مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

تجربة الهند فى بناء مفاعل روسى من الجيل الثالث ومشروع محطة الضبعة النووية (1)

2

بقلم – الدكتور على عبدالنبى

الدكتور على عبد النبى

الهند هى واحدة من أكبر الدول فى العالم المستهلكة للطاقة الكهربائية، وحاليا يتم توليد الجزء الأكبر من الكهرباء عن طريق محطات الفحم (طاقة ملوثة للبيئة). الهند تمتلك 22 محطة نووية بقدرة كهربائية إجمالية مقدارها 6780 ميجاوات (وهى تشارك بـ 3.4% من إنتاج الكهرباء)، وحاليا هناك 6 مفاعلات تحت الإنشاء بقدرات كهربائية إجمالية مقدارها 4300 ميجاوات، ومن بين هذه المفاعلات يتم بناء مفاعل من نوع “المولد السريع” FBR.

بدأت الهند برنامجها النووى فى منتصف الأربعينيات، ففى مارس 1946، شكلت لجنة البحوث الذرية تحت قيادة العالم الفيزيائى الهندى”بهابها”، بغرض استكشاف موارد الهند من الخامات النووية.  وفى 3 أغسطس 1948، أنشئت لجنة الطاقة الذرية الهندية. وفى 15 مارس 1955، اتخذ قرار بإنشاء مفاعل نووى هندى بحثى صغير، يستخدم للتدريب وإجراء البحوث النووية، وكذا إنتاج النظائر لاستخدامها فى البحوث الطبية والزراعية والصناعية. وفى أكتوبر 1955، وقع اتفاق بين هيئة الطاقة الذرية البريطانية ووزارة الطاقة الذرية الهندية، وبموجب هذا الاتفاق تقدم بريطانيا للهند عناصر الوقود النووى “اليورانيوم” لهذا المفاعل البحثى والذى صممته الهند.

برنامج الهند فى مجال المحطات النووية لتوليد الكهرباء بدأ بمفاعلات الماء الخفيف المغلى BWR (من شركة بكتل وجنرال إليكتريك الأمريكيتين)، وقد تم تشغيل أول مفاعلين من هذا النوع فى 28 اكتوبر 1969، المفاعل الواحد قدرته 160 ميجاوات. ثم اتجهت الهند الى مفاعلات الماء الثقيل المضغوط PHWR (نوع كاندو – كندى الصنع)، وقد تم تشغيل أول مفاعل من هذا النوع فى 16 ديسمبر 1973 بقدرة 100 ميجاوات ، والهند حاليا تمتلك 18 مفاعل من هذا النوع.  وقد تعلمت الهند من كندا صناعة مفاعلات الكاندو PHWR، فكان أول مفاعلين صناعة كندى ، أما باقى المفاعلات من نوع الماء الثقيل المضغوط PHWR كانت صناعة هندية. وذلك بعد ايقاف كندا مساعدتها النووية للهند فى اعقاب قيام الهند بتفجيرها النووى الأول عام 1974.

بداية الهند مع مفاعلات الماء الخفيف المضغوط PWR كانت مع مفاعلات الـ VVER الروسية، وأول مفاعل من هذا النوع كان بقدرة 1000 ميجاوات، هو مفاعل “كودانكولام-1” Kudankulam (KKNPP-1)، والذى بدأ تشغيله فى 31 ديسمبر2014، ثم تلى ذلك تشغيل المفاعل الثانى “كودانكولام-2”  فى 31 مارس 2017.

من وجهة نظرى الشخصية ورؤيتى الخاصة كمتخصص فى مفاعلات الطاقة النووية عن تجربة الهند مع المفاعلات الروسية من نوع VVER-1000، أنها تجربة تستحق الدراسة المتأنية والعميقة من المسؤولين ومن المتخصصين فى هذا المجال ومن القائمين على مشروع محطة الضبعة النووية، لما لها من فوائد عظيمة ستعود بالنفع على مشروع الضبعة النووى.

محتويات هذا المقال مصدرها مقالات ومراجع منشورة ومتاحة للعامة فى مواقع مختلفة ضمن مواقع الشبكة العنكبوتية ، وهى متاحة لمن يطلبها.

فى 20 نوفمبر 1988 تم التوقيع بين الاتحاد السوفيتى وبين الهند على بناء محطتين من نوع VVER روسية الصنع ، ونتيجة انهيار الاتحاد السوفيتى توقف تنفيذ التعاقد، ثم عاد المشروع إلى الحياة مرة أخرى فى 21 يونيه 1998.

