مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

أدب القصة الشاعرة بين الإيقاع الخاطف وقضايا الإنسان

0

أدب القصة الشاعرة بين الإيقاع الخاطف وقضايا الإنسان
“من ثقب الشتلات الأولى” أنموذجًا
بقلم/ د. محمد يوسف 

قد يهمك ايضاً:

لاتدنو من مواجعنا

أورثنا العرب حكمتهم اللغوية الخالدة حينما تحدثوا عن البلاغة، فاقتصدوا قولاً، وفاضوا معنى حيث قالت العرب: “خير الكلام ما قل ودل”، وهل هناك بالفعل أفضل من كلام قليل يؤدي إلى معنى ومعانٍ لا نهائية التأويل؟
غير أن طريق هذا الكلام القليل رغم قصره إلا أنه شديد الوعورة، ويبدو سهلا، إلا أنه مُمْتنع، لا يتمكن منه إلا من أضحت اللغة بين يديه عجينة طرية، يصنع بها ما يشاء، فلا يكون اقتصاده في الحديث على حساب الوضوح، ولا يكون وضوحه مبالغًا فيه، فيسقط في فخ المباشرة ..
هى بالتالى معادلة شديدة الصعوبة، ولا يجود بمفاتحها إلا مقتدر، حويط، كما أن فن السرد متنوع متطور، يغير في طرائق التفكير حين تلقيه، ويتأثر هو بدوره في واقعه المحيط ..، وبما أن إيقاع الواقع أكثر سرعة من أية محاوله لاصطياده لغويًا، فلابد أن يرتق شيء من الخيال تلك الفجوة الزمنية، فلا يقدم الواقع كما هو بحذافيره، وإلا نصبح أمام تأريخ في أحسن أحواله، يميل إلى التسجيلية، وأيضا لا يشطح الخيال بعيدًا، محلقا في فراغ بعيد عن أرض صلبة، تثبته، وتجعله منيعا أمام هجمات الرياح، وتلك عموما صنعة الأدب التي تجعل من حدث يومي عادي غير عادي
وهنا بعض قطوف من فن السرد الذي اختصر، فاوجز، والذي اتكأ على حكايات بسيطة في تلقائيتها، عميقة دون تعقيد في ما وراء ردة فعلها، وهي مجموعة قصص شاعرة بعنوان “من ثقب الشتلات الأولى” للأديب محمد الشحات محمد ، استطاع فيها الكاتب أن يلتقط مقاومة الأدب للسلطة بشكل ساخر خاطف، كالنكتة اللاذعة، وبطريقة الإيحاء الدال، مُطعِمًا شغف الوصف بنهايات رنانة، وذلك بتوظيف مفردات معاصرة، تلامس حيواتنا اليومية المتكررة والمختلفة، صانعًا الإيقاع اللاهث، المتسارع، حتى إذا بلغ الذروة يقف فجأة، وكأنه طعن الحكاية بنصل حاد لكنه غير مميت، وتلك المعادلة نجحت في تلقي اليومي المعتاد بشكل مختلف، كما أنها راوغت، وخبّأت بأكثر مما كشفت، مستخدمة حكمة كل لبيب بالإشارة يفهم.
عناوين القصص الشاعرة: مقتصدة عامة، فهى عتبة نصية أولى، غير كاشفة، بقدر ما هى ممهدة نفسيا ودراماتيكيا
الأبطال يقفون في منطقة وسط، فلا هم في العلية، ولا هم في الدرك الأسفل الاجتماعي، وذلك يجعلهم ينتقلون من شخصيات كرتونية، صنعها المؤلف كي يستنطقها أفكاره إلى شخصيات حقيقية من لحم ودم وشحوم، شخوص بضعفهم وقوتهم وأحلامهم وإخفاقاتهم
في القصة الشاعرة “رقص”: دارت هند على بطن الحوت ..
أسماء الشخصيات اختارها المؤلف بذكاء، فهى تحيل إلى معنىً ما كامن وراء الاسم نفسه
“وراح كريم يلعب فوق الشاطئ..، وبعد قليل دقت سارينة الانقاذ لتجمع أطفال البحر”، هنا تحول الثنائي إلى مجموع على موجة صوت العرب المحتلة
الإشارة للوقت هنا مهمة، وقد جاءت في موضعين باستخدام مفردتين تحملان ليس فقط معنى الوقت، وإنما اسمه صراحة:
الأولي جملة “بعد قليل”، والثانية “قرش الساعة”، والمماهاة بين غضب قرش الساعة و رقص المالح تجعلنا نفكر في مرح الطفولة الذي لم يقصد به المؤلف السذاجة، لكنه قصد إعادة تحريك الوعي اتجاه الأرض المحتلة، وحول طيبة الحوت، الذي حمل على بطنه هند، وغضب القرش المرتبط ظهوره بالساعة، والحين
الملاحظ دوما في هذا النوع من القص الشاعر، هو توقيت دخول الفعل المفاجئ وخروجه أو انتهائه مباغتةً،
أيضًا في القصة الشاعرة “أثر”:
“كان عمار يصلي الظهر في مسجد عمرو” .. هكذا إذا ظهر مباغتا دون صباح أو ضحى حتى .
وفي القصة الشاعرة “تسريح”: فتح الموقع في منتصف الليل ، وفي نص “دقت الكلمات”: توقف عقرب ساعته .
