بقلم أحمد غزالة
أصدقائي القراء ، أتـناول معكم في هذا المقال محاولة التعرف على التفسير الاقتصادي لموضوع يعكس لنا عظمة وسمو التشريع القرآني ، فالشريعة الإسلامية حرمت الخمور تحريماً قطعياً لكل أنواعها ووصفتها بأنها أم الخبائـث ، وجاء تحريمها شاملاً لبيعها وشرائها والاتجار فيها وصناعتها ، وكل أشكال التعامل معها ، ولكن ما أردت إلقاء الضوء عليه في هذا الموضوع هو مراحل تشريع تحريم الخمور في القرآن ، وتدرجها ،ومحاولة التعرف على التفسير الاقتصادي لهذا التدرج في التشريع ، فنجد أن الخمور كانت مباحة قبل الإسلام ، ولما جاء القرآن الكريم بتحريم الخمور لم يشرع تحريمها مرة واحدة ، وإنما قام بتحريمها على عدة مراحل ، وسأقوم أولاً بتوضيح هذه المراحل ثم توضيح التفسير الاقتصادي لها بعد ذلك : .
المرحلة الأولى : قوله تعالى في سورة النحل (وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا)، وهنا نجد أن الآية لم تحرم الخمور ، ولكنها أشارت إلى التفرقة بينها وبين الرزق الحسن ليدرك بذلك ذوي الألباب أن القرآن لم يصفها بأنها شىء حسن ، وهنا يكون الأمر دافعاً لذوي الألباب لاجتنابها ، وتركهم القرآن على ذلك فترة من الزمن دون النص الصريح على التحريم .
المرحلة الثانية قوله تعالى في سورة البقرة (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا ) ، وهذه الآية لم تحرم الخمور قطعياً ، ولكن أشارت إلى أن الخمور فيها إثم كبير ولها منافع فيما تحققه من أرباح للتجار لأنها كانت التجارة الرائجة في قريش ، وبالتالي يجب على العقلاء وذوي الألباب أن يتركوا الشىء الّذي يكون ضرره وإثمه أكبر من نفعه .
المرحلة الثالثة : قوله تعالى في سورة النساء ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ) ، والمتأمل هنا لهذه الآية يجد أن شرب الخمور كان محرماً في أوقات الصلاة فقط ، وهذا يعني أن شرب الخمور كان جائزاً في الإسلام في غير أوقات الصلاة ، وظل الحكم على ذلك فترة من الزمن ، وكان هذا التحريم يعد تحريماً صريحاً لشرب الخمور ولكنه تحريما جزئياً لأن حكمه مقصور على أوقات الصلاة فقط .
المرحلة الرابعة والأخيرة : قوله تعالى في سورة المائدة (يَـأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأنصَابُ وَالأزلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ) وهنا نجد أنه جاء في هذه المرحلة من التحريم الحكم النهائي بالتحريم الكلي للخمور ووصفها بأنها رجس من عمل الشيطان وفيها أمر صريح من الله باجتنابها ، وأكدت الشريعة الإسلامية قرآناً وسنة على أن الخمور من كبائر الذنوب ، والكسب المادي المتحقق من تجارتها أو العمل فيها يعد كسباً خبيثاً وأموال محرمة .
ثانياً : التفسير الاقتصادي لهذا التدرج في تشريع تحريم الخمور .
1- قبل تحريم الخمور في الشريعة الإسلامية كانت شربها عادة متأصلة لدى الناس ، وكان تناولها أمراً اعتيادياً يصعب معه توجيه الناس إلى تركه مرة واحدة ، فأراد الإسلام أن تتهيأ النفوس لقبول تحريمها فقام بتحريمها تدريجياً حتى يكون من السهولة على الناس التخلي عن هذه العادة المتأصلة لديهم عندما يأتِ الحكم بتحريمها كلياً .
2- على المستوى الاقتصادي كانت تجارة الخمور هي التجارة الرئيسية والرائجة في قريش ، فأراد التشريع الإسلامي تهيأة السوق لقبول تحريم هذه التجارة ، وذلك بصرف الناس عن شرائها تدريجياً فتنخفض مبيعاتها لدى التجار وتقل أرباحها ، وبلغة اقتصادية يمكن أن نقول أن الإسلام أراد ضرب سوق تجارة الخمور أولا قبل تحريمها كلياً . .
– ومن هنا يتضح لنا عظمة وسمو القرآن الكريم في تدرجه للأحكام التشريعية ، وإلى اللقاء مع القارىء الكريم في كتابات لاحقة إن شاء الله .
التعليقات مغلقة.