مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

وسط دوائر العنف من الجاني ومن الضحية؟

7

وسط دوائر العنف من الجاني ومن الضحية؟

بقلم/ د. نجلاء الورداني

حينما نقف أمام العنف بوصفه ظاهرة اجتماعية وفي الوقت نفسه مكتسبًا ثقافيًا؛ إذ إنه لا يظهر لدى الفرد إلا منذ اللحظة التي يتخطى فيها طبيعته البيولوجية البحتة وينتقل نحو إدراكه للعالم المحيط به، وبالتالي فالثقافة التي يعيش في كنفها الأفراد تعلمهم الكثير من صفات العنف؛ لكونها توفر القنوات التي يمكن من خلالها تمرير العنف في الدين، والتربية، واللغة، ووسائل الاتصال، وجميعها مكونات ثقافية تعمل على إعداد الفرد لكي يتطابق مع القيم والمعايير والمهمات الاجتماعية التي تعدها له مسبقا، كما تعمل في الوقت ذاته ومن خلال الأساليب القسرية التي تستند إليها على استثارة عدوانية وتكوين مشاعر ضدية تنطلق تجاه الآخر، وبالتالي وجود قيم ومعايير اجتماعية فسرت بطريقة خاطئة من قبل أفراد المجتمع وبها تم تدعيم العنف وسلوكياته.

ووفقًا لهذا التصور فنحن نجد أنفسنا نواجه أشد أنواع العنف الثقافي وأخطرها، هو ذلك العنف الذي يبدو بديهيًا ويفرض نفسه على الضحية والجلاد والقاضي في آن واحد، ويقول عن نفسه إنه ليس عنفًا. إنه شكل من أشكال العنف الذكي، وصيغة سوسيولوجية متقدمة من تجلياته العلمية بحيث يمارس دوره وفاعليته الثقافية في مختلف ميادين الحياة الاجتماعية، إنه نوع من العنف الذي يعيش في خفايا الحياة وثناياها متواريا عن الأنظار ينزع إلى توليد حالة من الإذعان والخضوع عند الآخر بفرضه لنظام من الأفكار والمعتقدات التي غالبًا ما تصدر عن قوى اجتماعية وطبقية متمركزة في موقع الهيمنة والسيادة، كما يسعى إلى توليد معتقدات وأيديولوجيات محددة بهدف ترسيخها في عقول وأذهان الذين يتعرضون له. ذلك هو العنف الرمزي الذي ينطلق من نظرية إنتاج المعتقدات، وإنتاج الخطاب الثقافي، وإنتاج القيم، ومن ثم إنتاج هيئة من المؤهلين الذين يمتازون على ممارسة التقييم والتطبيع الثقافي في وضعيات الخطاب التي تمكنهم من السيطرة  ثقافيًا وايديولوجيًا على الآخر وتطبيعه.

قد يهمك ايضاً:

وزير الرياضة: منح مصر حق استضافة وتنظيم كأس العالم للأندية…

وبالتالي تتولد أهم المشكلات الثقافية التي يعانيها الإنسان لاسيما حينما يحاول مواجهتها أملًا في اقتحام مستقبل أكثر وعدًا، وأولى هذه المشكلات هي الميراث الثقافي التقليدي الجامد الذي لا يزال مهيمنًا بنزعاته المتحجرة، ذلك الميراث الثقافي الذي ينظر إلى المرأة على أنها ناقصة عقل ودين مستندًا في هذا على مرويات  وتأويلات بشرية مغلوطة لنصوص دينية واضحة، ونظرة متعصبة تبرر كل شيء على أساس من الماضي، كما يضم هذا الميراث أيضًا ما تواتر من أحكام وتصورات وعادات وممارسات لا تكف عن تحقير النساء، وبالتالي لا تزال فاعلة في الوعي التقليدي الجمعي على أكثر من مستوى كالأقوال التي تقال عن ضعف الرأي وانعدام الحكمة لدى المرأة مثل “شاوروهن وخالفوهن”، و”النساء حبائل الشيطان”، و”ومن أطاع عرسه فقد أضاع نفسه”، و”من اقتراب الساعة طاعة النساء”، و”لا تطلعوا النساء على حال ولا تأتمنوهن على مال”، و”اعص النساء وهواك وافعل ما شئت”، و”هن عوادي يوسف”، و”كرامة النساء دفنهن”، و”إن المرأة تلقن الشر من المرأة كما أن الأفعى تأخذ السم من الأصلة”، كما ينسبون إلى الشيطان قوله “سهمي الذي إذا رميت به لم أخطئ: النساء”.

