مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

نظرة عامة وسريعة على الردع النووى الأمريكى

6

بقلم – الدكتور على عبد النبى:

تعتمد القوى العظمى على ترسانات ضخمة من الأسلحة النووية ذات القوى التدميرية الهائلة – أكثر بكثير مما هو ضروري – مما يجعل من المحتمل أن يكون فشل الردع النووى كارثيا.

 

الردع النووى، يشكل قلب استراتيجيات الأمن القومى فى الدول الكبرى، وهى المكلفة بالحفاظ على وجودها وأمنها واستقرارها ودفعها للعمل من أجل التنمية. الردع النووى فى المفهوم العام وفى مفهوم الولايات المتحدة أنه عملية معقدة للغاية، فهو ليس مجرد نظرية وسياسة وقوى وأسلحة. ولكنه يتضمن أيضاً نظاماً من الإجراءات والعمليات والتكامل بين الإدارات والوكالات والمنظمات الحكومية. علاوة على ذلك، فإن البنية التحتية النووية والقيادة والسيطرة النوويين وإدارة المخزون والسلامة والأمن النوويين تمكن الردع النووى من تحقيق النجاح.

 

بعد تدمير مدينتى “هيروشيما” و”نجازاكى” بالقنابل الذرية فى 6 و9 أغسطس 1945، تولد الخوف والرعب نتيجة الأهوال التى صاحبت هذا العمل الدنئ، فهى جريمة اهتز لها ضمير البشرية. فكان لابد من وجود رادع قوى لعدم تكرار استخدام الأسلحة النووية فى الحروب. وهنا ظهر ما نطلق عليه “الردع النووى”.

 

وأصبحت حجة الدول فى امتلاك الأسلحة النووية، هو بهدف ردع الدول الأخرى عن مهاجمتها ومهاجمة أسلحتها النووية، وذلك من خلال الوعد بالانتقام والتدمير المؤكد المتبادل Mutual Assured Destruction . يتطلب الردع النووى الناجح أن تحافظ الدولة على قدرتها على الانتقام، إما عن طريق الاستجابة قبل تدمير أسلحتها أو من خلال ضمان قدرتها على توجيه ضربة انتقامية ثانية.

 

في عام 1943، بدأ مشروع “مانهاتن” النووى الأمريكى، وشارك في هذا المشروع علماء من بريطانيا وعلماء من كندا جنبا إلى جنب مع العلماء الأمريكان. وبعد الحرب العالمية الثانية، وطوال خمسينات القرن الماضى ركز برنامج الأسلحة النووية الأمريكى على إنتاج مواد نووية كافية لبناء ما يكفى من الأسلحة لدعم القدرة النووية الأمريكية. وبدأ السباق النووى المحموم بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتى، وزادت كميات مخزونهما من الأسلحة النووية حتى امتلكت كل منها أسلحة نووية بكميات كافية لتحقيق قدرة الضربة الثانية. وكانت حماية أوروبا الغربية  من ضمن أولويات التخطيط العسكرى الأمريكي.

 

بدأت أمريكا مشروع الردع النووي عام 1952، وتم اختيار دكتور “جون فوستر” ليرأس هذا المشروع. وهذا الرجل كان متحمسا جدا لمبدأ الردع النووى، وكان له رأي يتلخص في: “إن التأكيد على أن الأسلحة النووية غير مهمة الآن هو الإشارة إلى أن الردع لم يعد مهماً، أو أن المستقبل سيكون أكثر اعتدالاً من الماضى، وأننا لن نواجه مرة أخرى مثل هؤلاء المعارضين المسلحين بأسلحة خطيرة”. وهذه هي رسالة هذا الرجل والتى تذكرنا بأننا لا نعيش بعد فى عالم خال من الأسلحة النووية.

 

انتهت فترة الخمسينيات من القرن الماضى بدون حرب نووية، مما أدى إلى التمهل قليلا لمراجعة ما تم خلال الفترة السابقة. ومع بداية عام 1965 وفى عهد الرئيس “ليندون جونسون” بدأت أمريكا في تطوير وتحديث أسلحتها النووية، حيث بدأت في استبدال مخزونها من الأسلحة النووية بأسلحة أكثر حداثة. وظلت الأمور تسير بنفس الوتيرة، حتى وصل ما تمتلكه أمريكا والاتحاد السوفييتى بنهاية عام 1967 إلى أكثر من 30 ألف سلاح نووي، وكان معظمها من الأسلحة النووية الصغيرة “تكتيكية”. وهذا الكم الهائل من الاسلحة النووية يعتبر عبئا ماليا كبيرا على الخزانة وخاصة المبالغ الكبيرة التي تصرف على أعمال صيانة هذه الأسلحة، وفطن الرئيس الروسى “جورباتشوف” (1988-1991) إلى هذه اللعبة المدمرة لاقتصاد بلاده، وتعهد بإيقاف سباق التسليح الذى صار يثقل ميزانية الاتحاد السوفييتى.

