسطيح لن يخدم القصة ولا الطفل ذاته، فهو تجريف لجماليات النص، وجريمة في حق الطفل، خيانة للحكي أن أجرفه من الجمال وأتركه مجردا، عاريا، متصحرا، هل أكتب نص كسول لإنعدام ثقتي في طفل أراه في قرارة نفسي نابغ وله من الوعي ما يؤهله لفهم كثيرا من النصوص بل وتأويلها لإستنباط المعنى المختبأ بين سطور النصوص؟.

هذا الطفل الذي تربى على قصص عالمية وعربية قصها عليه بعض مذيعي الأطفال في برامج إذاعية وتلفزيونية شكلت الوعي الجمعي للأطفال بما يليق بذكائهم، وقصص رمزية خطتها أيادي كتاب أطفال محترفين، تذوقوا شعرا بكرا لشعراء إنتصروا للرمزية والقيم الجمالية المنثورة بذكاء بين الكلمات فأنتجوا من الشعر أعذبه وأقيمه، وقصص عالمية مترجمة إلى العربية بعيدة كل البعد عن الإنحدار الفني واللغوي الذي يهبط بالمحتوى إلى  التسطيح القاتل للخيال الإبداعي، والمفرغ للنصوص من معانيها الرمزية الراقية.

كان أحد وكلاء الوزارة يراقب الموقف من بعيد، وما أن أتيحت له الفرصة للحديث حتى إنفجر في الطبيبة التي وضعت فرضية ظالمة لعقلية الطفل المصري ثم تعاملت معها كمسلمة وواقع لا مناص منه، يقولون أن النساء لهن حق السقوط المطلق في رذيلة الكتابة، وغواية الشعر وترقيق الكلمات، لكنني من الرجال الذين يملكون رصيدا متواضعا من الكتابة، ولم أتنازل يوما ما عن تعبيراتي البلاغية الراقية، وجملي الشعرية المنثورة، ولا نثري الغارق في الحالة الشعرية القوية، أنا لا أنحدر بحجة أن القراء يريدون هذا، ولا أتقشف في الكتابة بزعم عدم ثقتي الكاملة فيمن يقرأ، لأنه ببساطة من يقرأ قرر أن يستفيد ويزيد رصيده الفني من الروعة والدهشة.

أنا شخصيا أوقن بأنه، بمنطق جبان، هارب من مسؤولياته الأدبية، أخرجنا نصوصا ضعيفة، باهتة، شديدة الفقر، ولا أعلم هل هي لصالح القراء؟، أم هم من يدفعوننا إليها؟ أم تبريرا لحالة التدني والضغف العام التي نعيشها على كافة المستويات، الفنية، الأدبية، الغنائية وحتى الأخلاقية.

قناعتي أن الكاتب المميز هو الذي يجبرك على الإستمرار في القراءة، هو القادر على خلق حالة من الدهشة والروعة لدى القارئ، وتقديم منتج أدبي رصين، حتى أن بعض جمل كتاباته يرددها البعض بإستمتاع.

أغلقنا الراديو المنزلي أمام شدو أم كلثوم، عبدالحليم حافظ، وديع الصافي، فيروز، وسمحنا لأوكا وأورتيغا ومجدي شطة، حمو بيكا بإختراق أسماعنا وتلويثها بتراهات سخيفة، وكلمات بذيئة، ومعاني تحض على الإنحدار في كل شيء، كما أطفأنا شاشات التليفزيون في وجه رقي فاتن حمامة، ورقة لبنى عبدالعزيز، ودلع شادية، وخفة ظل إسماعيل ياسين ونسينا جيل الفنانين الرائع من الشباب أمثال أحمد السقا، منة شلبي، منى ذكي، أحمد حلمي، وتركنا فتى أسمر يهبط بأبنائنا إلى القاع وللأسف الشديد يتخذه بعض شبابنا قدوة وأسطورة، بعدما نجح بفيلمين عن البلطجة وتجارة السلاح والمخدرات.

اترك رد