مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

القصة الشاعرة بين النظرية والتطبيق

61

القصة الشاعرة بين النظرية والتطبيق

الرائد المؤسس”محمد الشحات محمد” نموذجًا

   بقلم/ عمرو الزيات 

 

الرّواد – في كل عصر – هم واضعو القواعد لكل عمل جديد، وعلى عاتق هؤلاء يقع التنظير لما يقدمونه، وقد يختلفون فيما بينهم كلًّ بحسب إبداعه الذي يلتزم بما وضعه من نظريات، وكما هو معلوم أن كل نظرية لا بد معها من إنتاج واقعي يدعم صحتها ويؤيد وجودها؛ إذ تظل – دون التطبيق – محض فكرة لا يقوم عليها دليل، وربما كان النسيان مصيرها .

الأدب ليس بمعزل عن الحياة؛ بل هو ترجمانها والراصد لمتغيراتها عبر العصور، ولقد شهد أدبنا المعاصر نهضة أدبية واتجاهات إبداعية جديدة كانت مثل حجر ضخم أُلقي في بركة الفكر الثقافي والأدبي فغيّرها، من أبرز هذه الاتجاهات المعاصرة:

الاتجاه الأول: ( القصة الشاعرة )

وكانت ريادته للشاعر والأديب المصري محمد الشحات محمد،

الاتجاه الثاني: ( مدرسة الجن )

وكانت ريادته للدكتور السيد خلف ( أبو ديوان )

استطاع هذان الرجلان بما لديهما من ثقافة وملكة إبداعية مغايرة ومن إيمان شديد بالموهبة الطاغية أن يقرعا أبواب العقول والأذواق بمقارع من حديد، وكان لإبداع الرجلين صدى في مصر والعالم العربي، وأصبح نتاجهما الفني موضوعا لكثير من الدراسات التي شُغل بها الباحثون .

يحفل التاريخ الأدبي بكثير من النظريات التي وضعها الرّواد؛ لكنهم – من خلال إنتاجهم – لم يوفقوا في التطبيق عليها، وكان من أبرز هؤلاء أستاذنا العقاد الذي نختلف معه اختلافا شديدا – مع الاعتذار له – فقد أوقع نفسه في دائرة التناقض بين النظرية والتطبيق، لقد هاجم أستاذنا العقاد الاتجاه الكلاسيكي وعلى رأسه شوقي ممثلا لاتجاه المحافظين الذي يحاكي القدماء وصخه صخا عنيفا كما ذكر في توطئة كتاب الديوان في الأدب والنقد الذي شاركه كتابته المازني، هاجمه لكثرة الالتفات للمناسبات والمجاملات، ورغم ذلك كتب العقاد في الرثاء، وجاءت تبريراته لذلك واهية متكلفة لا تناسب شخصية العقاد الصارمة، وتشعر أيها المتابع للأدب أنك أمام رجلين متناقضين تمام التناقض أحدهما العقاد الناقد، وثانيهما العقاد الشاعر، وتلك واحدة نأخذها على أستاذنا العقاد .

أما لدي السيد خلف أبي ديوان فالأمر جد مختلف، وقد ذكرنا ذلك في مقالات كثيرة نشرت في صحف عربية وعالمية فليراجع ذلك من شاء؛ فليس هذا أوان تفصيل القول فيها.

محمد الشحات محمد ذلك الأديب المصري الذي ابتكر هذا الجنس الأدبي الجديد (القصة الشاعرة) ، ووضع القواعد له في كتابه الموج الساخن – قصص شاعرة جنس أدبي جديد (القاهرة – دار النسر 2007) وعرفه بأنه:

“قص إيقاعي تدويري مكثف لأحداث ترميزية مؤسسة على المرجعيات الثقافية وطاقات إبداعية تشكيلية ذات وحدة وجدانية لرموز متباينة في فضاءات حتمية المغايرة ، ترفض سلطة القوالب الموروثة”

أو هو : “قص إيقاعي تدويري وفق نطام التفعيلة ، مؤسسة على التكثيف والرمز والمرجعيات الثقافية

والحق أن الرجل قد أفاض في تعريفه للقصة الشاعرة، وفي التفريق بينها وبين الشعر القصصي وبين الجنسين بون شاسع وبينهما من الفوارق ما بين السماء والأرض؛ ورغم ذلك يخلط بعض الأدباء بينهما.

