مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

أنسنة الجغرافيا.. حين جعل امرؤ القيس الجبل وليفًا

بقلم :الشريف محمد بن علي الحسني

مفكر ومؤرخ رئيس الرابطة العلمية العالمية للأنساب الهاشمية

 

ليست الأنسنة مفهومًا عمرانيًا وُلد مع نقد المدينة الحديثة، ولا شعارًا تخطيطيًا يُستدعى حين تختنق المدن بالإسمنت والوظيفة، بل هي في أصلها فعل إدراكي عميق، سابق على العمارة، سابق على المدينة، بل سابق على المصطلح ذاته.

الأنسنة في جوهرها ليست تحسين شروط العيش، بل إعادة صياغة العلاقة بين الإنسان والمكان، بحيث لا يبقى المكان حيّزًا صامتًا أو مادة محايدة، بل يدخل في دائرة الأُنس، ويغدو وليفًا في التجربة الوجودية.

بهذا المعنى الجذري، لا تكون الأنسنة فعل هندسة، بل فعل رؤية. والفرق بينهما أن الهندسة تُنظّم ما هو قائم، أما الرؤية فتُعيد تعريف ما هو موجود.

ومن هنا يمكن القول إن امرأ القيس لم يكن شاعر وصفٍ للطبيعة، بل مارس — بحدس شعري فطري — أعمق أشكال الأنسنة: أنسنة الجغرافيا ذاتها.

قد يهمك ايضاً:

قراءة نقدية في رواية “رجال في الشمس: رحلة الضياع بين…

حين وصف جبل ثبِير تحت غزارة المطر، لم يتعامل معه بوصفه تضاريس شاهقة أو كتلة صخرية تتلقى السيول، بل نزعه من حياده الجغرافي، وأدخله في حقل العلاقة الإنسانية، فقال: كأنّه شيخٌ في بجادٍ مُزَمَّل. بهذا التشبيه لم يُجمِّل المشهد، بل حوّله وجوديًا؛ الجبل لم يعد موضوعًا للرؤية، بل صار ذاتًا تُؤانَس. المطر لم يعد ظاهرة مناخية، بل كساء يلتف، والجغرافيا لم تعد خلفية صامتة، بل كائنًا يشارك الإنسان حالته.

هنا تتجلى الأنسنة بمعناها الدقيق: جعل الجغرافيا وليفًا. أي كسر المسافة النفسية بين الإنسان والمكان، وإلغاء شعور الغربة بين الكائن وما يحيط به.

الجبل عند امرئ القيس ليس خطرًا ولا حاجزًا ولا رمزًا للقسوة، بل شيخ وقور، مألوف الهيئة، يلبس كما يلبس الإنسان، ويتلقى المطر كما يتلقى العباءة، وهذا التحويل ليس استعارة لغوية عابرة، بل نقلة إدراكية من رؤية العالم بوصفه أشياء، إلى رؤيته بوصفه كائنات تشارك الإنسان وجوده.

الخطاب المعاصر حين يتحدث عن “أنسنة المدن” غالبًا ما يقصد تلطيف الفضاء العام، وتحسين التجربة الحسية، وجعل العمران أكثر قابلية للاستخدام البشري، وهذا جهد مشروع، لكنه يبقى في جوهره وظيفيًا؛ يجعل المكان صالحًا للإنسان، لا مؤنسًا له. أما ما فعله امرؤ القيس فهو أعمق من ذلك، لأنه لم يجعل المكان مريحًا، بل جعله قريبًا، ولم يحوّل الجغرافيا إلى خدمة، بل إلى صحبة.

الفرق بين الصُّحبة والاستخدام هو الفرق بين الأنس والوظيفة. المدينة المؤنسنة في الخطاب الحديث مدينة “تُلبّي”، أما الجغرافيا المؤنسنة عند امرئ القيس فهي جغرافيا “تُصاحِب”. ولهذا فإن سبق امرئ القيس ليس سبق زمن، بل سبق رؤية؛ لم يحتج إلى مدينة ولا إلى أزمة عمرانية ولا إلى نقد صناعي ليبحث عن الأنس، لأنه لم يرَ العالم يومًا صامتًا.

ما تحاول الفلسفات الحديثة بلوغه عبر تنظيرات المكان والسكن والوجود، بلغه امرؤ القيس عبر الخيال، لا لأنه شاعر فقط، بل لأنه رأى الوجود بعين غير مفصولة عن الإنسان. لم يكن المكان عنده إطارًا خارجيًا للحياة، بل شريكًا فيها. وهذا هو جوهر الأنسنة في معناها العميق: أن لا يعيش الإنسان في المكان، بل يعيش معه.

من هنا، لسنا بحاجة إلى استيراد مفهوم الأنسنة من حداثة قلقة، بقدر حاجتنا إلى استعادة جذوره في الخيال العربي المبكر. فحين جعل امرؤ القيس الجبل شيخًا، لم يكن يهرب من قسوة الصحراء، بل كان يؤسس — دون أن يدري — لفكرة كبرى: أن الإنسان لا يحتمل العالم ما لم يؤنسه، وأن الجغرافيا لا تُسكن حقًا إلا حين تصبح وليفًا