في الثلاثين من شهر مارس عام 1977، فقدت الأمة العربية واحدًا من أعظم وأهم أصواتها الغنائية، العندليب الأسمر المصري عبد الحليم حافظ، الذي رحل عن عالمنا تاركًا إرثًا فنيًا خالدًا مازال يتردد صداه في قلوب الملايين حتى يومنا هذا يصادف اليوم، 30 مارس 2025، الذكرى الثامنة والأربعين لوفاته، وما زالت أغانيه تعيش في وجدان عشاق الفن والطرب الأصيل، لتذكرنا بصوت ملأ الدنيا عذوبة وشجنًا.
ولد عبد الحليم حافظ في 21 يونيو 1929 بقرية الحلوات في محافظة الشرقية بمصر، ونشأ في كنف عائلة متواضعة لم يكن طريقه إلى الشهرة مفروشًا بالورود، فقد عانى من يتم الأم في سن مبكرة، ثم أصيب بمرض البلهارسيا الذي أثر على صحته طوال حياته لكن إرادته القوية وموهبته الفذة جعلتاه يتجاوز كل العقبات ليصبح رمزًا للغناء العربي.
بدأ عبد الحليم مشواره الفني في خمسينيات القرن الماضي، حيث أذهل أذان الجمهور بصوته الدافئ وقدرته الفريدة على التعبير عن المشاعر من أشهر أغانيه “احضان الحبايب “، “قارئة الفنجان”، “زي الهوا”، و”سواح”، التي أصبحت جزءًا من الذاكرة الجماعية للشعوب العربية لم يقتصر تأثيره على الغناء فقط، بل شارك في العديد من الأفلام السينمائية مثل “دليلة” و”الوسادة الخالية”، حيث جسد شخصية العاشق الحالم التي لامست قلوب المشاهدين.
كان عبد الحليم حافظ أكثر من مجرد مطرب؛ كان صوتًا للأمل والحب والألم في آن واحد أغانيه التي تحمل طابعًا وطنيًا مثل “عدى النهار” و”أصبح عندي الآن بندقية” عكست روح العصر وألهمت أجيالاً خلال فترة النضال العربي حتى في مرضه، ظل يغني ويقاوم، مُظهرًا قوة إنسانية نادرة.
وفي شهر رمضان المبارك قدم العندليب العديد من الأدعية والابتهالات الدينية ووصف الموسيقار عمار الشريعي رائعته أنا من تراب بأنها أفضل ماسمع
كلمات ولحنًا وأداءً، وهذه العناصر وحدة مكتملة من تأليف الشاعر الكبير عبد الفتاح مصطفى، ولحن الموسيقار محمد الموجي، وصوره للتليفزيون المصري المخرج فهمي عبد الحميد.
وبالفعل دعاء “أنا من تراب” لعبد الحليم حافظ هو واحد من الأدعية الدينية الرائعة التي قدمها العندليب الأسمر بصوته الشجي، وتميز هذا الدعاء بأسلوبه العميق وإحساسه الروحاني الذي يلامس القلوب، خاصة في أجواء شهر رمضان المبارك والتي تقول كلماته :
يا رب يا رب أنا من تراب
والإرادة هي سرك فيه
تنوره بحكمتك وبرحمتك تهديه
تراب وسرك إذا مس التراب يحييه
ألهمني حب الخير حب الجمال والحق
خليني أقول للشيطان مهما غواني لا
علمني أثبت ولو زال الجبل وانشق
ألهمني يا رب علمني يا رب
يا ربي سبحانك يا رب
يا ربي سبحانك.
هذا الدعاء يعكس تواضع الإنسان أمام خالقه، مشيرًا إلى أصله من التراب وقدرة الله العظيمة في إحيائه وهدايته. كان عبد الحليم يؤديه بإحساس عميق وخشوع، مما جعله من الأدعية المحببة للكثيرين، خاصة في اللحظات الروحانية قبل أذان المغرب في شهر رمضان المبارك.
لن ينسى العندليب المصري قضية فلسطين ففي يوم 17 نوفمبر 1967 وقف عبد الحليم حافظ على مسرح البرت هول في مدينة لندن وأمام أكثر من 8 آلاف شخص غنى العندليب بعض أغانيه المعروفة ثم قام بغناء الأغنية المفاجآة والصادمة وهي أغنية ” المسيح” وتم بث الحفل عبر إذاعة لندن ونقلتها عنها إذاعات القاهرة، صوت العرب والشرق الأوسط.
استمع الضمير الحي في العالم الى الأغنية التي هزت قاعة ألبرت هول وعواصم أوروبا واشتعلت القاعة بالتصفيق الحاد والمتكرر وطلب الحضور من العندليب تكرارها أكثر من مرة وآثارت غضب المحتلين الغاشمين الذين طالبوا بمنع الأغنية التي كتبها الشاعر الراحل عبد الرحمن الأبنودي بكلمات انسانية تمس الضمائر والوجدان لكنها كانت كلمات جريئة لم تخلو من الهدف السياسي لدعم أبناء الشعب الفلسطيني، وتؤكد حقه في أرض القدس التي نزل بها المسيح عليه السلام.
رحل العندليب في لندن أثناء تلقيه العلاج، لكن روحه بقيت حية في صوته الشجي العذب كان يوم وفاته حدثًا أثر في الملايين، حيث خرجت الجماهير في جنازته بمشهد لم يُنسَ، يعبر عن مدى حب الناس له. واليوم، بعد كل هذه السنوات، لا تزال أغانيه تُعزف في كل بيت عربي، وكأنه لم يغب يومًا.
في ذكرى رحيله، نستعيد ذكريات صوته الشجي، ونحتفي بفنان لم يكن مجرد عابر في عالم الفن، بل كان علامة فارقة في تاريخ الموسيقى العربية رحم الله العندليب الأسمر، عبد الحليم حافظ، الذي سيظل خالدًا في القلوب والأسماع إلى الأبد.