مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قراءة نقدية للمجموعة القصصية (وليمة التملي) للكاتب علي نويجي

17

قراءة نقدية للمجموعة القصصية (وليمة التملي) للكاتب علي نويجي

بقلم د. منى بركات

تحياتى للأستاذ الإعلامي والكاتب الكبير (علي نويجي)، والأستاذ القاص والناقد الكبير المستشار (أحمد جلبي)، والأستاذ الروائي والناقد (د. محمود نبيل القاضي)، وبعد..

نحن الآن مع الكاتب والصحفي: علي ممدوح لطيف نويـجـي، عضو اتحاد كتاب مصر  ومجموعته القصصية الممتعة (وليمة التملي) المكونة من اثنتي عشرة قصة قصيرة والتي صدرت في العام2020 في القاهرة.

وصدر للأستاذ (علي نويجي):

1-حرب الفضائيات – غزو العراق بالصوت والصورة – 2010

2-شبه ثورة (أحداث ثورة يناير) – الناشر مركز الحضارة العربية- 2014

3-رقــيـق الـفـقــر (رواية) – الناشر مركز الحضارة العربية – 2016

4- ثورة تجرها عربة (مجموعة قصصية) – الناشر مركز الحضارة العربية – 2017

5-عابثون خلف ظهر القمر (مجموعة قصصية) – الناشر مركز الحضارة العربية- 2018

– نشرت له العديد من القصص القصيرة والمقالات السياسية بعدة صحف مصرية وعربية

– عمل بصحيفة الجمهورية (1991 – 1996)، وصحيفة الشرق الأوسط اللندنية (1995) وأسس القسم الفني في مجلة آفاق الكويتية (2000)

– عمل في أخبار التليفزيون المصري (2016- 2019 )

– عمل مشرفا على الأخبار بفضائية (الغد العربي الإخبارية) (2013-2016)، ورئيس تحرير في فضائية (العربية الإخبارية) (إم بي سي) بدبي (2003-2008)، ومحرر مراسل في قناة أبو ظبي (2000-2003)، وفي أخبار تليفزيون الكويت، ومراسل للتليفزيون المصري بالكويت (1996 – 2000)، ولأخبار الإذاعة (1987- 1992) ، ولأخبار التليفزيون والفضائية (1991 – 1996).

تضمنت المجموعة التي بين أيدينا اليوم قصص: أخطاء خطيرة، خسوف القمر، وليمة التملي، أفواه المقابر، القبر الملتهب، البريء والموت، أم الأم، حمادة حركات، راكية الخرطوش، كفر الزور، دكان الزلباني، مهر العروس.

وهذه القصص تدور حول الأجواء الاجتماعية التي صاحبت النكسة وحرب الاستنزاف وما تلاها من أزمات؛ مرورا بالتداعيات الاجتماعية لحرب الخليج الأولى، وأجواء الأزمات التي أدت إلى ثورة 25 يناير، وصولا إلى ما بعد تعويم الجنيه بثلاث سنوات. والقصص كلها لها نكهة اجتماعية: اقتصادية/ سياسية ظاهرة.

ولنبدأ بالإهداء فعلم النص (الدراسات النصية الحديثة علمتنا أن نبدأ من الإهداء). يقول الكاتب في الإهداء: إلى عمي الحاج محمد المتصوف الذي يطل على مشارف العقد التاسع حاملاً موروثاً ثقافياً وثراءً فكرياً وزاداً دينياً كبيراً، رغم أنه لم يتخط مرحلة التعليم الابتدائي..

إذا الفكرة التي تطرح نفسها من الإهداء هي أن الرسالة موجهة إلى كل من كان حاملاً موروثاً ثقافياً وثراءً فكرياً وزاداً دينياً كبيراً من الشعب المصري، وأن لم يتخط مرحلة التعليم الابتدائي.

‎ونحن نسعى على امتداد هذه القراءة لمحاورةَ النصّ ومقاربةَ مساحاته المعتَّمة، ويُعدُّ العنوان مرتكزاً أساسيا في قراءة النص؛ باعتباره نصا موازياً لمتن القصة القصيرة. ونظراً لما يحمله من دلالات تعبيرية وإيحائية؛ فقد أصبح يجسّد السند الأول لسبر أغوار النص وولوج تلابيبه.

