مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

فرسان البحيرة “قصة قصيرة”

1

بقلم – صالح هشام:
سحنة قمحية ، مطرزة بنذوب وجروح قديمة غائرة حد التشقق ٠٠ وجه متنافرة عروقه ،منتفخة خضراء ٠٠ ينبت فيه شاربان معقوفان ، وعينان ناعستان ،كعيني حوت ميت٠٠حاجبان كثيفان متعرجان مرسومان بدقة ٠
أحق كل تفاصيل هذه الخلقة العجيبة ؟
هذا وجه ليس غريبا عني، ربما شاهدته في مكان ما ٠٠ في زمان ما ، لكن أين ومتى ؟ لا أدري !
أعصر صدغي ،أحاول أن أتذكر ،تجتاح ذاكرتي عشرات الوجوه الصفراء المتعبة ،ولا يعلق بها إلا الفراغ، تفلت مني كل الوجوه ٠٠ ربما لأنه يخلق من الشبه أربعين !
لكن هذا الرأس المسطح ، كجمجة بومة، تشبه عشرات الرؤوس ، التي تعبر متاهات نسياني ؟
نقرات خفيفة على طبلة ذاكرتي، تنتشلني من عمق بئر حيرتي ٠
إنه صاحب طربوش أسود ، أشبه بطرابيش رعاة البقر ٠٠ بشاربيه المسدولين على شفتيه الغليظتين ، وبنظراته الذكية الثاقبة كالصقر ٠٠ يذكرني :
-يا هذا ! ألا تذكرذلك النسر الرهيب، المحلق دوما فوق مويجات البحر، يقتفي تعرجاتها ،ذلك الذي لا يعرف من دنياه، إلا عراك المجاديف وحشو بطنه بكل قابل للمضغ !
كل تجديفة تشق وجه البحر ٠٠ ترسم طريقا وراء مركبه ،يعلوه زبد أخضر، ممزوج بروائح البنزين وملوحة الطحالب ، طريقا تغطيه غيمة من أسراب النوارس ، تلتقط صغار الأسماك من فوق سطح الماء ٠
ألا تذكرذلك الجلف ،غليظ الطبع؟ (تشيلكاش) نقشت صورته على جدارذاكرتك نقشا يستحيل أن يمحى! أتذكره؟ لقد حكيت لك كل غرائبه مع البحر ٠٠مع الأنفة مع الكرم ٠٠مع التشرد ، وحتى مع التهريب وبتفصيل ممل!
– آه٠٠ أف …أف..! لقد تذكرته الآن ، تحضرني صورته ، يتسلل تحت أضواء كاشفات خفر السواحل ،و يلاعبهم لعبة الغميضة ، تذكرتك أنت أيضا : أنت مكسيم أنت غوركي٠٠ يقولون : إنك شاركت (تشيلكاس ) مغامرات التشرد والتسكع بين المراكب الراسية على المرافئ !
لكن يا مكسيم ، هذا الرأس المسطح الذي أمام عيني : “للطوبيسTopiss”، شخصية غريبة عجيبة، مرتبة في سلم التشرد في مدينتي الشهيدة رقم ستة٠٠و يعرف بين سكانها (بالطوبيس نمرة سيس six) ،رجل إنساني شهم حتى النخاع ، مرة شاهدته يحمل أباه المقعد على ظهره كوليد صغير ، و العرق يتصبب من جبهته ،يخترق زحمة غابة من الأجساد ليعبر الشارع العام ، ومنه إلى محطة الحافلات !
-يا رجل ،كل متشردي العالم عجين واحد، له طعم واحد ورائحة واحدة :
-همة ،شجاعة ، شهامة ، حق مهضوم ،صوت مكتوم، وجود محموم ، و وضع مأزوم !
الطوبيس وتشيلكاش، وجهان مختلفان ،لكن لعملة واحدة، بينهما اختلاف بسيط :
فهذا نسر بحيرة مدينتك يجوب دروب مقبرة قديمة منسية ،تظللها أشجار الزيتون والصفصاف ،يتسكع بين شواهد قبورها !
وذاك نسرجسورمغامر ، يركب قوارب الموت ، فيجوب البحر طولا وعرضا ، ويعمل حتى في التهريب ٠٠
لكن همهما مشترك ، ومعاناتهما واحدة ٠٠ مهما اختلفت مسافة الزمن واتسعت رقعة المكان :
البحث عن كسرة خبز حاف ، وجرعة شاي بارد ،صراعهما محموم من أجل البقاء !
تنز جبهتي عرقا٠٠ وأنا أقرأ قسمات الطوبيسTopiss:
كل ندبة قديمة تشي بجرح عميق مازال ينزف ٠٠ كل جرح غائر بألف حكاية وحكاية ! ودون أن التفت :
– أصدقك يا مكسيم ٠٠٠عشت متشردا وزعيما للمتشردين !
فجأة يمر سرب من الأطفال ،الجانحين كالظباء ، حفاة وأنصاف عراة ،نحت القهرعلى أجسادهم الغضة رسوما تشي بوضع مقهور ، مدججين بالمقاذيف المطاطية والعصي ،
و الشر ينط من عيونهم نطا ،ويسابق نظراتهم ٠٠و ينهالون على الطوبيس بشتى أنواع الشتائم :
-وا الحمق ٠٠ وا الطوبيس !
