بقلم – الطيب جامعى:
انطفأت الأنوار في الغرفة كما انطفأت تلك الشعلة بين جوانحها منذ مدّة. سحبت الغطاء إلى المنتصف. تنهّدت، أخذت نفسا عميقا، و ما لبثت أن بدأت تتقلّب على جنبيها … غادرها النّوم إلى غير رجعة. تلك الجفون ما فتئت تُفْتح و تغمض، تتوسّل الكرى، و لكن هيهات… أمّا هو فيغطّ في نوم عميق ،أو هكذا يبدو، و قد التفت إلى الجهة المعاكسة.
أعترف أني مذنبة …نعم مذنبة …و لن أسامح نفسي. تلك البضعة منّي استعصت عليّ، لم أستطع لها كبحا، ظللت أتبعها كما يتبع العبد سيّده…
لمحته أوّل مرّة لمّا وطئت قدماي تراب هذا الحيّ. لم أعره في البداية اهتماما، و لا أظنّه هو أيضا انتبه إليّ. لا أدري كيف حصل هذا، كلّ ما أعرفه أنّني كنت مدفوعة إلى ذلك دفعا لم أستطع له ردّا. أ و يمكن أن يحدث هذا لبنت مثقّفة مثلي؟
ترعرعت في حضن دافئ، شبعت حبّا. لم يكن ينقصني شيء. ليست عائلتنا ميسورة الحال ولكن مستورة، أجمل ما في بيتنا الدفء العائلي الذي يظلّله…
سارت الأيام كلمح من البصر. و وجدتني كاعبا، تتجاذبني الآمال، فأرسم الأحلام و راء الأحلام… كنت أصوّره في صفحات ذهني فارسا على جواد أبيض يشقّ بي الفيافي إلى الفردوس. كنت مستعدّة للتضحيّة بأيّ شيء حتّى أظفر بفارسي المنتظر…
و وجدتني ذات يوم غائم أتلقّى الصفعة الأولى…
خبر زُفّ إليّ ، نزل على قلبي الغضّ نزول الرّصاص المذاب، ثقيلا يشوي أحلامي
و يصهرها: ابن عمّي يتقدّم لخطبتي… و إن رضيت العائلة فالزّفاف بعد شهر…
بعد شهر؟ !!… بعد شهر؟ !!… ولكنّي لا أعرفه إلّا كما تعرفه فتيات أهل الحيّ… لم يكن بيننا كبير تعارف. ما أعرفه أنّه يسكن إحدى ” الفيلات” في حي خلفيّ مترامي الأطراف. و ألفيت أمّي تهرول، جذلة، فرحى تزفّ إليّ البشرى… و لمّا رأت ارتباكي و تردّدي همست في أذني معاتبة:” كفى دلالا ، و هل لفتاة مثلك إلّا الزواج؟”، ثمّ ترسل ابتسامة سرعان ما تحوّلت إلى قهقهة مكتومة.
و تزوجته… الواقع أنّ حياتي كلّها كتاب مغلق، خبايا و أسرار لا أبوح بها إلّا لنفسي. يا ليل… لمَ هذا الطّول الفارع؟ ألا يلوح لك فجر و إشراق؟ عشت معه سنتين كاملتين. أعترف أنّه كان مثاليّا جدّا، لم يدّخر وسعا لإسعادي، فأتظاهر بالفرح و السّعادة. لم أبخل يوما عليه بواجباتي الزوجيّة و العائليّة، ولكنّ “قلب المرأة دليلها “، كنت أستشعر موقفه و إحساسه. أعرف أنّه أدرك أخيرا أنّي زوجته و ما أنا بزوجته، و كنت أعرف أنّه مهموم مكدود لذلك، مكلوم الفؤاد. مسكين زوجي، لم يجد مفتاحَ بابٍ أُغْلِق بالمتاريس و الأقفال و وقف أمامه حرس شديد. فأحزن و أبتئس، و أنا صادقة في حزني… ثمّ أعلّل النّفس بالرّجاء… بالأمل… لا أدري بمَ كنت أعلّل النفس…
يا الله !.. كم هي قاسية هذه الدّوّامة ! أ يمكن أن أخلعه من نفسي، من كلّ ذرّة من ذرّات روحي؟ إن حدث ذلك، أ فيمكن أن يلين ذلك العنيد لابن عمّي، زوجي؟ لم تكن لي الشّجاعة للمصارحة. عشت حياتي كما أنا يجرّني القدر جرّا.
أحببته من شغاف القلب، و لا أدري ما حبّبه إليّ. لم نتحدّث يوما لا عن حالي و لا عن حاله. أحببته بصمت، باندفاع،بجنون لا حدّ له، حتّي أنّ صويحباتي لُمْنَني على تطرّف مشاعري، إحداهنّ هدّدت بالابتعاد عنّي إن تماديت في هذه اللّعبة القذرة.