وعنوان هذه المجموعة يَتشكَّل من كلمتين (وليمة التملي) وهو يحمل دلالات متعددة منها: أن الوليمة تشير إلى مشكلة الطعام؛ مشكلة البطون الخاوية على الرغم من الوعود المتتالية للشعب المصري بالرخاء؛ أما التملي: فهي وظيفة في القرى لأجير يعمل باليومية في أي عمل من الأعمال الوضيعة. و”تَمَلِّي العُمْرِ: طُولُ العُمْرِ والاسْتِمْتَاعُ بِهِ، وتَملِّي الصِّحابِ: التَّمَتُّعُ بِهِمْ، وتملي بمعنى دائماً أو إلى الأبد، وأصل هذه الكلمة تركية ودخلت في لسان مصر بزمن العثمانيين في مصر. إذا فنحن أمام أزمة رجل سعيد رغم جوعه الأبدي. ويعيد الكاتب سبب الأزمة إلى تأثير الحداثة التي تم التعامل معها بعشوائية (رش الحقول بالمبديدات بواسطة طائرات الرش التي لوثت مزروعات الحقول ومصارف المياه وقتلت الأسماك)، فضلا عن الصراع العربي الإسرائيلي؛ وخصوصا بعد حرب الاستنزاف وما تلاها من أزمات اقتصادية عصفت بالفقراء من المواطنين وبالذات في القرية.

ونبدأ الحديث بالقصة الأولى التي تحمل عنوان (أخـطاء خطيرة)؛ مما يجعل القارئ يتساءل: ما هي هذه الأخطاء الخطيرة؟، ثم إن القارئ يجد في العنوان حذفا نحويا، فقد تم حذف المبتدأ واكتفى الكاتب بالخبر الموصوف، وعليه يمكن أن يكون المبتدأ المحذوف هو كلمة “هذه”، فيكون العنوان ساعتها (هذه أخطاء خطيرة)، وقد يكون الخبر هو المحذوف، وتكون كلمة (أخطاء) مبتدأ موصوف مما يجيز لنا الابتداء بنكرة خصوصا إذا كانت موصوفة، ويمكن أن يكون الخبر في هذه الحال شبه جملة، ونتوقع أن يكون العنوان كما يلي: (أخـطاء خطيرة في وطننا).

وعند الاستنجاد بمتن القصة نرى أنفسنا في أثناء حرب الاستنزاف وأمام خادمة سليبة الشرف “متصدعة بائسة كبطة منزوعة الريش”([1]) جاءت إلى القاهرة من القرية، استأمن أهلها عليها البواب، لكنه استغل براءتها والتهم أنوثتها واعتدى عليها عدة مرات فكانت وكأنها عبدة عنده، “كانت تفكر في مخرج آمن من محنتها”([2])؛ كانت دائما تخشى العودة إلى القرية. أما المخرج الآمن من تلك الأزمة ذات الأخطاء الخطيرة فهو –كما يرى المؤلف- الخلاص من ذلك البواب الذي يستغلها (وهو معادل موضوعي لنظام حكم عبد الناصر) والعودة إلى براءة القرية أو العودة إلى الماضي.

أما عنوان القصة الثانية فهو (خــسوف القمـر) وفيه حذف نحوي وحذف مضموني، فمن حق القارئ أن يتساءل: عن أي قمر يتحدث المؤلف؟، وهل القمر هنا مادي يُرى خسوفه واكتمال ظهوره أو أنه خسوف معنوي لقمر الطبقة الاجتماعية العليا؟.

وعند الاستنجاد بالمتن نرى الشابة التي آمنت بأن الناس سواسية كأسنان المشط فقررت أن تتجاوز الفروق الطبقية وأن تحقق العدالة الاجتماعية على طريقتها “كان عليها أن تنزل الدرج ببطء حتى تصل في نهايته إلى حيث البسطاء، فلا طاقة له للالتقاء بها في وسط السلم”([3])؛ فتنازلت عن عليائها ورضيت من العيش بما يرضى به ويعيشه أبناء الطبقة الفقيرة فكانت محاولتها هذه معادلا موضوعيا لمحاولة عبد الناصر تحقيق العدالة الاجتماعية وتذويب الفوارق بين الطبقات في ستينيات القرن الماضي.

