مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

نفيسة خاتون الجارية الجورجية التي حكمت مصر من وراء ستار

47

بقلم – محمد حسن حمادة:

يظن البعض أن السلطانة (شجر الدر) هي الجارية الوحيدة في التاريخ المصري التي حكمت مصر! لكن هذه المعلومة خاطئة فهناك جارية أخرى اعتلت عرش مصر وحكمت من وراء ستار، هذه السيدة كانت تملك من المال والجمال اللذين أهلاها لتكون أغنى وأشهر نساء عصرها وسيدة مصر الأولى بلا منازع، فقد كانت تمتلك قصور وعبيد وخصيان وجواري وثروة عقارية صخمة والتزامات وضياع بعدد كبير من القرى بأرياف مصر علاوة على الحلي والمجوهرات الثمينة ،فعندما تزوجت مراد بك كانت تملك قصورا وتجارة وجيشا جرارا من العبيد المماليك وصل عددهم إلى 400 مملوك وأسطولا من السفن كما استثمرت أموالها وتجارتها في الأسواق عن طريق إدارة وكالة خاصة بها.

بجانب المال والجمال الذي سحر الألباب والقلوب كانت نفيسة البيضاء لها مؤهلات أخري كالذكاء والتحضر واللباقة والقبول والشخصية القوية التي أبهرت كل من تعامل معها.

لاننكر أن مؤهلها الأول وجواز مرورها إلى قلوب رجال عصرها هو أنوثتها وجمالها الطاغيان حتى يقال أن كل من وقع عليها بصره من رجال عصرها أصبح أسيرها ومملوكها وهي التي كانت مجرد أمَة ُجلبت إلى مصر، لا نعرف محلا لميلادها ولانعرف موطنها الأصلي فبعضهم يقول إنها شركسية والبعض الآخر يقول إنها من القرم أو القوقاز وبعضهم نسبها إلى الأناضول ولكن الأقرب إلى الصحة أنها كانت جورجية خطفها اللصوص من إحدي القري الجبلية بجورجيا لتباع في سوق العبيد بالقاهرة ليضرب لها القدر موعدا مع أحداث جسام لمرحلة شديدة الحساسية والخطورة في تاريخ مصر، كانت هي بطلتها وأحد محركات هذه الأحداث فيها بلامنازع.

لم تقنع نفيسة البيضاء بالحرملك كنساء أمراء وبكوات المماليك بل تخطت قوانينه وداست على يشمكه وبرقعه لتبدأ قصتها من مقر إقامتها الجديد، قصر الأزبكية الذي كان تحفة معمارية يشبه جمالها بناه لها زوجها علي بك الكبير خصيصا لها بعدما ملكت شغاف قلبه.

كان حي الأزبكية في ذلك الوقت في منتصف القرن الثامن عشر هو الحي الأرستقراطي الأول في مصر يضم كبار بكوات وأمراء المماليك، حتى بونابرت عندما حل إلى مصر اختاره ليكون مقرا دائما لإقامته ومن بعده كليبر بقصر الألفي الذي يبتعد عدة أمتار من قصر السيدة نفيسة خاتون.

إنها نفيسة البيضاء التي أطلق عليها آخرون اسم نفيسة المرادية، نسبة إلى زوجها الثاني مراد بك، سميت نفيسة البيضاء لجمالها الفتان الأخاذ وبياض بشرتها.

يصورها لنا الجبرتي بعدسته فيقول: إن ظهور أمر نفيسة بدأ عندما دخلت في حريم علي بك الكبير، فأحب الأخير هذه الجارية الشركسية وأعجب بها، وبنى لها دارا تطل على بركة الأزبكية في درب عبد الحق، غير أن المملوك مراد وقع بدوره في هوى نفيسة، فلما أراد محمد أبو الدهب خيانة علي بك الكبير وتحدث إلى المملوك مراد في ذلك، اشترط عليه الأخير نظير موافقته على الخيانة أن يسمح له بالزواج من هذه الجارية، فلما قُتل علي بك الكبير عام 1773 تزوج مراد هذه الحسناء”.

فكانت نفيسة البيضاء هي الرشوة الجنسية والمكافأة التي نالها مراد بك  نظير خيانته ،لتصبح نفيسة البيضاء زوجة لأقوي أميرين حكما مصر في نهاية العصر المملوكي وحاولا الاستقلال من تبيعة الباب العالي.