-واالطوبيس٠٠نمرة سيس!
-وا الطوبيس ٠٠ وا إبليس !
يترنح المسكين ، ورأسه تتدلى فوق صدره كبرتقالة ، كان يبالغ في شرب الكحول الحارق ! يطوق (دعيمة ) عنقه بذراعه ،ويحول دونه و السقوط ٠٠يلوح في وجوههم بقبضتيه وهو يتمتم كلمات ، تخبو بين شفتيه :
-يا آبلسة ، يا حشرات ،يا أبناء جنح الليل ،يا أولاد الق٠٠٠
تلتوي شتائمه على لسانه، وتنفلت كلمات عرجاء مشوهة، من خيشومه المفتوح غير ذات معنى ، فيتهامس الحفاة :
– إن الرجل أحمق، يا جماعة إنه يكلم نفسه !
يجيبهم زعيم العصابة ، بنبرة تنم عن احتقار :
-اتركوه يا أبالسة ،يكلم نفسه، هذاخير له من كلام كحل الرأس ، كلام لا يجلب إلا صداع الرأس !
ويتوارون خلف سيقان أشجار البحيرة السامقة كالجياد المذعورة !
يقترب الطوبيس و رفيقه دعيمة من مجرى مائي،يفصلهما عن صفصافتهما ، شقوه من البحيرة ، لتفرغ فائض حمولتها ذات فيضان ٠٠ فيتسلل ماؤه رقراقا بين جذوع أشجار الزيتون ،والصفصاف ، شرق مدينتي (الشاهدة / الشهيدة)!
يتردد الطوبيس ،يحجم عن القفز لتجاوز المجرى ،فيصرخ فيه دعيمة مشجعا :
– اقفزيا طوبيس، قفزة واحدة بعيدة و ها أنت تقطع هذا المجرى المائي اللعين !
يتراجع خطوة ، خطوتين ، ثلاث خطوات ، يبسط راحته فوق جبهته المتعرقة، يسد عينا ويفتح أخرى٠٠يقيس بعد المسافة ٠٠يمسح المكان ، وكأنه يرقب ضعنا تطالع من ضبيب !
ينحني٠٠ ينحني،يكاد يقرفص ، تلامس ركبتاه صدره ، كنسر يستعد للإقلاع ، يهم بالقفز ثم يتراجع ،وينهره دعيمة غاضبا :
– اقفز يا جبان ، فالمسافة قريبة ٠٠ اقفز ستنجح في العبور!
يقطع الطوبيس أنفاسه و يصرخ بقوة :
-أوب٠٠أوبلا٠٠٠أوبلاه !
يخونه قياس المسافة،يفقده الكحول تركيزه، فيسقط مباشرة في عمق المجرى المائي ٠٠٠ يقهقه (دعيمة) عاليا ،يخبط الأرض بقدميه ،متعمدا إثارة غضبه، و يبالغ في السعال :
-بشاخ٠٠بشاخ٠٠بشاخ٠٠ بشاخ ،ربحت الرهان ياولد !
يشعر طوبيس بحرج شديد ٠٠ ويرغب في أن يقضم رأس هذا الأعور، أو يستأصل لسانه الطويل من جذوره !
يحس دعيمة بخطر الطوبيس يتهدده ، فيغير كلامه لامتصاص ثورته البركانية قائلا :
-يا طوبيس ، ألا ترى أن تلك الصفصافة العجوز، تطلق جذورهاعميقا في أعماقك ٠٠تمنعك من التخلص من قبضة هذا المكان كجاذبية بلهاء ٠٠إلى متى ستظل متمسكا بهذا الجذع الضخم ؟ تتسلق الأغصان كالنمر ،وتعكر صفو خلوة طيور النغاف في أوكارها !
– ألا ترى هذه الغيوم الشاردة القادمة تجر وراءها رداءا أسود ، تدفعها الريح نحو الشمال٠٠نحو الجمال ٠٠فمايشدك بجنوب أغبر أقفر، ليس فيه غير العوز و الفقر ؟
-ألا ترى أسراب اللقلاق ،في صفوف مرتبة في غاية الترتيب ، تتجه كل مساء مهاجرة قاطعة ملايين الأميال ، يحذوها أمل كبير في غد أفضل!
كل كائن يهجر ٠٠كل كائن يهاجر، يا طوبيس ٠٠٠ إلاك ٠٠إلاك وطيور النغاف بمناقيرها المتسخة ، التي ألفت ديدان مطارح النفايات ٠٠ إلاك و هذه الصفصافة السمينة ،الرعناء ،العجفاء، الشعثاء كعش الغراب ،هذه القابعة هناك ،تغطي بظلالها ماء البحيرة منذ مئات السنين !
أتعرف يا طوبيس ، لماذا أسراب اللقالق بالآلاف ، تقطع عشرات البحار و عشرات الصحاري وعشرات الجبال وتعبرها بسلام وبخسائر طفيفة ؟فقط لأن قلوبها الصغيرة لا تعرف أنانية البشر ونتانة جشعه !