أما انتحارها في نهاية القصة فكان رمزا لانتهاء التجربة الناصرية بالفشل، لأن الكاتب يرى أن تذويب الفروق بين طبقات المجتمع أمر غير قابل للتحقيق، ويعيد سبب ذلك إلى الطبقات الفقيرة في تريد أن تتجاوز واقعها المتردي وترتقي بمستواها الاجتماعي عن طريق التعليم والزواج من طبقة أرقى، ولكن الذين طلبوا العدالة الاجتماعية -ومنهم عادل- عندما خسف القمر -ونزلت الطبقة العليا من عليائها لكي تصير في مستواهم- لم يتقبلوا ذلك ولم تعجبهم عندما تدنت وبحثوا عن أخرى؛ فحتى المتعلمون منهم فقدوا انبهارهم بالصفوة التي نزلت من عليائها لكي تتساوى معهم..

فالعنوان (خسوف القمر) ينتقد نمط العدالة الاجتماعية على طريقة عبد الناصر، ويرى أن تجربته لم تستطع الارتقاء بمستوى الطبقة الفقيرة، فكل ما استطاعت إنجازه هو افقار الطبقة الغنية. ولهذا من الطبيعي أن تفشل في النهاية وتنتحر.. فهذا هو المعنى العميق للعنوان القصة والذي يسحق أن نعطيه الاهتمام.

القصة الثالثة (ولــــيمة الـتـمـــــلي) التي سميت بها هذه المجموعة ونرى عبده التملي الإنسان المصري الساخر من كل مآسيه فهو (تملي عبد، تملي فقير) ولا يجد غضاضة في التعايش مع الفقر وترويضه طالما كان مكتوباً على جبين أمثاله من البشر. وتضعنا القصة مباشرة أمام تأثير النكسة على الشخصية المصرية اقتصاديا ونفسيا. تلك الأزمات التي أحالت أبناء الشعب إلى متسولين فقدوا كرامتهم.

وأيضاً هناك (عناوين لبعض القصص) مختارة بعناية لتساهم فى إكمال الصورة الحكائية؛ فقصة (أفواه المقابر) التي تحكي تأثير الأزمة الاقتصادية على فقراء القاهرة بعد نكسة 67 وأثناء حرب الاستنزاف “وبعيد عن مصر وغارات طيارت اليهود والهم ده”([4]). (الاسم متناسب مع رؤية الكاتب لحرب الاستنزاف ف”صحيح الموت علينا حق.. لكن إحنا إلي بنستناه في بيوتنا وكمان بنهرب منه.. مش نجيله برجلينا لحد عنده”([5])). والرواية تحمل اعتراضا من الكاتب على كيفية إدارة عبد الناصر للصراع العربي الإسرائيلي، وسياسيته الداخلية وإدارته لمصالح الدولة العليا؛ يقول السارد: “لا يدري من يلوم في نهاية الأمر فهو متعلم حاصل على ليسانس حقوق من جامعة القاهرة.. كان موظفاً كبير الشأن مولعاً بعبد الناصر ومن أجله آمن بمبادىء الاشتراكية التي طرحها ناصر منذ أن كان طالباً في الكلية، وتبحر في القراءة حول الشيوعية منهج السوفييت أصدقاء ناصر.. لا يستوعب حتى اليوم لماذا زجوا به في السجن شهوراً طويلة ورفتوه بعدها من الوظيفة؟!. هناك خلل كبير يتعين إصلاحه، لكنه لا يدري ما هو.. إنه الخلل الذي أضاع سيناء ونكس الرءوس المرفوعة.. هل سجنوه لأنه جاهر بالحقيقة بأن العرب دائماً لا يستوعبون الدرس، وأنها لم تكن المرة الأولى التي تحتل فيها إسرائيل سيناء.. بل احتلتها من قبل في حرب عام 1956 وعادت لتحتلها مجدداً بنفس الطريقة.. وتساءل: هل عبد الحكيم عامر الذي رقاه عبد الناصر من رتبة صغيرة إلى رتبة مشير أعلى رتب الجيش دفعة واحدة ليصبح قائد القوات المسلحة يتحمل المسئولية وحيداً أم أنه نظام كامل؟.”([6])

فهذه الإدارة يرى المؤلف أنها فتحت على مصر أفواها من المقابر “كل قبر ياختي انفتح ما استكفاش بميت واحد”([7]). وهي السبب في الأزمة الاقتصادية التي كان من تداعياتها أزمة المساكن بسبب أن معظم ميزانية الدولة كانت تذهب إلى المجهود الحربي.