لم تخلب نفيسة خاتون عقول وقلوب رجال الشرق فقط وخاصة كبار رجال المحروسة بل تعلقت أهداب أعظم رجال الغرب بجمال هده السيدة ومنهم نابليون بونابرت الذي راودها عن نفسها عندما وجهت له دعوة على العشاء في قصرها المنيف بالأزبكية، ذهل نابليون من ثقافتها وذكائها وشخصيتها القوية الآسرة فقد كانت تخاطبه بالفرنسية بطلاقة فقد كانت تجيدها كنابليون نفسه كما كانت تجيد العربية والتركية فأولع بها نابليون، فلم يكن نابليون يظن أن نساء الشرق قد تفوق إحداهن نساء فرنسا قاطبة حتى على حبيبته (جوزفين) ليس في الجمال فقط بل في الفكر والثقافة وفنون الذوق والإتيكيت ولكن نابليون الفارس المغوار في ميدان الوغى لم يجرؤ على البوح بما أصابه من سهام ولحظ هذه المرأة التي عطلت ترسانته وشلت كل أسلحته الحربية فأهداها ساعة مرصعة بالألماس كحيلة من حيل نابليون الماكرة ليرى رد فعلها كنوع من أنواع الالتفاف والمراودة الذكية لنفيسة هانم خاتون عن نفسها إلا أنها أبت.

من منفاه بسانت هيلانة يتذكرها نابليون بونابرت ويصفها في مذكراته بأنها: المرأة التي تمتعت بحظوة كبيرة وتقدير كبيرين بين الأهالي”.

قدرها الفرنسيون ولم يصادروا أملاكها وتذكروا لها جميلها عندما عارضت زوجها مراد بك في مصادرة أموال الفرنسيين قبل دخول الحملة الفرنسية، ليس ذلك فقط بل بسببها حصل الفرنسيون على امتيازات تجارية لم يحصلوا عليها من قبل، فكان تعسف مراد بك مع التجار الفرنسيين هو الذريعة الأولى لقدوم الحملة الفرنسية، لكن عدم مصادرة الفرنسيين لممتلكات نفيسة خاتون كان مرهون بدفع فدية تقارب المليون فرنك فرنسي ولصعوبة تجميع الفدية اضطرت لإدراج الساعة المرصعة بالماس التي أهداها لها نابليون بونابرت كجزء من هذه الغرامة كنوع من أنواع الاحتجاج والرفض الذكي فأهداها نابليون لعشيقته.

قبل الفرنسيون وساطتها بينهم وبين زوجها مراد بك فكانت السبب في توقيع معاهدة صلح بين الفرنسيين وزوجها بمقتضاه يصبح مراد بك حاكما لصعيد مصر وبعد مغادرة الفرنسيين مصر يتولى مراد بك مقاليد السلطة والحكم،

فمراد بك هو الرجل المملوكي الوحيد الذي يستطيع توحيد المماليك وإعادتهم إلى المشهد السياسي بعدما ترنحت دولتهم وقد يعيد لها مراد بك بهذه المعاهدة بريقها وتوازنها ولكن تأتي الرياح بمالاتشتهي السفن.

توفي مراد بك جراء إصابته بالطاعون مما قلب حياة وأمنيات نفيسة خاتون بل مصر كلها رأسا على عقب لتحتضر دولة المماليك بصورة رسمية.

كان مراد بك هو العون والظهر والسند لنفيسة خاتون وبعد وفاته انحدر الحال بالسيدة التي عشقها أهالي المحروسة كما عشقها نساء المماليك فقد كانت بالنسبة لهم سندا وعونا ومغيثا من الفرنسيين، فبسطت حمايتها على كثير من نساء المماليك المنكوبين، كما واست عددا كبيرا من فقراء المحروسة الذين كانوا ضحية الحملة الفرنسية، ودفعت من حر مالها كثيرا من الغرامات والإتاوات التي فرضها الفرنسيون على المصريين ولم يستطع غالبيتهم دفعها، فنالت بذلك احترام المصريين.

قد يهمك ايضاً:

الكيلاني وشوشه يشهدان احتفالية “تحرير سيناء”…

” الفتيات الفاتنات ” قصة قصيرة

كانت نفيسة خاتون تمتلك من الذكاء ما يمكنها من المحافظة على شعرة معاوية بينها وبين القادة الكبار للحملة الفرنسية فسمحت بتمريض جرحى الجنود الفرنسيين في قصرها فكسبت احترام الأجانب.

ولما خرج الفرنسويون من مصر نجحت نفيسة في الحصول على حماية الإنجليز الذين بسطوا نفوذهم لفترة محدودة ،ثم مالبث أن عزز  العثمانيون سيطرتهم على مصر وأحكموا قبضتهم عليها، واصلت نفيسة خاتون سياسة حماية نساء المماليك بل حتى رجالهم لذلك لقبت بأم المماليك.

أما الوالي العثماني الجديد خورشيد باشا فقد كان يتوجس منها ويعتقد أنها السيدة الوحيدة التي تستطيع جمع شتات المماليك للقيام بثورة ضده فاستدعاها للقلعة للمثول أمامه.

وقفت نفيسة خاتون أمام الوالي العثماني في موقف لاتحسد عليه، مازالت مسحة من الجمال القديم تزين وجه نفيسة خاتون لم يصل إليها الزمن رغم التجاعيد التي طرقت وجهها.

