مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

حرارة باطن الأرض

17

بقلم – الدكتور على عبد النبى:

تعرّف الانسان منذ آلاف السنين على طاقة حرارة باطن الأرض ممثلة في مياه الينابيع الساخنة، فكان يستخدمها في الاستحمام، وطهي الطعام. وحتى يومنا هذا، لا تزال الينابيع الساخنة تستخدم كمنتجعات سياحية أو صحية. والينابيع تنشأ طبقاً لقوانين الطبيعة، فعندما تتسرب كميات من مياه قشرة الأرض السطحية مثل مياه الأمطار إلى باطن الأرض، وخاصة فى المناطق القريبة من البراكين، حيث تتواجد الصخور المنصهرة، تسخن المياه ويتولد بخار تحت ضغط ويتصاعد رافعاً معه مياه ساخنة إلى السطح، وذلك من خلال التشققات الموجودة بين الصخور، وبذلك تتكون الينابيع الساخنة. ارتفاع حرارة طبقات الأرض ناتج من، أولا، أن مركز الأرض يحتوى علي صخور منصهرة، ثانيا، الطاقة الحرارية نتيجة التحلل الإشعاعي لبعض المواد المشعة فى صخور طبقات الأرض.

خارج الاختلافات الموسمية، وفي معظم أنحاء العالم، نجد أن التدرج الحراري الأرضي في صخور القشرة الأرضية هو 25-30 درجة مئوية لكل كيلومتر عمق. هذه القيم تكون أعلى بالقرب من حدود الصفائح التكتونية (هي أجزاء من الغلاف الصخري للأرض، وهى الطبقة الخارجية الباردة والصلبة من الأرض والتي تعلوها القشرة الأرضية)، حيث تكون القشرة الأرضية أرق. لكن في كل مكان تقريباً وعلى مستوى سطح الأرض (بعيدا عن مناطق البراكين والفوالق الأرضية)، وعلى عمق 3 متر تقريباً من سطح الأرض (الأرض الضحلة)، نجد الأرض تحافظ على درجة حرارة ثابتة تقريباً بين 10 إلى 16 درجة مئوية، ومع أنها تعتبر درجات حرارة منخفضة، إلا أنه قد أمكن الاستفادة منها، بواسطة “المضخة الحرارية” في تسخين وتبريد المباني. بذلك، أصبح نطاق موارد طاقة حرارة الأرض واسعاً، فهو ممتد من الأرض الضحلة إلى المياه الساخنة والصخور الساخنة والتي على بعد بضعة كيلومترات تحت سطح الأرض، ونزولا لأسفل للأعماق نصل إلى درجات حرارة عالية للغاية من الصخور المنصهرة.

الطاقة الحرارية الأرضية هي طاقة نظيفة ومستدامة وذات موثوقية مرتفعة، أما من حيث التكلفة، فمع تطور تكنولوجيا حفر الآبار وانخفاض أسعارها، يمكن لطاقة حرارة الأرض أن تكون منافساً للمصادر الأخرى من موارد الطاقة فى أسعار المنتج “كهرباء أو حرارة للتدفئة”. وتشير الإحصائيات إلى أن احتياجات العالم من الطاقة خلال مدة مقدارها 100 ألف سنة، هى متوفرة فى احتياطى طاقة حرارية متواجد فى حزام فى باطن الأرض، وهذا الحزام يبعد عن سطح الأرض بمقدار 2 كيلومتر. فالطاقة الحرارية الأرضية لا تنتهى وقابلة للتجديد لأن استخدامها قليل مقارنةً بمحتوى حرارة الأرض الكبير.

هناك طرق وتكنولوجيات مختلفة للاستفادة من طاقة حرارة باطن الأرض، من بينها، توليد الكهرباء، وإنتاج الحرارة مباشرة من الماء الساخن الموجود في باطن الأرض، وكذا استخدام طاقة الأرض الضحلة للتدفئة والتبريد في المباني.