ولا أريد أن أتطرق إلى كافة العناوين في هذه المجموعة القصصية وإنما أترك للقارئ اكتشاف ما قد توحي به بقية العناوين من أفكار واستنتاجات.

اللغة والسرد :

تعددت الأصوات السردية عند الكاتب فتوزعت بين استخدامه لضمير الغائب، ويكون السارد من نوع السارد أو الراوي العليم الذي يعرف كل شيء عن الأحداث وتطورها في القصة أو الرواية، (وقد سيطر الراوي العليم بضمير الغائب على قصص: أخطاء عظيمة، وخسوف القمر، ووليمة التملي، وأفواه المقابر، وأم الأم، وراكية الخرطوش، وكفر الزور، ودكان الزلباني، ومهر العروس)،

وفي أحيان أقل استخدم ضمير المتكلم الذي سيطر على قصة (البريء والموت) التي كان السارد فيها من نوع السارد المشارك الذي لا يعرف عن الأحداث في القصة أكثر مما يعرفه القارئ.

وربما استخدم الكاتب أكثر من ضمير في القصة الواحدة كما في قصة (حمادة حركات) التي زاوج فيها بين ضمير الغائب وضمير المتكلم وإن غلب عليها السرد بضمير المتكلم، يقول الراوي: ” كنت أسكن في حي السيدة زينب مع والدتي ونعيش حياة رغدة وكنت أعمل بورشة سيارات يمتلكها خالي وتتمتع والدتي بنصيب منها”([8])، ليعود بعد ذلك إلى استخدام ضمير الغائب، يقول: “وواصل الحكي وبين الحين والحين يشعل سيجارة ويزفر دخانها ويرنو إلى غيمة الدخان المتبددة وهو يحاول أن يستجمع شتات ذكرياته”([9]).

وقد تراوح استخدامه لضمير الغائب بين الفعل المضارع الذي يدل على الحال والاستقبال، وبين الفعل الماضي الذي يدل على انقضاء الحدث ليصبح مجرد ذكرى، يقول الراوي في قصة (خسوف القمر): “تمضي سعاد فوق كوبري الجامعة عابر النيل مشتتة الذهن تسابق الذكريات خطواتها وتحاول إثنائها عن أمر جلل عقدت العزم على تنفيذه”([10])، ويقول في قصة “وليمة التملي”: “تمردت عليه مصارين بطنه تنذره بقرقرتها المتعالية وتهدده بتكرار نوبات الإسهال إذا تعشى أي من مكونات اللبن.. إنها تنشد الطبيخ الشهي”([11]).

 

ملاحظات لغوية:

هناك ملاحظات لغوية برزت في هذه المجموعة حول بعض الأخطاء اللغوية أو المطبعية أو النحوية أو الإملائية،  وإن كانت على قلة؛  ومنها: في رواية (القبر الملتهب) خطأ طباعي “أحسب أن الله نجاه كما نجى سيدنا (يعقوب) من الحريق الذي رماه فيه الكفار”. فالله قد نجى سيدنا (إبراهيم) وليس سيدنا (يعقوب).

 

 الشخصيات:

معظم شخصيات القصص محددة الأسماء أو الهوية فيما عدا قصة (أخطاء خطيرة) حيث بطليها خادمة طفلة وبواب يلتهم براءتها؛ لم تذكر القصة أسماءهما، وقصة (البريء والموت) التي كان بطلها طفل يصف كيف تلقى أحداث وفاة والده. وإغفال الاسم في هاتين القصتين يفيد العموم.