بدأ الإنشاء فى المحطة الأولى “كودانكولام-1” فى 31 مارس 2002، وهذه المحطة هى من الجيل الثالث من نوع VVER-1000 والموديل هو AES-92، والقدرة الكهربائية لها 1000 ميجاوات، وطبقا للجدول الزمنى فقد كان مخططا أن تكون المحطة جاهزة للعمل بعد خمس سنوات أى فى مارس 2007،  لكن نتيجة المشاكل التى صاحبت التنفيذ فقد بدأ التشغيل التجارى فى 31 ديسمبر 2014،أى أن مدة التأخير كانت 7 سنين و8 شهور.

فى أغسطس 2009،  وفى مقابلة مع وكالة الأنباء الروسية “ريا نوفوستى” ، قال الدكتور “س. ك. جين” SK Jain ، مدير مؤسسة الطاقة النووية الهندية : “أن أول مفاعل فى كودانكولام ، قد تأخر فى التنفيذ بسبب الحاجة إلى إجراء تعديلات على المشروع ، جنبا إلى جنب مع التأخر فى توريد المعدات من روسيا”. ونتيجة هذا التأخير فقد زادت التكاليف من 2.02 مليار دولار الى 2.73 مليار دولار أى بنسبة زيادة مقدارها 35%.  ورأيى الشخصى كمتخصص أن قيمة الزيادة وهى 0.71 مليار دولار تعتبر قليلة جدا لأن فترة التأخير كبيرة، وطبقا  لحساباتى الشخصية فإن قيمة الزيادة فى التكاليف عن فترة التأخير لن تقل باى حال من الأحوال عن 138%.

بدأت شركة “روزاتوم” Rosatom الروسية بناء المفاعل الروسى AES-92 من الجيل الثالث “كودانكولام-1” الهندى فى مارس 2002. وحيث أن هذا الموديل من المفاعلات (AES-92) كان لايزال فى مراحل البحث والتطوير وكانت تصميماته غير معروفة للعالم الخارجى حتى العقد الأول من القرن الحادى والعشرين (مع بداية عام 2000) ، فقد كانت الوثائق الرئيسية مثل تقرير المشروع التفصيلىDetailed Project Report (DPR)  وتقرير تحليل الأمان الأولى Preliminary Safety Analysis Report (PSAR) لا يزال التعامل معها على أنها سرية. ومن المعلوم أن  تفاصيل جميع معدات المحطة النووية تكون مدونة فى تقرير تحليل الأمان الأولى PSAR وفى تقرير المشروع المفصل DPR.

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب: أحلام ضائعة

تم تسليم تقرير المشروع التفصيلى DPR وتقرير تحليل الأمان الأولى PSAR إلى هيئة الرقابة النووية الهندية (AERB) فى عام 2001. وفى 5 يناير 2005 وصل وعاء الضغط ومعدات أخرى إلى موقع المحطة، وقد تم تركيب وعاء الضغط فى أوائل عام 2007.

احتفظت مؤسسة الطاقة النووية الهندية NPCIL بوثائق المفاعل والتى تسلمتها من الشركة الروسية واعتبرتها سرية. وبتاريخ 30 أبريل عام 2012 لم تمتثل مؤسسة الطاقة النووية الهندية NPCIL لمطالب السيد “سايليش غاندى” Sailesh Gandhi، وهو مفوض المعلومات المركزية فى الهند لإطلاق سراح هذه الوثائق. وقد لاحظ السيد “غاندى” أن عدم الرغبة فى الشفافية من شأنه أن يعطى المواطنين انطباعا بأن معظم القرارات تتخذ لتعزيز الفساد وهذا يؤدى الى إنعدام الثقة.