معظم محطات توليد الكهرباء تحتاج إلى بخار، حيث يقوم البخار بتدوير التوربينات والتي تقوم بتشغيل مولد ينتج الكهرباء. وفى حالة محطة توليد كهرباء تستخدم طاقة حرارة الأرض، فإنها سوف تستخدم البخار الناتج من خزانات الماء الساخن، والمتواجد على عمق بضعة كيلومترات تحت سطح الأرض. يتم بناء محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالطاقة الحرارية الأرضية بشكل تقليدي على حواف الصفائح التكتونية، حيث تتوفر موارد الطاقة الحرارية الأرضية المرتفعة بالقرب من السطح.

من الناحية الاقتصادية، نجد أن استخدام طاقة حرارة باطن الأرض فى التدفئة وفي العديد من المواقع، تكون افضل من حيث التكلفة، منها فى توليد الكهرباء. ونجد أن توليد الكهرباء بواسطة طاقة حرارة باطن الأرض، مكلف وخارج المنافسة، بالنسبة للمصادر الأخرى، حيث تكاليف رأس المال كبيرة، ويمثل الحفر أكثر من نصف التكاليف. لكن في الدول التي تكثر فيها البراكين، حيث يمكن استغلال الحرارة الأرضية ذات الدرجات العالية بسهولة، مثل “أيسلندا”، يمكنها الاعتماد على طاقة حرارة باطن الأرض في توليد الكهرباء، و”أيسلندا” تستخدم طاقة حرارة باطن الأرض فى إنتاج 30% من الطاقة الكهربائية فى بلدها. أيسلندا لديها أكبر نظام تدفئة في العالم، وهي الرائدة عالميا في التطبيقات المباشرة. يتم تسخين حوالي 92.5 ٪ من منازلها بالطاقة الحرارية الأرضية، وغالبا ما تستخدم لتسخين المسارات والطرق لمنع تراكم الجليد. في حين أنها فى السابق كانت تعرف بأنها أكثر المدن تلوثاً في العالم، وأصبحت الآن واحدة من أنظف مدن العالم.

هناك ثلاثة أنواع من محطات توليد الكهرباء التي تعتمد على الطاقة الحرارية الأرضية، وهى: البخار الجاف dry steam، والبخار الوميض flash steam، والدورة الثنائية binary cycle.

محطة توليد الكهرباء التي تعمل “بالبخار الجاف”، تستمد البخار الجاف من تحت الأرض، ويتم توصيل البخار مباشرة من الآبار الجوفية إلى وحدة التوربينة والمولد في محطة توليد الكهرباء.

أما محطة توليد الكهرباء التي تعمل “بالبخار الوميضي” وهي الأكثر شيوعا، فإنها تستخدم المياه الساخنة الموجود في خزانات طبيعية فى باطن الأرض، حيث درجة حرارتها أعلى من 182 درجة مئوية. هذا الماء الساخن جدا يتدفق عبر الآبار الموجودة في الأرض تحت ضغط. وأثناء تدفقه لأعلى، ينخفض ضغطه ويغلي بعض من الماء الساخن ويتحول إلى بخار. يتم بعد ذلك فصل البخار عن الماء واستخدامه لتشغيل التوربينة. يتم حقن أي مياه متبقية ومياه البخار المكثف في الخزان، لإعادة تسخينه.

ومحطات توليد الطاقة ذات “الدورة الثنائية” تعمل على مياه ذات درجات حرارة منخفضة، تبلغ حوالي 107 درجة مئوية إلى 182 درجة مئوية. تستخدم هذه المحطات حرارة الماء الساخن لغلي سائل ذو درجة غليان منخفضة، وعادة ما يكون مركباً عضوياً. يتبخر هذا السائل في مبادل حراري، ويستخدم لتحريك التوربينة. بعد تكثيف البخار وتحويله إلى مياه يتم حقنها في الأرض لإعادة تسخينها مرة أخرى. يعد ” سيرو برييتو” في المكسيك، أكبر حقل للطاقة الحرارية الأرضية في العالم من ناحية حجمه وليس من ناحية قدرة توليد الكهرباء، حيث تستخدم محطات توليد الطاقة ذات الدورة الثنائية، وتبلغ طاقته الإنتاجية 720 ميجاوات.

الكفاءة الحرارية لمحطات توليد الكهرباء من الطاقة الحرارية الأرضية منخفضة، حوالي من 10إلى 23 ٪، لأن درجة حرارة البخار الناتج من الطاقة الحرارية الأرضية، لا تصل إلى درجات حرارة البخار العالية والتي يتم إنتاجها من الغلايات في محطات التوليد التقليدية.