وتغلب على المجموعة القصصية الشخصيات الذكورية إضافة إلى بعض الشخصيات النسائية اللتين جعلهما بتطلتين لقصتين مأساويتين فأضفى عليهما مسحة إنسانية، والمرأة فى القصتين سواء أكانت جاهلة فقيرة خادمة منتوفة الريش أو متعلمة أرستوقراطية دفعتها رومانسية الثوار إلى تقبل الدنو الطبقي فهي امرأة ضعيفة غير مؤثرة استلب منها شرفها، أو انكسرت وفقدت قدرتها على تسيير أمور حياتها بعد أن انتزع منها علياؤها الطبقي وما اكتسبته من شهادات علمية وقبلت بأن تتمرغ في وحل الفقر والجهل في القرية ولم تستطع أن تحافظ حتى على مكتسبات العدالة الاجتماعية التي حاولت أن تطبقها على نفسها أولاً؛ فخسرت كل شيء وكان جزاؤها الانتحار بالفعل بعد أن قبلت بالانتحار المعنوي (على رأي المثل: اللي يطاطي يستاهل).

إذن نحن في هاتين القصتين في إطار كتابات المرأة التى تُظهر المرأة المستغَلَّة مَهيضة الجناح، أو المرأة وطن منكسر!.

وأيضا هناك قصة بطلها طفل يصطدم بموت أبيه. ونلاحظ فيها أن شخصية الطفل تتبع رغبات الرجل وتصوراته وأسلوبه في الحكي، حيث يظهر لنا في صورة ذلك الطفل الذي تجاوز مرحلة الطفولة قبل الأوان، وصار التفكير في موت أبيه وتبعاته شغله الشاغل، يقول الراوي: “ما إن اقتربنا من الدار حتى ظهر جمع غفير من النسوة المتشحات بالسواد جلسن في دوائر على قش الأرز والحصير الذي افترش الشارع ومدخل الدار في ظل قطعة الخيامية التي تسقف الشارع.. بصعوبة شققت طريقي بين الصدور والظهور والعيون السوداء الحزينة التي تطل من رءوس معصوبة بالسواد والأخرى المعزية المتسائلة.. كان صحن الدار غارقاً في السواد وجدتي وعماتي وأمي يدعونني من بعيد بعيون حمراء متقرحة متورمة.. ثم منحوني لقب ابن المرحوم مع دعوات متكررة لي بطول العمر وخلافة أبي”([12]).

كما أنسن الراوي الجماد؛ ففي قصة (خسوف القمر) جعل (العمارة) إنسانا يتستوقف ويتحدى الحاضر القبيح؛ “استوقفتها عمارتهم الجميلة التي مازالت شامخة تتحدى الحاضر القبيح، أطل منها الماضي الزكي وأيام الطفولة والصبى والبراءة والطهارة وكل شيء جميل في حياتها”([13]).

وأيضا جعل السارد من (صورة الأم داخل الإطار الزجاجي) كائنا عاقلا نابضا بالمشاعر ناطقا متحركا، يقول: “فوقفت في مواجهة للنيل، وبدأت تحكي لصورة أمها بصوت غير مسموع فصول مأساتها.. رأت الدموع في عيون الصورة تحت زجاج الإطار، ارتفع صوتها فتخيل الناس الأقربون أنها مجنونة، تحادث صورة جامدة.. دبت الحياة في الصورة وحادثتها الأم وهي تهم بالخروج من الإطار الزجاجي فأحزان ابنتها لا يتحملها مخلوق حتى لو كان جماداً.. هدأت الأم من روع ابنتها وهي تتفقد الموضع الذي تركت فيه ابنتها المعطف الجلدي على الكوبري في مكان يفترض أنها سقطت منه منذ أربع سنوات.. فقزت الأم في الهواء ببراعة ولياقة راقصة باليه، ونزلت ببطء تتهادى كأنها معلقة في باراشوت إلى أن استقرت على صفحة ماء النيل، ومضت تسير برشاقة وهي تشير داعية ابنتها المتحفزة إلى القفز والانضمام إليها”([14]).