جاء في حديث الرائد محمد الشحات محمد عن بناء القصة الشاعرة: “أما البناء ، فيقوم على امتداد النفس المتصل بالحدث، مما يساعد على تدفق النص كتلة واحدة، تتمرد على الشكل الهرمي التقليدي بأحداث محتشدة  كعاطفة مشحونة” وإجمالا: فإن القصة الشاعرة كما ينبئ بذلك اسمها هي قصة قصيرة أو قصيرة جدا في إيقاع الموسيقى الخليلية المتصلة.

قد يهمك ايضاً:

أهيم بطيفك

وإن كان ابن طباطبا – في كتابه عيار الشعر – قد قدّم تعريفا للشعر في قوله: ” الشِّعْرُ – أَسْعَدَكَ اللهُ – كلامٌ منظومٌ بَائن عَن المنثور الَّذِي يَسْتعملُهُ النَّاس فِي مخاطباتهم بما خُصَّ بِهِ من النَّظم الَّذِي إنْ عُدِل بِهِ عَن جِهَتهِ مَجَّتْهُ الأسْمَاعُ وفَسَدَ على الذَّوْق. ونَظْمُهُ معلومٌ محدودٌ؛ فَمَنْ صَحَّ طَبْعُهُ وذَوْقُهُ لم يَحْتَجْ إِلَى الاستعانَةِ على نَظْمِ الشِّعر بالعَرُوض الَّتِي هِيَ مِيزَانه، وَمن اضطَرَب عَلَيْهِ الذَّوقُ لم يَسْتَغْنِ عَن تَصْحيحهِ وتَقْويمهِ بمَعْرفِة العَروضِ والحذْقِ بهَا حَتَّى تَصِير معرفَتُهُ المُسْتفادةُ كالطَّبع الَّذِي لَا تَكَلُّفَ مَعَه ” فإنه لا يمكن اعتبار ( النظم ) الذي يلتزم بالموسيقى الخليلية شعرا كما في ألفية ابن مالك الشهيرة مثلا ، كما لا يمكن اعتبار القصة القصيرة بحال من الأحوال شعرا.

من تعريف ابن طباطبا للشعر ومن تعريف القصة القصيرة يتضح أن القصة الشاعرة – كما أبدعها محمد الشحات محمد – هي ذلك الجنس الأدبي الذي يتخذ من الحكاية أساسا يقوم عليه ؛ بيد أن بناءه اللغوي يتكئ على الموسيقى الخليلة، وثمة أمور مشتركة بين تلك الأجناس الأدبية: (الشعر ، القصة ، القصة الشاعرة) ويبقى الأخير منها معتمدًا في بنائه الفني على سمة الشعر التي تميزه عن غيره من الأجناس الأخرى وهي الموسيقى ، في حين تظل قاعدة هذا البناء هي سمة القصة القصيرة والرواية وهي القص.

هل أفلح محمد الشحات محمد من خلال إبداعه تطبيق ما وضعه من نظريات لهذا الجنس الأدبي الجديد المبتكر؟!

إن المتأمل في إبداع الرائد محمد الشحات محمد ليرى هذا التوافق بين النظرية والتطبيق؛ فلم يكن كلامه النظري عن القصة الشاعرة مجرد تنظير لا دليل عليه؛ بل جاء كل ما كتبه برهانا على صدق الرجل وهضما تاما لهذا الجنس الأدبي الجديد، وإلى حضرات القراء نماذج من إبداعه، وهي خير برهان على ما نذهب إليه:

