مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

“نوارس تائهة ” قصة قصيرة

0

بقلم: ليلى عبد الواحد المراني:
يومٌ صيفيّ قائظ لم تشهده بلاد الثلج والصقيع سابقاً.. الأجساد تنزُّ عرقاً لزجاً، وتكاد الجلود تجفّ، كما الأرض والعشب والشجر، تقود سيارتها بسرعةٍ جنونيّة، ضاربةً إشارة المرور الحمراء أحياناً وكأنّ سياط الشمس اللاهبة تطاردها.. أجفل، أنظر إليها خائفةً من جنونها.. تفرّ كلماتي رغماً عنّي..
– خففي السرعة عزيزتي، فلسنا في سباق..
تحدجني بطرف عينها وتتأفّف.. أفهم، وألوذ بالصمت..
في مطعمٍ أنيق يطلّ على قناةٍ بحرّيّة تعجٌّ بقوارب شراعية قديمة وأخرى حديثة، تتزاحم كتلٌ هائلة من المتسكّعين على رصيف الميناء، طلباً لنفحة هواءٍ منعشة.. نجلس تحت مظلّةٍ سوداء، تُخرج من حقيبتها علبة سجائر، وقبل أن يأتي النادل أحرقت سيكارتها الأولى وتناولت الثانية.. أنظر إليها بحذر وصمت، أخشى أن أخوض معها حديثاً قد يفاقم من حدّتها وغليانها.. تُحدّق بوجهي فجأةً، وتساؤلٍ كبير يملأ عينيها.. يا إلهي!.. كم جميلةٌ عيناها الآن وهما تشعّان غضباً.. أتساءل، وأنا مزهوّةٌ بها، من أين سرقت لونهما الذهبيٌ، الذي يضاهي لون العسل الصافي.. هل هو امتزاج زرقة عينيّ والدها بلون عينيّ البني والذي اكتسبته من عائلتي..؟
– ماما.. أتعلمين…
يباغتني سؤالها، ودموعها تنهمر.. أمسك يدها بكلِّ ما أملكه من حبّ لهذه الابنة التي أصبحت أمّاً، ولا تزال تلك الطفلة المشاكسة العنيدة، تعبث بداخلها..
الخرسُ يعقد لساني وأنا لا أُدركُ حينها ماذا تريد أن تقول، ولماذا نحن هنا في هذا المكان بالذات.. أحوّل نظراتي بعيداً عنها كي تلتقط أنفاسها التي تلهث.. أراقب دون أن أعيَ شيئاً أسراب البشر يضيق بها رصيف الميناء.. يرتطمون ببعضهم.. يتعانقون، ويضحكون، تشاركهم أسراب النوارس لهوهم ومتعتهم، تخفق بأجنحتها الكبيرة فوق مياه القناة وفوق القوارب.. وأسرابٌ مشوّشة من أفكارٍ ووساوس يضيق بها صدري، لا أعي مصدرها.. أهو التوجسّ مما ستقوله، أو نكوصي إلى واقعٍ مرير أحاول جاهدةً أن أتخطّاه..
– بابا أراد أن يدعوني إلى مطعمٍ على البحر…
تهتف فجأةً بصوتٍ جريح.. فأستفيق..
تنكفيء ذاكرتي إلى دار المسنين والعجزة، أتمتم كلماتٍ مبهمة، فقدتْ معناها، أُدركُ أنها لم تعِ ما قلت..
– عدّة مرّات دعاني، ألحّ أن نكون لوحدنا.. لديه ما يريد الإفضاء به إليّ.. هكذا قال..
أعود أنظر في عينيها، دموع شفّافة تغمرهما، فألتزم الصمت، ليس لديّ ما أقوله ، أريد أن أسمع منها فقط..
– كرّر دعوته لي عدّة مرّات، وفِي كلّ مرّة أعتذر.. الشغل الذي يأخذ مني معظم وقتي.. مسؤولياتي.. البيت والأولاد.. والسفر..
تٌشعل سيكارةً أخرى، قد تكون التاسعة أو العاشرة، لم أعد أُحصي، ولم أعد أراقبها، بل أهرب بعيداً إلى هناك حيث هو الآن، يكاد يكون كسيحاً.. سنوات مضت منذ انفصلنا، كان ولا يزال حتى ساعة مرضه، دائم الحركة، كثير الكلام، لا يتوقّف ولا يضمّه مكانٌ أكثر من عشر دقائق.. أضحك أحياناً وأستفزّه حين أقول، ” خيرُ الكلام ما قلّ ودلّ “، فيستشيط غضباً وتعلو وجهه حمرةٌ قانية، وتزداد زرقة عينيه عمقاً.. يلعنني؛ فأضحك..