ونجد في بعض القصص ما يشير إلى أن الراوي يعمل إعلاميا، ولو تتبعنا العبارات التالية نجد أننا نستطيع أن نؤكد ذلك:

ففي قصة (أخطاء خطيرة) يقول: “خلف الجدار الواطىء الذي بني من الطوب الأحمر أمام الباب حسب تعليمات الدفاع المدني تحسباً لوقوع غارات إسرائيلية، ليقي سكان العمارة من شظايا انفجارات محتملة”([15]).

قد يهمك ايضاً:

وفي قصة (أفواه المقابر): “إبنك هايخش الديش وعبد الناصر بعد النكسه بيلم كُـــله”([16]). وأيضاً: “قال راديو بثقة وصوت المذيع صالح مهران الجهوري الأخاذ:- “قامت مجموعة من أبطال قواتنا المسلحة بعبور قناة السويس الليلة الماضية وتسللت إلى داخل سيناء المحتلة، ونفذت عملية نوعية خلف خطوط العدو ودمرت عدداً من آلياته وفجرت مستودعين للذخيرة وكبدت العدو خسائر مادية جسيمة، وأسفرت العملية عن قتل عدد من جنود العدو… و… “([17]).

وفي قصة (أم الأم): “كان يسدد بصعوبة نفقات الدار التي تضاعفت بعد تعويم الجنيه قبل ثلاثة أعوام.. بات من المستحيل الآن تدبير نفقاتها خاصة بعد أن تخلت عن خدماته القناة الفضائية التي كان يعمل بها في ظل انكماش الإعلام ورسالته.. بات يدبر نفقات بيته مما تقتطعه الزوجة من راتبها، ومن جيوب الآخرين في انتظار انفراجة عمل جديد”([18]).

 

الحدث والزمان والمكان:

والأحداث لا يمكن أن تقع خارج إطار الزمان والمكان اللذان لا يتواجدان بالضرورة خارج وعي الإنسان صانع الحدث الذي تغلب عليه الحركة التي تكشف لنا ماهية الزمان والمكان، ولعل الأحداث تتنوع حسب تنوع الزمان والمكان، ولكن ما يوحد أحداث هذه المجموعة هو الأزمات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.

ولم نلاحظ مشاركة المرأة بقوة في صنع أحداث القصص وتوجيه دفتها حيث كانت إما عاجزة مفعول بها كالخادمة التي في قصة (أخطاء خطيرة)، أو انكسرت بفعل ظروف أقوى منها كسعاد أميرة مصر الجديدة في قصة (خسوف القمر) وخصوصاً عندما كان من ضحت من أجله ونزلت من عليائها إلى طبقته السبب في نكستها.

وتدور معظم أحداث القصص في فترة ما بعد النكسة وحرب الاستنزاف:

– ففي قصة (أخطاء خطيرة) كان هناك تعلميات من الدفاع المدني تحسبا للغارات الإسرائيلية.

-وفي قصة (خسوف القمر) يشير فشل البطلة في تحقيق إيمانها بأن الناس سواسية كأسنان المشط على أرض الواقع وانتحارها في النهاية إلى نكسة الوطن وفشل التجربة الناصرية في تذويب الفوارق بين الطبقات. وأيضا هناك شاهد آخر على ذلك حيث كان اللقاء الأول بين الحبيبين، حينما كانت تسرع إلى المدرج حتى لا تتأخر عن محاضرة الدكتور رشاد رشدي الذي حل ضيفاً على الكلية، وكانت قمة مجد دكتور رشاد رشدي في نهاية الستينات وبداية السبعينات.

وفي قصة (وليمة التملي) كان الولد الشقي (راديو) يقلد صوت المذيع الذي يحرص على سماع نشراته من يـُمضي أولادهم الخدمة العسكرية الإلزامية في “الجهادية” – كما يطلقون عليها خاصة بعد النكسة -، و”قال راديو بثقة وصوت المذيع صالح مهران الجهوري الأخاذ:- “قامت مجموعة من أبطال قواتنا المسلحة بعبور قناة السويس الليلة الماضية وتسللت إلى داخل سيناء المحتلة، ونفذت عملية نوعية خلف خطوط العدو ودمرت عدداً من آلياته وفجرت مستودعين للذخيرة وكبدت العدو خسائر مادية جسيمة، وأسفرت العملية عن قتل عدد من جنود العدو… و… “([19]).