قد يهمك ايضاً:

تحليل سوات والحياة اليومية للمواطن

انور ابو الخير يكتب: لا شيء يستحق الحداد

كما أنه فى حالة حفر آبار عميقة للاستفادة من طاقة حرارة الأرض واستخدامها فى توليد الكهرباء، تعتبر عملية باهظة التكاليف، بسبب عمليات الحفر إلي أعماق سحيقة، وكذا الحاجة إلي أنابيب كثيرة لاستخراج الماء الساخن وبكميات وفيرة، ذلك أنه بالرغم من أن الطاقة الأساسية مجانية وهى متوفرة بكثرة، إلا أن هناك صعوبة فى الحصول عليه. كما يترتب على استكشاف الموارد العميقة مخاطر كبيرة.

تبلغ تكلفة إنشاء محطة توليد كهرباء وحفر الآبار حوالي 2 إلى 5 ملايين يورو لكل ميجاوات، وهى تعتبر تكلفة مرتفعة. لكن مع تطوير محطات الطاقة ذات الدورة الثنائية، وكذا مع إدخال تحسينات في تكنولوجيا الحفر والاستخراج، سوف تنخفض التكاليف، وسوف يتبع ذلك انتشار أنظمة الطاقة الحرارية الأرضية على نطاق جغرافي أكبر بكثير.

أكبر مجمع للطاقة الحرارية الأرضية في العالم يوجد في أمريكا، في كاليفورنيا، وهو مجمع يضم  22 محطة لتوليد الكهرباء من الطاقة الحرارية الأرضية، بإجمالى قدرة مركبة 1520 ميجاوات. كما يوجد مجمع آخر يقع في وسط إيطاليا، وهو مجمع لادارلو، ويضم 34 محطة لتوليد الكهرباء بطاقة إجمالية تبلغ 770 ميجاوات، ويعد هذا المجمع من أقدم المجمعات في العالم لاستخدام طاقة حرارة الأرض، حيث تم إنشاء أول محطة في عام 1913. وهناك مجمع في جنوب أيسلندا يقع بالقرب من بركان هينجيل، يسمى “هيلشيدى”، حيث تم بناء هذا المجمع على مراحل مختلفة، وأول محطة لتوليد الكهرباء كانت في عام 2006 بقدرة 45 ميجاوات، ثم توالى استكمال المجمع، حتى وصل إجمالي توليد الكهرباء في عام 2011 حوالي 300 ميجاوات، بالإضافة إلى 400 ميجاوات من الطاقة الحرارية.

محطات توليد الكهرباء الصغيرة (أقل من 5 ميجاوات) والتي تستخدم طاقة حرارة الأرض، يمكن تنفيذها على نطاق واسع في المناطق الريفية، ربما حتى كموارد طاقة موزعة. حيث تشير موارد الطاقة الموزعة Distributed energy resources إلى مجموعة متنوعة من التقنيات الصغيرة المولدة للطاقة والتي يمكن دمجها لتحسين منظومة الكهرباء. وتوجد محطة كهرباء صغيرة في ولاية نيفادا الأمريكية تعمل على بئر ذو خط ثنائى “رايح جاى” doublet قدرتها 4.5 ميجاوات.

الاستخدام المباشر للطاقة الحرارية الأرضية، يكون من خلال استخدام المياه الساخنة من خزانات في باطن الأرض والمتواجدة على بعد بضعة كيلومترات تحت سطح الأرض، وذلك لتوفير الحرارة مباشرة. حيث تستخدم هذه الحرارة في العديد من التطبيقات التي تتطلب الحرارة. وتشمل تدفئة المباني، والصوب الزراعية، وتجفيف المحاصيل، وتسخين مياه مزارع الأسماك، وفى العمليات الصناعية، وما إلى ذلك.