 

ثم كان لابد من وقفة مع النفس،  سواء من ناحية الولايات المتحدة أو من الاتحاد السوفييتى، ففي عام 1991 وفى عهد الرئيس “جورج بوش الأب”، وقعت الولايات المتحدة على أول معاهدة لتخفيض الأسلحة الاستراتيجية ستارت-1، وكان قد بلغ إجمالي مخزون الولايات المتحدة حوالى 19 ألف سلاح نووى. وبدأ الرئيس “جورج بوش الأب” فى عام 1991، بمزيد من التخفيضات فى الأسلحة النووية غير الاستراتيجية.

 

واستمرارا لجهوده الرامية إلى تخفيض المخزون من الرؤوس النووية التكتيكية، فقد أعلن الرئيس الأمريكي “جورج بوش الأب” فى المبادرة الرئاسية النووية Presidential Nuclear Initiative عام 1991، أن أمريكا لن تحتفظ إلا بنسبة ضئيلة من الأسلحة النووية غير الاستراتيجية. وأدى قرار المبادرة الرئاسية النووية إلى خفض كبير في عدد الأسلحة النووية الأمريكية التي تم نشرها في أوروبا.

 

ولم تكتف الولايات المتحدة بتخفيض عدد الأسلحة النووية، لكنها في المقابل بدأت في برامج تحديث للمخزون النووي الحربى، ففي الأعوام من 1965 إلى 1992، بدأت أمريكا في تنفيذ دورة متكاملة ومستمرة من برامج التحديث للرؤوس الحربية النووية، وقد تضمن التحديث رؤوس حربية أبسط، مع طاقة تفجيرية أكبر، وحجم أصغر، مع خصائص توظيف أفضل، وزيادة في إمكانيات الأمان والأمن والسيطرة.

 

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب : توحش المصلحجية

الصحة النفسية ….الرهاب الاجتماعى …حلقة 39

مع بداية رئاسة الرئيس “بيل كلينتون”، أى مع بداية أوائل عام 1993، كان هناك فكر جديد ومتطور للاحتفاظ بالمخزون النووي، من خلال دورة التطوير والإنتاج والاستبدال والإحالة إلى التقاعد وهى عملية جديدة ومختصرة. وأصبحت عملية التحديث والاستبدال واحدة من عمليات الإبقاء والمحافظة على مخزون الرؤوس الحربية النووية، وتتكون فى المقام الأول من الأنشطة المرتبطة بالتقييم المستمر والصيانة والإصلاح، وتجديد الأسلحة النووية الأمريكية. وكانت المهمة تتمحور في أن تكون التخفيضات الدورية فى كميات الأسلحة لابد وأن تتوافق مع التخفيضات الأمريكية فى القوى الاستراتيجية المرتبطة بمعاهدات خفض القوة الاستراتيجية.

 

وخلال فترة “بيل كلينتون”، وفى عام 1994، واستجابة للظروف الجديدة، كان هناك قانون “تفويض الدفاع الوطنى”، فقد فوضت وزارة الطاقة لإنشاء برنامج الإشراف لضمان الحفاظ وإدارة مخزون الأسلحة النووية. وقد عمل برنامج إدارة المخزون هذا كبديل للتجارب النووية منذ عام 1992، وحافظ على المخزون، ويتضمن عمليات محاكاة حاسوبية متقدمة، وتجارب، وتعزيز مراقبة، من خلال البيانات المتاحة من أكثر من 1000 اختبار نووى سابق.

 

ومع تنفيذ برنامج إدارة المخزون وفى ظل غياب التجارب النووية، فقد تم توجيه واستخدام هذا البرنامج للتنبؤ ولكشف وتقييم المشاكل المحتملة، والناتجة من تقادم المخزون، ومع تجديد وإعادة تصنيع الأسلحة النووية. بعبارة أخرى، طُلب من مؤسسة الأسلحة النووية تحديد كيفية ضمان استمرار سلامة وأمن وفعالية الأسلحة فى المخزون النووى الأمريكى دون إجراء اختبار تحت الأرض ودون أى خطة لاستبدال الأسلحة القديمة.