وفي قصة (أفواه المقابر) كان الحديث عن عبد الناصر اللي بيلم كل الشباب للديش بعد النكسة، وكان تساؤل الشاب الذي سبق اعتقاله على الرغم من أنه مؤمن بأفكار عبد الناصر “هل عبد الحكيم عامر الذي رقاه عبد الناصر من رتبة صغيرة إلى رتبة مشير -أعلى رتب الجيش دفعة واحدة- ليصبح قائد القوات المسلحة يتحمل المسئولية وحيداً أم أنه نظام كامل؟”.

أما قصة (أم الأم) فالزمان فيها بعد تعويم الجنيه بثلاث سنوات وما صاحب ذلك من أزمات اقتصادية وأثرت في أخلاقيات المجتمع وصبغت المصري “بنذالة اقتحمت طابعه بخلو جيبه”.

وقصة (كفر الزور) التي حدد الكاتب أحداثها في العام 2010 إبان انتخابات مجلس الشعب المفبركة لأن الحكومة كانت تريد أن يكون داخل البرلمان بعض المعارضة؛ لكي يصدق الشعب لعبتها الديمقراطية.

وفيما عدا هذه القصص هناك قصص في هذه المجموعة لا يوجد فيها أية إشارة إلى زمان محدد:

-فقصة (القبر الملتهب) لا يوجد بها أي إشارة إلى الزمان، ولكن يمكن استشفاف الزمان من عودة ابن العم من العراق وعدم رضاء الأخوة عن عدل السماء في توزيع الثروات فقرروا أن ينوبوا عنها في إقامة العدل في توزيع الثروة؛ ليكون الحدث في رأينا إبان حرب الخليج الأولى على الأرجح لأن زمان انتهاء الكاتب من كتابة هذه القصة كان 1990، وليكون حدث قتل الأخوة لابن عمهم الثري طمعا في نصيبه من ميراث جدهم معادلا موضوعيا –في رأينا- لرغبة صدام حسين في الاستيلاء على أموال الكويت، إعادة توزيع ثروات العرب على جميع العرب. وإن لم يحدد الراوي ذلك بصراحة.

– وكذلك الحال في قصة (حمادة حركات) التي لم يرد فيها ذكر لأي زمان ونستطيع أن نستشف الزمان فيها كان في نهاية الثمانينات وبداية التسعينات على الأرجح؛ حيث انتشار استعمال السلاح الأبيض والمخدرات في العشوائيات وبالذات مخدر (الصليبة) الذي ظهر استعماله في تلك الفترة، ولأن زمان انتهاء الكاتب من كتابة هذه القصة كان 1990.

– وكذلك الحال في قصة (دكان الزلباني) التي نستشف أن أحداثها قد حدثت بعد ثورة 25 يناير؛ وإن لم يحدد الراوي ذلك بصراحة؛ حيث الحديث عن عزوف الناس عن الشراء والأزمة الاقتصادية التي أدت إلى إفلاس العديد من المشاريع التجارية والتي لم يستطع أن يفسرها الجاهل صاحب الدكان الخاسر إلا بالنحس أو الفقر الدكر بسبب جهله.

أما قصة (البريء والموت) فالزمان فيها مبهم تماما وليس فيها أي تحديد لزمان وفاة والد الطفل، وكذلك الحال في قصة (راكية الخرطوش) التي تم فيها إنهاء المحضر في ساعته وتاريخه وليس بها أي تحديد لزمان وقوع جريمة قتل الأخ لأخيه.

ولعل الزمن النفسي هو المسيطر على أجواء تلك القصص، وهو يتسم بالقلق، وفي حالة القلق يبدو الزمن طويلا خاصة إذا متعلقا بانتظار شر أو بلاء يمكن أن يحط على الإنسان في أية لحظة، ومن العبارات الدالة على ذلك في قصة (أفواه المقابر) ما يلي: “هبط الليل ثقيلاً بطيئاً يغطي منطقة المقابر الكئيبة بالظلام والرهبة بعد أن انسحبت منها حياة البشر رويداً رويداً وحل محلها الصمت.. شعرت العجوز بشيء من الخوف يجتاحها لأول مرة منذ قدومها قبل أيام إلى منطقة المقابر”([20]).