التدفئة والتبريد المنزلي، هو أسرع وسيلة لاستغلال طاقة حرارة الأرض، وذلك من خلال الاستفادة من طاقة الأرض الضحلة “عمق تقريباً 3 متر من سطح الأرض”، والتي تتراوح درجة حرارتها ما بين 10 إلى 20 درجة مئوية. ففي فصل الشتاء نجد أن درجة حرارة الأرض أكثر دفئاً من الهواء الذى فوقها، والعكس في الصيف حيث تكون أبرد من الهواء الذى فوقها. ويستفاد من طاقة حرارة الأرض باستخدام المضخة الحرارية Heat pumps فى تدفئة وتبريد الأماكن المغلقة. ونظام المضخة الحرارية، هو نفس نظام جهاز تكييف بارد ساخن. هذه الطريقة يمكن استخدامها في أي مكان في العالم لتوفير التدفئة والتبريد للمنازل، قدرت التكلفة الرأسمالية لنظام تدفئة المناطق في “بافاريا” بألمانيا بأكثر من مليون دولار لكل ميجاوات. أما بالنسبة لقطاع الصناعة، فإنه يحتاج درجات حرارة أعلى، وهو ما يستلزم موارد طاقة حرارية أرضية أعلى، والتي تتطلب فتحات أرضية عميقة.

 

وفى مجال حرارة باطن الأرض، فإن هناك تكنولوجيات تحت الدراسة، ولكن لا توجد تطبيقات تجارية لها حتى الآن، ومن بينها، دراسة إمكانية الاستفادة من الصخور الجافة الساخنة والتي تتواجد على عمق من 5 إلى 8 كيلومتر تحت سطح الأرض في كل مكان، وفي أعماق أقل في مناطق معينة، حيث يتم حفر بئر للوصول إلى هذا العمق، وضخ ماء بارد لأسفل البئر (يتم حقن الماء تحت ضغط عال لتوسيع التشققات الصخرية الحالية لتمكين الماء من التدفق والخروج بحرية)، ويتم تسخين الماء من خلال الصخور الساخنة، ومن ثم يتم سحب المياه الساخنة من خلال بئر آخر بجوار هذا البئر. كما أن التكنولوجيات الحالية لا تسمح حتى الآن باستعادة الحرارة مباشرة من الصهارة (الماجما Magma، وهي عباره عن المواد المنصهرة في أعماق الأرض ودرجة حرارتها تتراوح ما بين 1000 إلى 1500 درجة مئوية، وعندما تصل إلى سطح الأرض تسمى لافا Lava، ودرجة حرارتها من 800 إلى 1200 درجة مئوية)، وهى المورد العميق والأقوى للطاقة الحرارية الأرضية.

تحتوي المياه المستخرجة من أعماق باطن الأرض، على مزيج من الملوثات الغازية، مثل ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وكبريتيد الهيدروجين، والأمونيا. بالإضافة إلى الغازات، قد يحتفظ الماء الساخن من المصادر الحرارية الأرضية بكميات ضئيلة من العناصر السامة مثل الزئبق والزرنيخ والبورون والأنتيمون، وتترسب هذه المواد السامة عندما يبرد الماء، ويمكن أن تسبب أضراراً بيئية في حالة إطلاقها. لكن نجد أن معدل انبعاث ثاني أكسيد الكربون من محطات توليد الكهرباء التي تعمل بالطاقة الحرارية الأرضية الحالية حوالى 120 كيلوجرام لكل ميجاوات ساعة من الكهرباء، وهو ما يعتبر جزءاً صغيراً بالنسبة لمحطات الوقود الأحفوري التقليدية.

يمكن أن تؤدي الأنظمة الحرارية الأرضية إلى حدوث زلازل نتيجة التكسير الهيدروليكي، والذى يستخدم حقن مياه تحت ضغطاً عالٍ لحفر تشققات لآبار عميقة. وبسبب ذلك، فقد تم تعليق مشروع في بازل بسويسرا، بسبب وقوع أكثر من 10 ألاف زلزال قوته وصلت إلى 3.4 على مقياس ريختر خلال الأيام الستة الأولى من حقن الماء.

ومع أن تطبيقات الاستفادة من الطاقة الحرارية الأرضية سوف تتوسع في المستقبل، إلا أنه لا يتوقع منها أن تغطي أكثر من 5-10% من الاحتياجات العالمية للطاقة.

أشكركم، وإلى أن نلتقى فى مقالة أخرى لكم منى أجمل وأرق التحيات.

 

اترك رد