في القصة الشاعرة (ظاهرة) يلقي بنا محمد الشحات محمد في بؤرة الصراع السيكولوجي – معتمدًا على نظرية التحليل النفسي لدى (فرويد) – بين الأحلام والواقع، ثم تلك التقنية الحديثة وهي التفتيت ، ومن ثم تلك المفارقة بين الحلم (كان العشق يومًا) وبين واقع أمتنا المرير(لم تجدْ إلا بقايا الكهف وامرأةَ بلا مأوى) نجح شاعرنا في تطبيق تقنيات القصة في تلك اللغة المموسقة الخليلية المتصلة، وهذا ما دعا إليه في قوله ” أما البناء ، فيقوم على امتداد النفس المتصل بالحدث ، مما يساعد على  تدفق النص كتلة واحدة، تتمرد على الشكل الهرمي التقليدي بأحداث محتشدة كعاطفة مشحونة “.

(ظاهرة)

تحقَّقَتِ الهواجسُ عندما قرأتْ عن التّفْسير للأحلامِ قبْل حُدوثها.. فتذَكَّرت قانونَ توحيد الأئمةِ والتفاف الشّمْس حول الكهفِ.. عادتْ تشْتهى خصلاتِ شمشون العتيقة في حواري بيتِ لحْمِ حيثُ كان العشق يومًا .. لم تجدْ إلا بقايا الكهف وامرأةَ بلا مأوى.

في محاولة جريئة منه يلمس محمد الشحات محمد جراحات الوطن محاولا تشخيص السبب في هذا النّزف الذي أنهك قوى وطنه، تجئ قصته الشاعرة (الثورة الكبرى) عزفا على أوتار القلوب وترجمة صادقة لمشاعر أبناء وطنه، يجمع بين متناقضين (ذكرى النصر، وتقويم النكسة) لكن أيها القارئ لا تتعجب؛ فـ (لم يتناقض زمن) بل كانت (هلاويس “ترامب” التاجر، لم ترفع شمسٌ حاجبها ، أو يفتح بحرٌ أشرعةَ الأرض الثكلى بالفيروز “السيناوي” والقدس الشرقية ، باتَ الإرهاب سجينا في حلب أو بغداد).

يجيد مبدعنا محمد الشحات محمد كتابة تلك البرقيات العاجلة التي يرسلها إلى زعماء العرب؛ فهو رجل تؤرقه قضايا وطنه، وهو – كغيره من أبناء هذا الوطن – قد شُغل بالمستجدات مثل (تيران، صنافير وأطلس موسى) ثم تأتي لحظة التنوير في تلك القصة الشاعرة (كتب السادة تقرير المشرْحة الأولى.. ظهر الدستور على الحائط، واحتفل الفيس بثورة مارك الكبرى!) وكانه يصرخ فينا: أيها المصري ، انهض .. لا تتخاذل ، فهذا واقعك ، وعليك تغييره.

(الثورة الكبرى)

عادتْ ذكرى النصر ، ولكن في تقويم النكسة..، لم يتناقض زمن ، أو كانت بعضَ هلاويس “ترامب” التاجر، لم ترفع شمسٌ حاجبها ، أو يفتح بحرٌ أشرعةَ الأرض الثكلى بالفيروز “السيناوي” والقدس الشرقية ، باتَ الإرهاب سجينا في حلب أو بغداد ، بني غازي.. تيران، صنافير وأطلس موسى.. ترسيم الخط الفاصل عولمةً راح يصبّ الجزية في البيتِ الأبيض، يَقْتات هدايا السّحْتِ مساء الجمعة عبر مواقع الإنترنت، وفي قاعة حكام المستقبل.. أشلاء الفكرة لم ترْضخْ في رأسِ الطائر ، بل ثارت أوراق الميدان على عطفة نورا.. خرج الجوعى، كتب السادة تقرير المشرْحة الأولى.. ظهر الدستور على الحائط ، واحتفل الفيس بثورة مارك الكبرى!