كما استخدم الراوي عبارات تدل على الزمن المستمر، مثل: “مازالت تتذكر بوضوح الشمس اللقاء الأول المشرق، حينما كانت تسرع إلى المدرج حتى لا تتأخر عن المحاضرة.. يستوقفها ليسألها عن اسم المدرج الذي يحاضر فيه الدكتور رشاد رشدي الذي حل ضيفاً على الكلية”. فالفعل ما زال يدل في هذه العبارة على استمرار تذكرها للحب الذي ضحت من أجله على الرغم من وطأة الواقع وآلامه”([21])، وفي عبارة: “استوقفتها عمارتهم الجميلة التي مازالت شامخة تتحدى الحاضر القبيح، أطل منها الماضي الزكي وأيام الطفولة والصبى والبراءة والطهارة وكل شيء جميل في حياتها”([22]). يدلل السارد على استمرار شموخ الطبقة العليا واستمرار تحديهم للواقع القبيح.

أما المكان في مجموعة علي نويجي فمحدد في معظم القصص؛ إذ هو أحد أحياء مدينة القاهرة سواء أكان في الحي الراقي (حي مصر الجديدة)، أو في الأحياء الفقيرة (خلف المقابر وفي الحي عشوائي)، أو هو في إحدى القرى بريف مصر؛ وإن كانت تلك القرى والأحياء الفقيرة بالذات ضبابية الملامح بلا أسماء، وكل ما ندركه أن الوطن هو الوعاء الذي يحتوي هذه الأماكن التي دارت فيها أحداث القصص.

مما سبق يتضح لنا أن مضامين هذه المجموعة القصصية تتمحور حول الهم الوطني والاجتماعي، وقد لجأ الراوي إلى السخرية في رسمه للواقع المر، بسبب أخطاء وقعت فيها ثورة 23 يوليو فأدت إلى النكسة وما تلاها من أزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية.

وأن المجموعة بشكل عام تدور فى خمسة أفلاك رئيسية هى :(تأثيرات حرب الاستنزاف وحرب الخليج الأولى وما تلاهما من أزمات اقتصادية على حياة المواطن العادي، وتزييف الحياة الديمقراطية في نهاية عهد الرئيس السابق حسني مبارك، وعدم إمكان تطبيق العدالة الاجتماعية، وأزمة المرأة غير المتعلمة، وفكرة الموت). وهي كلها تدور حول الحاضنة السوسيولوجية.

والراوي إعلامي قدير مطلع على الأحوال السياسية والاجتماعية والاقتصادية في مصر والوطن العربي بحكم عمله؛ ولذلك استطاع أن يتناول لقطات صغيرة منتقاة بعناية تلقي الضوء على بعض من أزمات الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في مصر. ومن هنا فإن السرد في هذه المجموعة لم يكن سردا لمشكلات عانت منها مصر؛ ولكن الهدف منه إلقاء الضوء على هذه المشكلات لعلنا نجد الحل لها.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

[1]() علي نويجي، وليمة التملي، ط1، القاهرة، دار الحضارة العربية، 2020م، ص: 7.

[2]() المصدر السابق، ص: 7.

[3]() المصدر السابق، ص: 22.

[4]() المصدر السابق، ص: 50.

[5]() المصدر السابق، ص: 51.

[6]() المصدر السابق، ص: 51 -52.

[7]() المصدر السابق، ص: 51.

[8]() المصدر السابق، ص: 79.

[9]() المصدر السابق، ص: 79.

[10]() المصدر السابق، ص: 20.

[11]() المصدر السابق، ص: 34.

[12]() المصدر السابق، ص: 65.

[13]() المصدر السابق، ص: 30.

[14]() المصدر السابق، ص: 31- 32.

[15]() المصدر السابق، ص: 7.

[16]() المصدر السابق، ص: 45.

[17]() المصدر السابق، ص: 36

[18]() المصدر السابق، ص: 74.

[19]() المصدر السابق، ص: 36

[20]() المصدر السابق، ص: 44.

[21]() المصدر السابق، ص: 20- 21.

[22]() المصدر السابق، ص: 30.

اترك رد