مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

أنور ابو الخير يكتب: عندما أصابني داء العشق

 

 

قد يهمك ايضاً:

منصة إلكترونية لمكافحة الاحتيال والنصب على السياح في المغرب…

الغدر الذي يدمر أسرة

عندما أصابني داء العشق رحت أتلمس مجالس الأدباء وأطلب الحب لدى الشعراء لعل أحدهم يمنن علي بمعسول كلامه الذي يسلب ذوي الألباب ألبابهم ويسمعه الحكماء فيطيش صوابهم صرت أرتاد مجالسهم طمعا في بضع كلمات من غزل أُهديها إلى ذات الحسن أو بيت من شعر أُنشدها إياه فترفق بقلبي وترق له لكن وفي كل مرة كانوا يشيعونني بسهام نظراتهم شذرا واحتقارا وبدلًا عن أن يمنوا علي بمعسول كلامهم كما كنت أُمني نفسي راحوا يحدون ألسنتهم ويطلقونها في جسدي بغليظ عباراتهم ليمزقوا ما بقي منه بعد أن أهلكه العشق
أعرف أن العاشق إن صدق في عشقه أطلق العنان للسان قلبه ليفيض على لسان فمه بما في جعبته من مشاعر الحب وأن العاشق الحق يستنكف أن يتسول كلمات الحب من أديب خصب الكلمات مجدب الإحساس أو شاعر ثري الألفاظ فقير العاطفة أعرف كل ذلك وأعرف أيضا أن هذا العاشق إن صدق في حبه أكثر فربما لن يحتاج الكثير من الكلام ليعبر عن مكنون صدره يكفيه كلمة أو اثنتان تفيان بالغرض وأعرف أن كلمة أحبك صادقة يلفظ بها المرء ربما تخترق حجاب القلب الحصين الذي لا يقدر على النفاذ إليه مئات الكتب الأدبية البليغة
لكن ما لا أعرفه حقا ماذا لو كان هذا العاشق صادقا إلى الحد الذي أفقده النطق فلا يقدر حتى علي التلفظ بهذه الكلمة بسيطة المبني عظيمة المعني ضئيلة التركيب هائلة العاطفة والتكوين أحبك ما الذنب الذي اقترفته باستجدائي لكلماتكم وأبياتكم وماذا يضيرني أني لست قيسا أو عنترة جميعكم أتبعتموني نظراتكم تتهمني بأنني جاف المشاعر وأنني آخذ كلماتكم فأذهب بها إلى المسكينة لأخبرها بحبي لها زورا وبهتانا وأنا أقسمُ لكم أنكم لو اجتمعتم جميعا في صعيد واحد ثم أخرج كل رجل منكم قلبه بما يحمله من عاطفة وشجن ما ساوى ذلك في قلبي مثقال ذرة من حب
يا بني ليس بي جنون ولكنني أصابني مس من عشق لما أسرفت في طلب الحب يا بني قد شيبني الهوى حتى هويت وشربت منه فازداد ظمئي وضللت الطريق
وأُقسم أن ما ادعيتموه من أن ما في قلبي هو محض كذب وزوز وبهتان لو تجسد أمامكم فرأيتموه لتحسرتم على صدقكم ولعلمتم أن ما في قلوبكم هو كبيرة من الكبائر ولما أن بلغ العشق مني كل مبلغ دون أن أنال منه حظ نفسي كان علي أن أتردد على الأطباء علني أجد دواء عند أحدهم يطفئ لهيب شوقي ويرد إلي روحي التي استلبها العشق واستأثر بها لنفسه ولكن النبات الأخضر لا تشتعل فيه النار بسهولة وإن اشتعلت صعب إطفاؤها هكذا كان قلبي أني يفيد الماء نباتا أخضرا قد اشتعلت فيه النار؟ وأني يفيد الدواء قلبا غضا عاشقا طريا قد تلبس به العشق وأدركه الهوى
كتبت ما يعتلج في صدري وبحت به لوريقاتي فعل إصبعي ما عجز عنه لساني المرء ربما يفقد النطق إن أصابته صدمة شديدة كذلك القلب إن أصابه عشق صادق ربما يخرس لسانه فيفقد القدرة علي التعبير وأُجزم أن ما أصابني من العشق لو أصاب قيسا لما تحمله ولمات بدلًا عن جنونه ولو أنه أصاب عنترة وهو القوي لبهت فلم ينطق بحرف من شعره وربما استحال من شاعر إلي رسام عله يعوض خرس لسانه بفيض خياله
أَشفق علي حالي بعض المحبين الذين تجرعوا قسطا من ويلات الحب فدلوني علي حكيمٍ قد أصابه مس من جنون يقطن في كوخ صغير علي أطراف البلدة هذا الحكيم قد جن من كثرة ما طلب من العلم سارعت بالذهاب إليه ربما يمتلك طوق النجاة لأول وهلة حين رأيته خفت منه شيخ طاعن شقت التجاعيد أسفل عينيه أخاديدا وقنوات كانت ثيابه بالية مرقعة ولحيته بيضاء كثة طويلة بها بضع شعيراتٍ سوداء وكذلك كان حال شعره