إنه ميراث ثقافي وإرث اجتماعي ينزل المرأة إلى أسفل الدرجات ليعلي من شأن الرجل، كما يتشكل في الوعي الجمعي للجماعات الاجتماعية التي يغلب عليها الإتباع الجامد والتقليد السلبي وترفض أن تمنح المرأة مكانة مساوية لمكانة الرجل أو حتى قريبة منه، وهي جماعات لها تأثيرها الذي يجاوز أفرادها إلى غيرهم أو غيرهن من أبناء المجتمع وبناته خصوصًا بعد أن لجأت هذه الجماعات لنشر أفكارها باستخدام وسائل اتصال جماهيرية لها تأثيراتها الواسعة المدى، لهذا لا غرابة أن يظل الوعي الجمعي للرجال حاملًا بعض رواسبه حتى لدى من أكملوا تعليمهم العالي، هذا التعليم الذي لم يقم بتصفية الوعي الجمعي لطلابه تمامًا من الرواسب التي تقف ضد تقدم المرأة، أو تسعي على المستوي اللاشعوري إلى رفض أي شكل من أشكال المساواة بينها وبين الرجل.

إن ما تعيده الثقافة السائدة من إنتاج موروث اجتماعي ذكوري بطريركي، وهو موروث لا يزال يفرض التمييز بين الرجل والمرأة في المكانة الاجتماعية، وما يقترن بهذه المكانة من مجالات التراتب الوظيفي، وهو وضع تدعمه أبنية التقاليد الاجتماعية التي تورثنا إياها الثقافية التقليدية السائدة لاسيما حين تستبدل هذه الثقافة الزوج من حيث هو رجل بالحاكم المطلق، وتستبدل المرأة من حيث هي أنثى بالمحكوم الذي يطيع هذا الحاكم طاعة الإكبار والتصديق، ويعني هذا الأبنية التي تستند إلى مأثورات قديمة، منها تلك الكلمة المأثورة المنسوبة إلى امرأة سعيد بن المسيب التي تقول فيها “وما كنا نكلم أزواجنا إلا كما تكلمون أمراءكم” والتي هي وجه آخر لما نسب إلى عائشة رضي الله عنها من كلمات تقول “يا معشر النساء لو تعلمن بحق أزواجكن عليكن، لجعلتن المرأة منكم تمسح الغبار عن قدمي زوجها بحر وجهها”.

وبالتالي يستنكر الوعي الذكوري العام ولو على المستوى اللاشعوري ترقي المرأة وصولًا إلى أعلى المناصب، ولا يقبل فتح أبواب وظائف أو مناصب بعينها أمام النساء، وذلك إلى جانب القيود الاجتماعية المفروضة على إبداع المرأة ونتاجها الفكري في معظم البلدان العربية، وهي قيود نابعة من عادات ومفاهيم مترسخة، ينظر فيها إلى ممارسة المرأة للإبداع الأدبي أو الفكري باعتباره أمرًا معيبًا، كما أن المسكوت عنه في الخطاب النسائي لأي مجتمع عربي أكثر بكثير من المسكوت عنه في خطاب الرجل، بالإضافة إلى موقف المرأة ذاتها من هذه الأوضاع خاصة المواقف السلبية منها والتي تنشأ على قبولها، مما يتطلب إعادة تأهيل المرأة ذاتها إن صح التعبير للتخلص من الهزيمة الداخلية التي تمنع من اتخاذ المبادرة للتغيير دون أن تفقد المرأة والمجتمع القيود والرموز الإيجابية التي تسجلها تلك الموروثات الثقافية.

اترك رد