مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

حديث نَسيَهُ الأوَّلُونَ

3

بقلم – أحمد بو قرّاعة:

كان في قريتنا رجل يُدعَى الشيخ علي مصباح…وكان على هيأته الرّثة حادَّا البصر. و يُقال أنّه لمْ يَنَمْ لبضع سنوات ولمْ يرتجفْ له لحْظٌ أو يرتعشْ له جفنٌ. كان الرَّجلُ قصير القامةِ صغيرَ الرأس نحيفَ العود لا يمَلُّ التّسيارَ والمشيَ والحركةَ. وإذا سُئِلَ في ذلك قال : كلّما قلْتُ يا ساقُ توقّفي، قالت في المشرق ظلٌّ يَدْعوكَ. وحين سُئِلَ : وهل وصلتَ إلى المشرق ؟ قال : أحلمُ بِه.

قد يهمك ايضاً:

كانَ الشيخ علي مصباح عارِفًا بالدّين وبالأرض، لذلك كانَ إِمامَ المُصلّينَ في جامع القرية الكبير…وكان إذا وَقَفَ للصّلاة أو فوق المِنْبَرِ للخطبة ارتعش وانتفض وتحرّكَ فرماه النّاسُ بعدم الانقطاعِ. و لولا معرفة الشيوخ إيّاه لرماه الصّبية بالحجارة وجَرّته النّسوة من أذيال قديم ثيابِه.

و كان يوم صعد الشيخ علي المِنْبَر يخطب في النّاسِ و سبِقَه واحِد يروي حديث الرّسول في بُطلان الجمعة لمن قال لصاحِبه والإمام يخطب اسكُت. كان الجامع كوَمًا من الإيمان الصّامت والصّاغي حين صعد الشيخ علي بعْدَ أنْ بَسْمَلَ فأطالَ ودعَا للنبيّ فأكثر قال :
أيّها النّاسُ كنتُ قديمًا أضرب بين دار مالك إلى دار الشافعي إلى منزل ابن حنبل إلى حلقات ابن الحنفيّة أسألُ وأحفظُ. و قرأتُ ما رَوَى مسلم والبخاري وما سِواهُمَا عن الرّسول وصحابه صلّى الله عن الأوّل ورضي عمّن لازم نبيّه وأخذ عنه وخَلَفَه. وهذه عَصايَ فاسألوها تُخْبركم كم استندتُ إليها أرفعُ بصري أبحث عن الرّوح والملائكة. و هذا جرابي فوق ظهري فيه رؤوس الأئمّة والصّالحين وحتّى الدّراويش وفيه أيضا عَيْنِي وأذني وربّما رأسِيَ وبعض أحلام صدري أو كلّها كُلّي في هذا الجراب، إنّه هيكل قديم أثريّ أهدانيه بعض التلاميذ وقالوا حمله المسيح. فما تقولون فيَّ اليوم ؟ فرفع المصلّون رؤوسهم دهشة وأفاق من كاد ينامُ ونظروا إليه نظرةَ استغراب ثمّ التفتوا إليه ولكن لم يستطع أحد الكلام خوف ذهاب الجمعة. ثمّ قال الإمام : اِسمعوا أيّها النّاسُ، الصبر مفتاح كلّ بليّة والقناعة أساس كلّ فقر. هذا حديث نسيه الأوّلون ووجدته في كتب الحاضر فلا تحفظوه أو ترتّلوه بل عانقوا داخله ولا تباركوا من وجد الحاضر في الماضي فحسب و لا تمجّدوه و لا تصفّقوا أو تبنوا خيام المجد بل يا ناس، يا هؤلاء، ياحَفدة فرعون الجليل قليلا من الإيمان والفعل

فازدادت حيرة النّاسِ وزادت دهشتهم واحمَرّت عيونهم واصطكّت أسنانهم وتزاحمت أرجلهم وتشابكت أصابع أيديهم وتذكّروا ثانية حديث رسول الله فسكتوا حانقين
وارتعش الشيخ وقال :
أنا الآن بين أحضان الأرض و الأرض في أحضاني، تُغازلني عيونها و تُغازلها عيوني. وتشدّنِي تعصرنِي ألِدُ الوجع والألم، وأمسكها قوّة تلد الخير والأمل ويصعد شيطانها من باطنِ قرارها كأشباح الغيب المخيفة فيلقاه شيطانِي يخرج من كهف قراري كالأعاصير. وَ يتعانقان ويتصادمان ويتصارعان كالشوق والتّوق يُصارعان المجهول وكُنه الصّخور ومغاور الجبال و يتقاتلان كالحبّ ينسابُ من قلْب المعرفة جائرًا كالنّار يحرقُ الظلام والغموضَ، ويكشف عن نفاثة الكشف ويتطلّع إلى النّور وروح الاكتشاف وروائع النوّار فيسيل العرفان سُيُولاً، وتجري القوّة أودية. وترقص صبايَا الحبّ فوق صدر الأرض. وتتلاعب عذارى الشمس فوق خدودها. وتعصر أيادي الصّباح نهديْهَا فَلَبَنٌ سِحرٌ في أفواه الطّلب والطّموح وثغر الدّوام والاستمرار، أو كالجَرْي فوق سفن البحث والتنقيب في يمّ المادّة والطبيعة والتراب وحصاة الشاطئ المستورةِ بألف غشاء يتلحّف عيون الورى ورؤوس الأنام وغفلة بصائرهم ومَيْلَ البشر إلى كلّ غريب قبيح وفخر بعقول الغير واحتقار آلهة الأصل فرُكوع إلى غير الأمّ العذراء… و تعضّ أنياب الشروق شفاه البحور والرّمال فقُبَلٌ كالحُمّى المسعورة تخرج من باطن نيرانٍ وقودها الطّموحُ والكشْفُ والاختراعُ ونُبْلُ السّبيلِ وطهارةِ الدّافعِ.

 

اترك رد