 

ومع دخول معاهدة ستارت الأولى START I حيز النفاذ عام 1994، كانت الولايات المتحدة فى طريقها إلى مخزون إجمالى يبلغ قرابة 10 آلاف سلاح نووى، وكانت أغلبيتها أسلحة استراتيجية.

 

انتهج الرئيس “جورج بوش الابن” نهج الرئيس “بيل كلينتون”، وفى عهده كانت معاهدة تخفيض الأسلحة الهجومية الاستراتيجية Strategic Offensive Reductions Treaty SORT عام 2003، وتقييم القدرات النووية الاستراتيجية عام 2004. ونتيجة ذلك فقد خفضت الولايات المتحدة مجموع مخزونها من الأسلحة النووية عام  2009 إلى ما يقرب من 5132 سلاح نووى.

 

واستمرارا للجهود الرامية إلى الوفاء بالتزامات الولايات المتحدة تجاه المعاهدات الدولية، فقد استكمل الرئيس “أوباما” الطريق الذى اتبعه سابقيه من الرؤساء، وفى عام 2009، وقعت معاهدة ستارت الجديدة NEW START، والتي أدت إلى مزيد من التخفيضات فى إجمالى عدد الأسلحة النووية الأمريكية. ونتج عن ذلك، أن يصبح المخزون النووي فى نهاية سبتمبر 2014  يساوى 4717 رأسا حربيا.

 

ومع بداية حقبة حكم “دونالد ترامب” للولايات المتحدة عام 2017، كانت بداية التنصل من الاتفاقيات والمعاهدات الدولية، وبدأها “ترامب” في مايو 2018 بالانسحاب من اتفاق إيران النووي. ثم هو يقرر حاليا التلويح بالانسحاب من معاهدة إزالة الصواريخ المتوسطة والقصيرة المدى مع روسيا.

شدد “ترامب” تحت شعار “السلام من خلال القوة” على الحشد العسكري، وقال: “ندرك أن الضعف هو أضمن طريق للنزاع، والقوة التي لا نظير لها هي أكثر وسائل الدفاع أهمية.”.

 

العقيدة النووية الأمريكية الجديدة، قد تبلورت فى وثيقة “مراجعة الوضع النووي”  Nuclear Posture Review، والتى قد أولت اهتماما كبيرا لتطوير القوات النووية الأمريكية. وتقول الوثيقة، ان واشنطن ستواصل الاستثمار في تطوير الرؤوس الحربية النووية منخفضة القدرة وتحديث عناصر “الثلاثي النووي” (الصواريخ العابرة للقارات والغواصات الاستراتيجية والقاذفات). وأكدت وزارة الدفاع الأمريكية أنها لا تنوي خفض عتبة استخدام الأسلحة النووية، بينما يبقى الهدف الرئيسي للجيش هو ردع “الهجمات الاستراتيجية” النووية وغير النووية.

 

وأشارت إدارة ترامب إلى أنها قد توسع من استخدام الأسلحة النووية كجزء من استراتيجية أمنية جديدة، فيمكن للولايات المتحدة توسيع نطاق استخدامها للأسلحة النووية لمواجهة “الهجمات الاستراتيجية غير النووية”، والمتمثلة في الهجمات الالكترونية (الهجوم السيبراني) ضد البنية التحتية الأمريكية أو أنظمة القيادة والسيطرة العسكرية، والتي تمثل فئة جديدة من التهديد.

 

إن تصنيع رؤوس نووية بقدرة صغيرة للغاية “تكتيكية” وجعلها وسيلة حرب محتملة، من شأنها أن تقوض جميع الاتفاقات الحالية، من الناحية النظرية. كما أن خطة جلب أسلحة نووية جديدة “تكتيكية” إلى الترسانة النووية الأمريكية سوف تطلق سباقا عالميا للأسلحة النووية. وبذلك فإن استراتيجية الأسلحة النووية الجديدة للرئيس “دونالد ترامب” تشجع سباق تسلح قد يزيد من فرص نشوب حرب نووية كارثية.

 

أشكركم، وإلى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى أجمل وأرق التحيات.

 

 

اترك رد