هناك خصائص تتميز بها مفاعلات الجيل الثالث عن مفاعلات الجيل الثانى ، ومن أهم هذه الخصائص هى العمر التشغيلى للمحطة النووية والذى أصبح 60 عاما بدلا من 40 عاما ، والعمر التشغيلى للمحطة يتحدد بالعمر التشغيلى لوعاء الضغطPressure Vessel  فهو الذى يحدد العمر التشغيلى للمحطة ، كما يعتبر العنصر الاساسى الذى يحدد مستوى الأمان فى المحطة النووية. ولتحقيق هذا ، فنجد أن المواصفات القياسية الغربية اشترطت أن يكون الجزء الأوسط لوعاء الضغط للجيل الثالث من المفاعلات النووية عبارة عن قطعة اسطوانية واحدة من الفولاذ ولا توجد فيها لحامات ، حيث أن هذا الجزء من وعاء الضغط هو المواجه لقلب المفاعل الذى يحتوى على الوقود النووى ، وهذه المنطقة تزداد فيها النيترونات عددا وشدة ، وبذلك فهذه المنطقة معرضة لخبطات شديدة من النيترونات ، وحيث أن المواد المستخدمة فى اللحام تحتوى على عناصر حساسة للنيوترونات مثل النيكل والمنجنيز ، فوجود اللحامات فى هذا الجزء يزيد من قابلية التقصف وهذا يسبب هشاشة لهذا الجزء وتقل كفاءة وعاء الضغط ، ويقل العمر التشغيلى لوعاء الضغط ، فبدلا من أن يكون العمر التشغيلى لوعاء الضغط 60 سنة ، ينخفض العمر التشغيلى ليصبح 40 سنة كما هو الحال فى وعاء الضغط المستخدم فى الجيل الثانى من المفاعلات النووية ، وبالإضافة إلى ذلك فإن مستوى الأمان للمفاعل يقل ويكون هناك خطورة من تسرب المواد المشعة من وعاء الضغط ، وهو ما يحتاج إلى متابعة مستمرة ومع التحضير لاتخاذ الإجراءات المناسبة إذا ما اقتربت حالة وعاء الضغط من مستوى خطير. قد يكون حدوث حادثة كارثية نادرا ما تحدث ، فلا يكون هناك بديل سوى التقاعد المبكر (التكهين) لوعاء الضغط حتى لا تحدث حوادث كارثية.

هنا يأتى سؤال هام وخطير ويسترعى الانتباه ، ألا وهو :  ماذا سيحدث لو كان العمر التشغيلى لوعاء الضغط 40 سنة بدلا من 60 سنة بسبب وجود لحامات فى الجزء الاوسط من وعاء الضغط ؟ ، … من المتحمل استبدال وعاء الضغط المتهالك بوعاء ضغط جديد ؟ . وهنا لابد من توضيح أن هذا الحل يقترن بتكاليف باهظة، حيث تشمل هذه التكاليف الشراء والنقل والتركيب لأغلى مكون فى المفاعل وهو وعاء الضغط،، وكذا التعويض عن فترة توقف المفاعل عن العمل لفترة طويلة جدا.

بالنسبة لمفاعل VVER-1000 الروسى والمقدم للهند ، فقد قدمت “روزاتوم” فى عام 2005 طلبا للحصول على شهادة صلاحية طبقا للمتطلبات الاوروبية للمفاعلات النووية EUR، موضحة أن مفاعلات “كودانكولام” الهندية هى نموذج أولى من الموديل AES-92 روسية الصنع، وهى من مفاعلات الجيل الثالث. وفى مايو 2007 تم اعتماد المفاعل الروسى AES-92 على أنه مستوف للمتطلبات الأوروبية للمفاعلات EUR والتى هى من الجيل الثالث.

فى يناير 2005 وصل وعاء الضغط من روسيا إلى موقع محطة “كودانكولام” فى الهند. وفى عام 2006 نشر أول وصف للمفاعل الروسى AES-92  ، فى مجلة دولية هى مجلة “التصميم الهندسى النووى” ، وأصبح متاحا للعامة. وتم النشر من خلال مقالة كتبها ” س. ك. أجاروال” S. K. Agarwal وآخرون ، وهم من العاملين بمؤسسة الطاقة النووية الهندية، وقالوا: “وعاء ضغط المفاعل هو وعاء أسطوانى عمودى، ومصنوع من حلقات من الفولاذ المطروق وهى عبارة عن سبيكة عالية النقاء وعالية المقاومة وسمكها 20 سم ، وعاء الضغط لا يوجد به وصلات لحام فى الجزء الأوسط (المواجه لقلب المفاعل) والسطح الداخلى له مغطى بطبقة من فولاذ أوستينيتى مقاوم للصدأ austenitic stainless steel”.