كل الكائنات تغير المكان ،إلاك يا طوبيس ، ألا تؤمن بأن في كل حركة بركة ؟
يعصر الطوبيس ما بلله ماء المجرى من أسماله الرثة البالية ، و رأسه ملتصق بالأرض ،لا يرغب في رؤية وجه هذا الاعور، الذي يعمق الجراح في أعماقه بكلامه هذا٠٠ تحمر عيناه وتتقافز دمعتان كبيرتان وتستقران فوق وجنتية اليابستين،ويروح في نوبة نحيب مكتوم ،ويهدئ من روعه:
-ايا هذا يا أنا ! الرجال لا يبكون ، وإذابكوا أذرفوا الدمع دما ، يا هذا الأعو ر ! الغيوم لها ريح تدفعها ، واللقالق لها كل هذا المجال الواسع الشاسع ، لها كل القارات طيعة أمام أجنحتها ، وأنا يا أعور،لا ريح تدفعني ولا أجنحة لي ، فماذا لي بعد ذلك ؟
يعانقه دعيمة ، يقبل رأسه ، ويربت على كتفه :
-لا عليك يا صديقي ، لك كرامتك وعزة نفسك ، وجذع صفصافة يحميك ، وعشرات طيور النغاف تؤنسك في وحدتك وتتقاسم معك كسرة خبز يابس تأخذها من قمامات اللصوص!
-يا أعور لا تنافقني ،هم يعيشون، ونحن نحيى حياة ذباب أو دود عفن في جروح متعفنة !
يسنده دعيمة ، ويقصدان مأواهما : تلك الصفصافة القابعة قرب المقبرة المنسية في محيط البحيرة !
يسند الطوبيس ظهره إلى جذع الصفصافة ويترك جسده المنهوك يهوي فتتلقفه التربة الندية ،يخرج قنينة كحول يفتح سدادتها ،يتوجه دعيمة إلى القدر، يهم بإزالة غطائه يصيح فيه الطوبيس :
– إياك أن تزيل غطاء هذا القدر اللعين ٠٠ألاترى أنه الغروب و أسراب طيور النغاف لتوها بدأ يتعالى ضوضاؤها باحثة عن مبيتها فوق الأغصان ، وستمطرنا لامحالة بفضلاتها اللزجة الكريهة ،وربما يسقط بعضها في هذا القدر البئيس!
يعيد دعيمة الغطاءبهدوء ٠٠ وينشغل بفتل لفافة حشيش، ، دون أن يعقب على أوامره صديقه !
يعب الطوبيس جرعة كحول ٠٠ ثم يتبعها بجرعة ثانية، ويفرغ ما تبقى في الكأس دفعة واحدة في معدته٠٠ لكن هذه المرة -على غير العادة- مذاقه غريب ، بدون رائحة ٠٠يستمر في الشرب حتى الارتواء ٠
فجأة يشعر بسكاكين حادة تمزق أمعاءه ، يستلقى على بطنه ويبدأ يتلوى من الألم كالحية٠٠وتهدأ حركته ٠٠ يتخشب جسده ، ووجهه معفر في التراب !
ينتبه دعيمة لصديقه ممددا كدودة دون حركة ، يقلبه على ظهره ، كانت رغوة خضراء أو طحلبية اللون ، تخرج من شفتيه كدخان بركان ، يصرخ فيه ،يلطمه ، يهدهده دون جدوى ، فيصيح مرعوبا :
– الطوبيس يا ناس!٠٠ رحل ٠٠ رحل ٠٠رحل!
لم تكن رحلة غيوم أو لقالق ،كانت رحلة إفلات من جحيم التشرد والمعاناة ٠٠رحلة خلاص أبدي!
كالزيت في رقعة قماش يشيع الخبر ٠٠يعكرأزيز محركات السيارات ، وضوضاء المتطفلين هدوء البحيرة! وتبدأ الأحذية البراقة تأتي تباعا وتجوب المكان ٠٠ تتكتك على التراب الناعم ، ولاتطقطق على الزليج والرخام كالعادة ٠٠
لأول مرةسيكون لتلك الصفصافة زوار غرباء ٠٠لأول مرة سيعرف كائن آدمي اسمه الطوبيس Topiss!
يتوشح سماء البحيرة بغيمة كبيرة بيضاء من أسراب النغاف، وهي تحلق عاليا ٠٠ تحدث فوضى و ضجيجا كئيبا كبيرا٠٠ كأنها تنعى فقيدها بطريقتهاالخاصة !
وقتها، يفتح ملف الكحول المغشوش المسموم ، في دهاليز الإدارات، ويغلق ملف حياة حافلة بالتشرد والتهميش والضياع!
وينفق الطوبيس نفوق البهائم ٠٠ ينفق كما نفق تشيلكاش، ينفق كما ينفق ملايين المتشردين و المأزومين بلا مآتم ، بلا خيام عزاء ٠٠ بلا أكفان ، في كل لحظة وحين ، في هكذا عالم ظالم ، أرعن !

اترك رد