الواقع أن فجوري اقتصر على مشاعري و لم يتعدّه. لم يسبق لي أن قابلته مقابلات خاصّة أو اختليت به، كلّ ما هنالك أنّي كنت أتصنّع الظروف لألتقيه، كنت اكتفي منه بلُحَيْظات أتفرّس في ملامحه فلا ترتوي عيناي، و سرعان ما أنقطع و بي جوى للقاء جديد… و من يدري….؟
زوجي المسكين … أ أرثي لحالك أم لحالي؟ !… أ أرثي لامرأتي أحبّت بعنف فارسها و تزوّجت غيره أم لزوج أحبّ بعنف زوجته و لم يجد منها سوى كتل من الثلج؟ ! لو.. لو فقط أستطيع أن أمنحك إيّاه، لو أستطيع …
كنت أنظر إليه و قد علا بعض شخيره. إنّي أغبطك، نَمْ عزيزي، لعلّ الله يقضي أمرا كان مفعولا.
مع تباشير الصّباح الأولى غادر المنزل كدأبه دوما، و لأوّل مرّة لم يقل شيئا. فقط ابتسامة خفيفة علت محيّاه. و خرج…
مع موعد انصراف العمّال من الدّواوين هرولت إلى الشارع الذي تعوّد فارسي المرور منه في ذهابه إلى عمله و أوبته، و قد عزمت على أمر ما “في نفس يعقوب”.
انتظرت قليلا، لمحته قادما. تشجّعت. تقدّمت بخطى متثاقلة ولكن بثبات. تعمّدت الاحتكاك به. كدت أسقط على الأرض، و وجدت الفرصة سانحة. قلت في نفسي:” الآن يا “قدريّة”. تصنّعت الغضب. صحت بأعلى صوتي:” أليست لك عينان؟ و ماذا تفعل بهما غير معاكسة الغافلات يا ابن الـ…؟ ” و قلت كلاما و كلاما. تجمّع بعض المارّة. تشجّعت أكثر، فأخرج لساني ما لا أذن سمعت حتّى من عند أكثر الصّعاليك استهتارا و تهتّكا… لمحت و أنا في فورة الانفجار شفتين تتحركان، ترتعشان، تريدان أن تقولا شيئا، و أنّى له ذلك؟ أسقط في يديه: شلاّل السباب و الشّتائم ينهال، يجرف الأخضر و اليابس…
تنهّدت… و أخيرا … أحسست بهمّ بحجم الجبال قد انزاح عن كاهلي، و ألفيتني نقيّة النّفس و المشاعر، طاهرة كمن خرج توّا من نهر التعميد. لقد نجحت المهمّة .
زوجي العزير… عذرا ألف عذر .. لن أسامح نفسي، ولكنّني أطمع في كرمك و مغفرتك، و أنت الرّجل الوفيّ. الآن أنا لك خالصة لا يشاركني فيك كائن من كان. لا أستطيع أن أصف شعوري و أنا أدلف إلى غرفة النوم. كأنّني أراها لأوّل مرّة. لم يكن موجودا، حمدت الله على ذلك حتّى لا يراني في هذا المظهر البائس. و دون تردّد فتحت دولاب الملابس. إنّه في مكانه منذ أن خلعته: فستان الفرح.
لبسته على عجل. وضعت بعض المساحيق الخفيفة على وجنتيّ كما يريدني أن أكون دائما، فهو يكره الألوان الغامقة. تمسّحت بالعطر الذي أهداني إيّاه آخر مرّة. ثمّ خطوت خطوتين إلى السّرير، و على الحافة جلست أنتظر زفافي !…
يمرّ الوقت ثقيلا … ثقيلا. تتجاوز السّاعة موعد رجوعه المألوف. فيأخذ صدر الفتاة في الضيق و الحرج. تُسمَع زفراته . ثمّ لم تلبث أن تحرّكت ببطء خوفا على هيئة فستانها، و هي التي قضت مدّة ترتّبها على أحسن حال، أ و ليس يوم العمر بعد أن ضاعت لياليه؟ طوال سنتين كاملتين ظلّ “جاد” ينتظر في جَلَد و صبر جنّية. كان يردّد دائما بتفاؤل:” سيأتي ذلك اليوم… طال الزّمن أو قصر… صبرا جاد”.
و هي تخطو خطوتين تسمّرت في مكانها أمام النّافذة، ثمّ يضطرب الجسد كمن به مسّ، فتمتدّ يداها إلى تاجها تلقي به أرضا، و إلى فستانها الأبيض تحاول نزعه فيأبى، و يُسْمَع له أزيز: تمزّق من أعلاه إلى أسفله، و يبقى معاندا متشبّثا بالجسد. تهرول نزولا إلى الخارج و ذيله الطويل يتبعه، تتعثّر، تنهض و تعاود من جديد…
بين هرولة و جري يتلقّف عيناها و قلبها المتطهّر توّا الخبر اليقين: تلك الجثّة تتدلّى من شجرة في الحديقة الخلفيّة. ثمّ تخور قواها. تنهار ، فتجثو على ركبتيها وسط بركة صغيرة من المياه تشكّلت من أنبوب لتصريف المياه تحت الشجرة، تماما عند قدميه.
يتجمهر السّكان، ويكثر اللّغط، أحدهم قال: لم يمت، رأيته يبتسم…” فيما كان المفتّش يقرأ مطويّة عُثِر عليها بعد التّفتيش. كلمتان لا غيرُ: عذرا … احبّك .
/انتهت./