– آخر مرّة حين كنت في ألمانيا، قررتُ وأنا في الطائرة أن ألبّي دعوته حين أعود..
ويخفقُ قلبي وأنا أتذكّر ذلك اليوم المشؤوم. يرنّ جرس الباب، يفتحه ابني الصغير ويعود مسرعاً إلى غرفته ليتابع فيلماً يشاهده، لا أزال منكبّةً على جهاز الكومبيوتر، أكتب.. أحسّ أنّ عيوناً تراقبني، أرفع رأسي، إراه واقفاً امامي كتمثالٍ خشبيّ، ونظرةٌ تائهة تجول في عينيه…
– كيف خرجت بهذا الجوّ الممطر والعاصف؟
لم أسمع سوى همهمة تعقبها شهقةٌ طويلة متقطّعة..
– سأنهي كتابة آخر جملتين ثم أجهّز لك الشاي، اخلع معطفَك وجفّف شعرك في الحمّام..
قلت، دون أن أرفع رأسي.. الصمت يطبق من جديد، أنظر إليه، وجهه شمعيٌّ، وفمه مفتوح، يحاول أن يقول شيئاً، ليس سوى حشرجة متقطّعة، يضع اصبعه في فمه الذي خلا من الأسنان، يسحب لسانه؛ فيصيبني الذعر..
يعيدني صوتها من جديد ..
– اتصلتُ به حين عدت، لم يُجب، اتصلتُ عدّة مرّات، ليس غير الصمت…
تشنّج صوتها، واختنق..
– لعنة السماء كلّها هبطت على رأسي، مزّقته حين سمعت منكم لاحقاً ما حدث…
وتعود الصورة حالكةً أمامي.. ” أصيب بجلطةٍ في الدماغ مع نزيفٍ موضعيّ..” يقول الطبيب وسط هلعنا وذهولنا…
سحبتْ نفساً عميقاً من سيكارتها، ونفثته بقوّة…
– أردتُ أن اعرف شيئاً منكم عمّا حدث لأبي، لم تخبروني ساعتها، قلتم بأنه سافر.. لم أصدِّق، خمّنتُ بأنه مريض وسوف أذهب لزيارته في اليوم الثاني…
– كيف نفاجئك بالخبر المشؤوم يا حبيبتي، وقد عدتِ لتوّكِ من السفر؟
يحطّ طائر نورسٍ قريباً منّا، يحاول أن يسرق شيئاً من الطعام.. أهشّه ليبتعد، لكنها ترمي له طعامها، فتتهافت نوارس أخرى.. تضحك، ثمّ تنهمر دموعها…
– ليذهب كلّ شيءٍ إلى الجحيم ..
تهتف بغصّة.. سرب نوارس أخرى تحطّ على موائد عشّاقٍ يتعانقون، وتسرق طعامهم..
– للآن أتساءل بحرقة، ماذا أراد بابا أن يقول.. أتحدّثُ معه في كلّ زيارة، لا يعي ما أقول، يظلّ يتكلّم دون أن أفهمه.. حتى حين جئتُ به إلى هذا المطعم، أحاول أن أعينه كي يتذكّر.. وضعت أمامه صور العائلة، فرداً فرداً أسأله” من هذا، اتعرفه بابا..؟”
ينظر ، ويبتسم، إلاّ صورتكِ ماما، وضع اصبعه عليها، ” الملكة ” ، قال، وعلت وجهه ابتسامةٌ عريضة..
ابتلعتُ ريقي علقماً ، وأدرتُ وجهي كي لا ترى دموعاً تساقطت بالرغم منّي…
– تكلّم كثيراً عن عالمه الخاص الذي يعيشه.. لا أعرف عن ماذا يتكلّم، ولا الأشخاص الذين يتبادل معهم الحديث، ويضحك، وأحياناً يغضب ويثور.. هل كان يفهم ما أقول، هل يعرفني، أو تعوّد على وجودي في عزلته وحياته الجديدة.. ما فاجأني وأذهلني أنه ضغط على يدي حين غادرنا المطعم، ولأوّل مرّة كانت كلماته واضحةً، وعيناه الزرقاوان تبتسمان كطفلٍ وديع…
– هذا هو المكان الذي أردتُ أن أدعوكِ إليه….

 

اترك رد