المؤلف الدكتور “أجاروال” كان ضمن الفريق الهندى الذى تفاوض على المحطة النووية مع “روزاتوم” ، بل وكان أيضا مدير موقع المحطة “كودانكولام”. الدكتور “أجاروال” شغل مناصب هامة فى مؤسسة الطاقة النووية الهندية وفى مركز “بهابها للأبحاث الذرية”. فقد كان الرئيس التنفيذى للمحطات التى تعمل بالماء الخفيف ، ومدير مشاريع، ورئيس قسم تشغيل المفاعلات، ومدير مؤسسة الطاقة النووية الهندية ، وكان أكبر مسؤول تنفيذى نووى وكان مسؤول عن التعاون الأجنبى. وفى عام 2007 أصبح من العلماء المتميزين ، وذلك قبل عام من وفاته فى سن مبكر عن عمر يناهز 55 عاما. و”أجاروال” اتيحت له الفرصة للتمكن من الاطلاع على وثائق سرية مثل تقرير المشروع التفصيلى Detailed project report (DPR) ، وتقرير الأمان الأولى PSAR ، وتقارير التفتيش Inspection Reports (IR). والمؤلف الذى اشترك مع “أجاروال” فى كتابة المقالة هو السيد “اشوك تشوهان” Ashok Chauhan هو حاليا المدير التنفيذى لإدارة دورة الوقود النووى والضمانات فى مؤسسة الطاقة النووية الهندية.

بعد سنتين من وصول وعاء الضغط لموقع المحطة وفى أبريل 2007 تم تركيبه ، وبعد سنة من تركيبه أى فى عام 2008 ، أكتشف هيئة الرقابة النووية الهندية (AERB) أن “وعاء ضغط المفاعل به لحامات فى الجزء الأوسط” ، وهو ما يخالف مواصفات الجيل الثالث من المفاعلات. وفى عام 2011 أعلنت مؤسسة الطاقة النووية الهندية (NPCIL)  أن احتمالية حدوث تدمير لقلب المفاعل (CDF) هى 10-5 لكل مفاعل سنة ، بدلا من 10-7 (طبقا لمواصفات مفاعلات الجيل الثالث) ، وبذلك يصبح العمر التشغيلى للمحطة 40 سنة بدلا من 60 سنة (طبقا لمواصفات مفاعلات الجيل الثالث)، وهذا يشكل انتهاكا لبنود تقرير تحليل الأمان الأولى  PSAR. وبعبارة أخرى، فإن مستوى الأمان فى مفاعل “كودانكولام” الحقيقى يقل بمقدار 100 مرة أقل من المفاعل الافتراضى والذى قدمت روسيا مستنداته ووثائقه وحصل بموجبها على شهادة صلاحية باعتباره من مفاعلات الجيل الثالث طبقا للمتطلبات الأوروبية للمفاعلات النووية EUR.

ويقول “أجاروال” فى مقاله أن “فريق من ضمان الجودة تابع لمؤسسة الطاقة النووية الهندية كان متواجدا فى موسكو وسانت بطرسبرج بغرض مراجعة ضمان جودة المعدات الخاصة بمشروع المحطة النووية الهندية والتى يتم تصنيعها فى المصانع الروسية”.

ومن الغموض أن كُتاب المقالة لم يشيروا إلى تقارير التفتيش IR قبل وصف المعدات. كما لم تتقدم الهند بشكوى إلى “روزاتوم” كما أنها لم تبلغ نادى واضعى متطلبات المفاعلات النووية  الأوروبية EUR عن عيوب المعدات.

كيف تم هذا ؟ ، وهناك فريق جودة من مؤسسة الطاقة النووية الهندية مهمته متابعة تصنيع وعاء الضغط وكذا المشاركة فى الفحص النهائى لوعاء الضغط قبل شحنه إلى الهند. والأغرب من ذلك هو أن “أجاروال” والمشاركين معه فى كتابة المقال لم يكونوا على علم أن وعاء الضغط كان به وصلات لحام فى الجزء الأوسط ، مع أنهم كانوا يتولون مواقع هامة فى مؤسسة الطاقة النووية الهندية. هذه التساؤلات كانت هى المتداولة بين المتخصصين فى مجال المحطات النووية أو بين المهتمين بمشروع المحطة النووية بالهند.

اننا ندعو السادة القائمين على مشروع محطة الضبعة النووى من تلافى ما وقع فيه المتخصصين فى الهند من حيث مراعاة كامل الدقة فى مراجعة وتدقيق المواصفات الواردة بالتعاقدات، حتى لا يتعرض مفاعل مصر الروسى لما تعرض له مفاعل الهند الروسى، سواء من ناحية تأخر زمن البناء وارتفاع التكاليف أو من ناحية تعرض الأمان النووى للمخاطر …. هذه صيحة ونصيحة نطلقها أداءً للأمانة الوطنية بوصفى أحد المتخصصين فى المجال النووى والعاملين به على مدار أكثر من أربعة عقود. … والله الموفق.

اترك رد