لما رأى ترددي في التقدم إليه ناداني هو داعيا إياي إلى الجلوس بجانبه قلت كيف حالك أيها الحكيم؟ فرد علي أهلًا بك بني ثم ابتسم وقال قد زاد المجانين واحدا قلت بغضب لست مجنونا قال أولست عاشقا قلت بلى قال فأنت مجنون ولكن كيف عرفت أنّي عاشق صمت قليلا وقال بشيء من الخبث يا بني العشاق يلتقون في ملكوت الله جئت أشكو إليك داء العشق وأريد الدواء ولا أحد يقدر على علاجي إلا رجل مثلك قد شيبته الحياة وأصابه مسٌ من جنون من فرط ما أسرف في طلب العلم
قال والأسي باديا في عينيه يا بني ليس بي جنون ولكنني أصابني مس من عشق لما أسرفت في طلب الحب يا بني قد شيبني الهوى حتى هويت وشربت منه فازداد ظمئي وضللت الطريق فاتهمني الناس بالجنون اسمع مني يا بني أحببت فتاة كان القمر يشبهها إلى حد كبير حين كانت تمر بالطريق كنت أسمع همس الكائنات تسبح بحمد الخالق العظيم الذي خلق فسوى وصور فأبدع كانت هذه الفتاة مني بمنزلة الأم من جنينها غير أن الأم لها قلب يضخ الدماء في جسدها وللجنين قلب آخر أما نحن فكان لنا سويا قلب واحد ينبض فيبث العشق في شراييننا فكأن هواها يسري في دمي
وذات يوم أصابتها حمى شديدة لم تقم منها ومنذ ذلك الحين وأنا أبكيها حتى تبدل حالي إلى ما ترى وأطرق مليا ثم قال تدري يا بني؟ كنت لأول مرة أعرف أن الحمى أرحم من العشق
نعم ياولدي الحمى إما أن يشفى منها المرء أو تقتله أما العشق فيتلذذ بتعذيب العشاق فلا شفاء منه يرجى ولا موت يريح قلت له فزعا ماذا تقصد؟ أليس لحالتي دواء؟ أليس لسقمي شفاء؟ قال أي بني سأعطيك خلاصة تجربتي وسني عمري التي أفنيتها هباء في الحب والهوى يا بني أما إليك فليس لحالتك دواء ولا يرجى لمثلك البرء والشفاء فالعشق كالجذام لا يترك قلب الإنسان حتى يسقط أوراق أغصانه واحدة تلو الأخرى فيحيله يابسا مقحلا ولكني أحملك أمانة انتشال المحبين قبل أن يسقطوا في ظلمات العشق كما سقطنا وقبل أن يستحيلوا عشاقا هلكي لا يجدي معهم دواء
يابني الحب الذي لا يوصل إلي غاية تركه واجب والتمسك به سفه وجنون يا بني لكل حب منتهى وغاية فالعشق في شرع العشاق حرام إن لم يكن نهايته الزواج والوصال
في شبابي مررت بمقهى في محطة انتظار الحافلات وقررت احتساء فنجان من القهوة إلى أن تصل الحافلة التي سوف تقلني إلى وجهتي طلبت من النادل فنجان القهوة وطلبت معه علبة سكر وبدأت أضع السكر في القهوة دون وعي ولما رأيت الحافلة قد وصلت تركت القهوة وقمت بدفع حسابها للنادل ولكنه أصر علي أخذ حساب السكر أيضا وحاولت إقناعه أنني لم أرتشف منها رشفة واحدة فلماذا أدفع ثمن السكر وقد تركته في القهوة والقهوة قد دُفع حسابها تجادلنا كثيرا وفي الأخير قال لي إن كان حقًا ما تقول فأخرج لي السكر منها إذن
بعد تفكيرٍ قليل رأيت أن معه الحق فيما يقول فدفعت إليه حسابيهما وانصرفت ماذا تريد أن تقول؟ أنا لا أفهم ما ترمي إليه؟ يا بني العشق فنجان من القهوة يعترض طريقك في الحياة وأنت لا تدري هل تدركه أم لا وإذا كنت لست متيقنا من قدرتك على احتسائه فلم تضيف إليه السكر؟ لماذا تلهب العشق بالمزيد من أسبابه؟ لماذا تصر على قرض الشعر في محبوبتك حتى تذيب قلبها؟ ولم تصنع من بيتها وطنا ترابط أمامه إلى أن تحوذ عقلها؟ ولماذا تطيل النظر إليها إلى أن تحفر صورتها في عينيك فلا ترى سواها؟ لماذا تصر علي وضع المزيد من السكر إلى فنجان القهوة الذي لا تضمن احتساءه؟ أنا عرفت ثمن السكر الذي وضعته ولم أقدر على استخراجه وحاسبت عليه أما أنت هل تعرف ثمن العشق الذي تضيفه إلى روحك ولن يفارقك أنا دفعت الثمن بضعة الألاف ولكن أنت ستدفع الثمن جراحا في قلبك وذبولًا في روحك ونزيفا في عمرك وموتا لشبابك وخسرانا لدينك
يا بني الحب الذي لا يوصل إلي غاية تركه واجب والتمسك به سفه وجنون يا بني لكل حب منتهى وغاية فالعشق في شرع العشّاق حرام إن لم يكن نهايته الزواج والوصال وحب الله الذي لا يستتبعه كد يوصل إليه ضلال في ضلال يا بني ارجع إلى قومك وقل لهم العشق قد مرر علي الحكيم دنياه وأفسد عليه أخراه فلا هو نال من العشق مبتغاه ولا سكنت روحه حتى يصل إلي الله وظن صاحبُنا أنما قد فتن فاستغفر ربه ورجع تائبا عن العشق وأتاب

التعليقات مغلقة.