مفردات الوقت والتوقيت مفاتيح في غاية الأهمية في فضاء القص الشاعر، وبكل تأكيد فإن لها دلالتها الهامة في الرسالة الإنسانية التى تهدف القصص الشاعرة من إيصالها للمتلقي .
التناص هنا يأخذ شكلا غريبا خاصة مع القران الكريم وأسماء بعض سوره “ال عمران”، أو مع الارث الديني العام:
“السبع المثاني”، “طور سينين”، “تجلت دورة التبشير في أم القرى”،
كما تتجلى بعض صنائع العصر الحديث ومساومة التاريخ العربي بها بلطائف ساخرة ماكرة كما في القصة الشاعرة “الثورة الكبرى”، والإشارة ل ترامب التاجر، أو المقاول، وثورة مارك الفيسبوكية
نلاحظ على سبيل المثال هذا التعبير المفعم بروح الكوميديا السوداء:
“يَقْتات هدايا السّحْتِ مساء الجمعة عبر مواقع الإنترنت”
ولا يستحي الكاتب أن يصدر لنا كلمة “هاشتاج” في إحدى قصصه الشاعرة، وهو لا يعني أن الكاتب يوافق على ذلك، بل يحمل في طياته رفضًا قويًّا لما الت إليه لغتنا، ولكنه رفض باستخدام ذات الممنوع/المرفوض، بمعنى تكرار نفس الأسلوب لعل في تكراريته تفيق العقول
القصص الشاعرة بوجه عام تميل إلى استخدام الراوي، صاحب وجهة نظر، الشخص الثالث الذي يصف من بعيد دون تدخل، ليدون على ألسنة ضمائر فردية، أو جماعية غائبة، بينما يختزن هذا الوصف الخارجي قوة جارفة من المقاومة الواعية، تأتي على هيئة لسان لاذع قادح، يتموضع في منتصف رغبة جلد الذات وفطرة نظرية المؤامرة، لنستجلي واقعنا المر من خلال ميكروفون الشيخ حسني في فيلم الكيت كات، ولنعرف إلى أى مدى جميعنا مشارك في المصيبة حتى ولو بصمته قليل الحيلة،
هذا الكم المرعب من جمهور يعشق الفرجة، دون أن يراقب، أو حتى يشارك في تقرير مصيره الذي تركه طواعية دون أدنى إحساس بالذنب حتى تنفجر تلك العبارة المخيفة في القصة الشاعرة “تخصيب الصمت”:
“همَّتْ به، فاستراح النهارُ على زند أجوبة البدْر لولا احتجاجُ المنابر والحائط ِالأفقيِّ” ،
الإيقاع العام للقصص الشاعرة سريع لاهث، مع توقيتات الدخول والخروج المباغتة التي أشرنا إليها، كما أن السرعة المقتضبة لتحويل الحدث إلى حكمة حدسية لاذعة، اقتضى صناعة معادلة رقمية بين إيحاء الجملة التعبيرية، وبين شدو نهايات مفرداتها وترابطها، إما تزامنا أو تتابعا مع ما يليها، إلا أن تزامن الأحداث يزيد في القيمة على حساب الكم قياسا لتتابع أو تعاقب الأحداث، وذلك من شأنه أن يخلق معادلا ما موضوعيا بين الإيقاع الداخلي للقصة الشاعرة نفسها، وإيقاع حكيها، فضلا عن التوفيق بين زمان كلاهما، مما يعطي نكهة الاستمراية في النهاية خاصة للحكمة النهائية، أو الحكم القاطع الأخير الذي بناه الراوي بناءً على ما حكاه سالفا، والقصة الشاعرة “تفكيك” خير مثال على ذلك،
كما أن الترابط العضوي والمنطقي بين التراثي والمعاصر من خلال “شهرزاد” و”ترامب” جعل للحدوتة بوجه عام حلاوة الان مع نكهة ما كان، كما أنها تشد وعي المتلقي العادي الذي ربما استغلق عليه استيعاب بعض الجمل الموغلة في تلغيزها بسبب كثرة الاتكاء على التشبيهات درجة وجود أكثر من تشبيه لأكثر من مشبه به في الجملة الواحدة، وهنا ربما ارتاح المتلقي العادي إلى الربط السياسي والتاريخي بين ما يجده في متناوله من القصة الشاعرة، والذي لا يذهب بعيدًا عن رسالة القصة الشاعرة نفسها، وهذا نجاح للمؤلف بزعمي، استطاع فيه الوقوف في منتصف كبرياء النخبوي دون التضحية بجماليات تلقائية العادي، ولعل ما بين “لقمان” و”نافذة الحجاج” و”الأطلنطي” في القصة الشاعرة “صرخة” ما يؤكّد هذا
وتعد تفعيلة الشعر التدويرية في القصة الشاعرة، ضرورة سردية مُلزمة لهذا الإيقاع اللاهث الذي تعتمده النصوص رمزًا وتكثيفا وربطًا بين صنائع العصر الحديث والواقع المعيش وقضايا الإنسان عموما، مما يدفع هذا الصنف الأدبي لإثبات ذاته في بحيرة الصخب الأدبي الآخذة في الاتساع.

اترك رد