يبلغ الحزن على ما يمرّ به الوطن ذروته، ينمو الألم ويزداد ، فيصرخ شاعرنا صرخته الكبرى في القصة الشاعرة (صرخة) والتي وُفق في اختيار عنوانها الذي يحمل من دلالات الضيق والأسى ما يحمله. إن البدء بشبه الجملة (من نافذة الغرب) وتأخير الفعل (رآها) وسيلة سحرية لنقل المتلقي داخل الحدث، ثم يأتي استخدامه للتقنيات السينمائية الحديثة تأكيدا لذلك، تلك التقنيات الفنية هي ما يعتمد عليه القاص في رصد الحدث والامتزاج به، وفوق كل ذلك فلها دور أساسي في البناء الفني من خلال إعادة إنتاج دلالات جديدة اعتمادا على الرمز في توليد تلك الدلالات الجمالية، (من نافذة الغرْب رآها تعدو نحو صوامع شرق الدلتا) صوامع شرق الدلتا رمز لخيرات هذا الوطن التي مازالت مطمعا وهدفا لأعدائه، وللموروث العربي الإسلامي أثره العظيم الذي لا يمكننا إغفاله لدى محمد الشحات محمد، من ذلك توظيفه لكلمة (فاطمة) ولا يخفى استخدام هذا الاسم تحديدا؛ فله إيحاءات كثيرة تضرب في عمق تاريخ العرب وعراقة ماضيهم ، هل أمسى ماضيهم قصصا نتغنى بها فقط عندما نريد الزهو؟! ربما أصبح الماضي كذلك (و”لقمان” تولّى حكم بحيرة أهل البصرة  في “الأطلنطي” .. سقطت نافذة “الحجاج” على صرخات امرأة أخرى).

(صرخة)

من نافذة الغرْب رآها تعدو نحو صوامع شرق الدلتا ..، دخلت ميدان إشارة يوسف حتى انكسرت مرآة الغيْرةِ في “باستا” ..، لم يكنِ الترميم دقيقَا ..، طَرَحَتْ “فاطمةُ” خواتيم النسوة ، فسعى القوم إلى القدم اليمنى ، لمحوا قاعدةً تتثاءب ، دارت بنت “المنصورة” في بحر “مويس” ، و”لقمان” تولّى حكم بحيرة أهل البصرة  في “الأطلنطي” .. سقطت نافذة “الحجاج” على صرخات امرأة أخرى.

ولعل من تتمة القول: إن التجديد كما يراه محمد الشحات محمد رائد القصة الشاعرة هو(عملية أساسية في العلم والأدب والفن واللغة والموسيقى، وكل دوافع الارتقاء بالإنسان وإسعاده، فإن التجديد في القصة الشاعرة يتسم بالعمق الروحي والوجداني ، ويثير ميزة الإبداع والتفكر).

لذلك نرى أن الأديب المصري محمد الشحات محمد قد نجح في كل ما أبدعه من نماذج للقصة الشاعرة في إثبات أنه لا تعارض لديه بين النظرية والتطبيق فيما يتعلق بهذا الجنس الأدبي الجديد الذي كُتبت له ريادته بلا منازع، واستطاع بموهبته الطاغية ولغته التي تعتمد على الموروث العربي والديني، وما لديه من ثقافة وقراءة جيدة للأحداث أن يرسم معالم هذا الفن، وجاء إبداعه ترسيخا للقواعد التي وضعها لهذ اللون الأدبي، وتقريبا له من نفس القارئ العربي وذوقه.

 

المراجع  

  • الديوان في الأدب والنقد – الجزء الأول
  • مختارات من القصة القصيرة – الطاهر مكي
  • عيار الشعر – ابن طباطبا
  • التقنيات الفنية المتطورة في القصة القصيرة – حسن غريب أحمد
  • التيارات المعاصرة في النقد الأدبي – بدوي طبانه
  • قضايا النقد الأدبي – للمؤلف السابق
  • القصة الشاعرة بين الواقع والمأمول – السيد خلف ( أبو ديوان ) رائد مدرسة الجن – كتاب المؤتمر التاسع، الهيئة العامة لقصور الثقافة
  • مدخل إلي التحيل النفسي – سيجموند فرويد ، ترجمة جورج طرابيشي

 

 

اترك رد