بقلم / أحمد الشرقاوى
رحلت أمي، وانطفأ في قلبي نورٌ كان يهديني في دروب الحياة. كانت السند الذي أتكئ عليه حين يثقلني التعب، والحصن الذي ألجأ إليه حين تضطرب الدنيا من حولي.
لم تكن مجرد أم، بل كانت الأمان حين تضيق بي الحياة، وكانت اليد الحانية التي تربت على روحي قبل أن تُهدئ جسدي.
كيف لي أن أختزل عمرًا من الحنان في كلمات؟ كيف أصف امرأةً كانت هي الوطن والمأوى، وكانت دعاءً صادقًا يحميني من أقدار لا أعلمها؟ كنت أظنها باقية ما بقيتُ، كنت أظن أن صوتها، ضحكتها، لمساتها الدافئة أشياء لا تفنى، لكنها رحلت.. ورحل معها جزءٌ مني.
أمي كانت الطمأنينة حين يشتد القلق، وكانت القوة حين تخور عزائمي، علّمتني كيف أواجه الدنيا، كيف أكون صلبًا في وجه الأوجاع، لكنها لم تعلمني كيف أعيش بدونها، كيف أنام دون أن أسمع صوتها يدعو لي، وكيف أواجه الصباح دون سماع صوتها و ابتسامتها التي كانت أول ما يضيء يومي؟
كانت أمي امرأةً استثنائية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. لم تكن عظيمة فقط لأنها حملتني في رحمها، بل لأنها حملت همّي في قلبها طوال حياتها.
كانت تسبقني في الفرح، فتفرح لي أكثر مما أفرح لنفسي، وكانت تسبقني في الحزن، فتتألم لي قبل أن أشعر بالألم. كانت تدعو لي في صلاتها دون أن تطلب شيئًا لنفسها، وكأن سعادتي كانت غايتها الوحيدة في الحياة.
لم يكن حزنها يُرى، فقد كانت تخبئه خلف ابتسامةٍ مطمئنة كي لا يرهقني، ولم يكن تعبها يُسمع، فقد كانت تهمس بأوجاعها بعيدًا كي لا أحزن عليها.
لكنها رحلت، واختفى دفء وجودها فجأة، فكيف لي أن أعتاد هذا الفراغ؟ كيف لي أن أمضي في الحياة وهي ليست هنا؟
كل زاويةٍ في البيت تنطق باسمها، كل ركنٍ يحمل شيئًا من عبقها. ما زلتُ أشعر بوجودها في كل تفصيلٍ صغير، وكأنها لم تغب.. وكأنها ستعود في أي لحظة لتسألني إن كنت جائعًا، أو متعبًا، أو إن كنت بحاجةٍ لشيء، لكنها لن تعود، وهذه الحقيقة هي الأشد قسوة.
أتذكر يديها وهي تمسح على رأسي حين كنتُ طفلًا، وصوتها يهمس لي: “لا تخف، أنا هنا.” أتذكر كيف كانت تبكي سرًا عندما كنت أمرض، وكيف كانت تتظاهر بالقوة حتى لا أشعر بالخوف. كانت أمي تشبه الشجرة العتيقة، تقف شامخة رغم العواصف، تمنح ظلها للجميع، وتحمل في أعماقها وجعًا لا تبوح به.
أحنّ إلى خطواتها التي كنت أسمعها في الصباح، وهي تتنقل بين أرجاء المنزل، تجهز لي فنجان القهوة وتضعه أمامي قبل أن أنطق بكلمة. أحنّ إلى صوتها وهو يردد اسمي بمحبةٍ لا تشبهها أي محبة، وكأن اسمي كان دعاءً يخرج من قلبها قبل أن يصل إلى شفتيها.
كيف يمكن لبيتٍ كان يعجّ بالحياة أن يصير صامتًا فجأة؟ كيف يمكن لنهاري أن يبدأ دون أن أرى عينيها الحانيتين؟ الفقد موجعٌ، لكنه يصبح أشد قسوة حين يكون الفقيد هو أمك، وحين تدرك أنك كنت تسير في هذه الحياة مستندًا إلى دعواتها دون أن تشعر.
لكنني أؤمن، رغم الفقد والوجع، أنها الآن في مكانٍ أنقى وأجمل، في رحمة الله التي وسعت كل شيء. وأؤمن أن دعواتها التي كانت تملأ بها الدنيا لن تزال تحيطني وتحرسني، وأؤمن أننا سنلتقي يومًا، حيث لا وداع ولا ألم، حيث لا غياب ولا دموع.
إلى لقاءٍ قريب يا أمي، حيث تلتقي الأرواح بعد طول افتراق، وحيث تعود الحياة إلى ألقها الأول بلا فراق ولا ألم.
سيظل طيفكِ حيًا في روحي، وسأحمل ذكراكِ في كل خطوة أخطوها، حتى يحين اللقاء الذي لا يعقبه وداع.. أمي، إلى لقاءٍ تتلاشى فيه المسافات، ويزول فيه الحزن، وتعود فيه القلوب إلى من تحب.