حاول خورشيد الإيقاع بها ووجه لها تهمة ترك جواريها يوزعون المنشورات للقيام بثورة ضده، نفت نفيسة البيضاء الاتهام وردت عليه بشخصيتها القوية المعهودة:

عاصرت مماليك وفرنسيس وإنجليز ولكن لم يجرؤ أحد منهم أن يقتادني هكذا ويفعل بي مافعلت وينكل بي بهذا الشكل وأنت تعلم تاريخي وتعلم من أنا…من هي نفيسة خاتون ياباشا”.

وعندما شاهدها المصريون تتجه للقلعة فعرفوا أن الأمر جلل وعرفوا بمكيدة خورشيد باشا للإيقاع بأميرة عرش قلوبهم فثاروا وهاجوا وماجوا ومعهم العلماء والأعيان فما كان أمام خورشيد إلا أن أمر بنزولها بأحد بيوت القلعة وتم اعتقالها في بيت السحيمي للمحافظة على ماء وجهه وحتى تكون تحت سمعه وبصره، حاولت نفيسة الهرب لكن بأت محاولتها بالفشل.

كان القائد الألباني محمد علي باشا يرقب هذا الموقف عن كثب ويعلم قدر نفيسة خاتون لكنه كان أكثر توجسا من خورشيد باشا من هذه السيدة وهو من هو العدو الأول للمماليك ومدبر مذبحة القلعة لاستئصال شأفتهم ويداه ملتخطتان بالدماء المملوكية فكانت نفيسة خاتون (أم المماليك) في مواجهة مباشرة مع محمد علي باشا عدو المماليك الأول.

أذاقها محمد علي كل صنوف وألوان العذاب ولم يرحم شيخوختها فأمر بالتحفظ عليها لتكون رهن الإقامة الجبرية في بيوت أحد العلماء تحت حراسة مشددة ،فتوسط لها العلماء لإطلاق سراحها بعدما صادر محمد علي باشا ماتبقي لها من أموال وعقار.

 

حظيت نفسية بمكانة كبيرة في المجتمع المصري فكان لها التقدير من الأمراء والمشايخ والأعيان وعامة الشعب المصري ليس لجمالها ولذكائها وثقافتها بل أيضا لما كان لها من أيادٍ بيضاء في أعمال الخير فقد وهبت الكثير من مالها لبناء السبل والكتاتيب لتحفيظ القرآن

الكريم كما أنشأت مجموعة خيرية تتكون من سبيل يعلوه ُكتاب ووكالة تجارية بها محال تؤجر خصص ريعها للصرف علي أعمال الخير يعلو الوكالة حمامان ريعهما يذهب لإسكان فقراء المسلمين بمبالغ رمزية عرفت هذه المجموعة بمجموعة (السكرية) كما كانت تتبرع بإعانات شهرية للعديد من العائلات ودفعت الكثير من الغرامات والإتاوات التي فرضها الفرنسيون على المصريين الذين عجزوا عن دفعها، كما أنفقت على كسوة الكعبه، ومحمل الحجيج، وغيرها من أعمال البر.

صعدت روح نفيسة خاتون إلى بارئها في التاسع عشر من شهر إبريل 1816. في بيت زوجها الأول وحبيبها وأستاذها الذي لم تعشق غيره علي بك الكبير الذي تدين له بكل فضل، وتنفيذا لوصيتها دفنت بجواره بقرافة الإمام الشافعي.

وبعد وفاتها أجهز محمد علي باشا على بيتها واستولي عليه وأسكن فيه كبار رجال دولته.

وفي يوم وفاتها اتشحت القاهرة بالسواد حزنا علي المرأة الكريمة التي شاركتهم أفراحهم وهمومهم وأتراحهم، نعاها الجبرتي ووصفها “بنفيسة الخير لها على الفقراء بر وإحسان”.

نفيسة البيضاء أو نفيسة خاتون الجورجية نموذج حقيقي للتحضر المصري ودلالة على أن مصر بوتقة قادرة على إذابة العناصر الخارجية وتمصيرها وصهرها داخل القارورة المصرية التي تسع الأجنبي طالما أن هذا العنصر الخارجي لم يتربص بها بشرٍ ولم يأتِ لمصر مستعمرا.

لذلك أطلق الشعب المصري على بكاوات وأمراء المماليك (المصرالية)  تمييزا لهم عن المصراوية، أما نفيسة خاتون فلم ينظر إليها الشعب المصري بنفس النظرة التي كان يمقت بها المماليك ولم يضعها في نفس كفة زوجها مراد بك الذي كان يفرض الضرائب الباهظة على المصريين بل كانت تقف له بالمرصاد وتحاول منعه من ذلك بل وتتحمل ما وسعها من جهد أن تدفع عن المصريين المظالم والأموال فهي النموذج الصارخ للمصريين الجدد الذين منحهم الشعب المصري الجنسية المصرية فقد كانت الجنسية والهوية آنذاك تمنح للقلوب وليس بمكان النشأة والولادة كما في عصرنا الحديث لتكون نفيسة خاتون إحدي الجسور المتحضرة الذكية ونقطة عبور وتواصل وتلاقٍ فريد ونادر بين الشرق والغرب.

التعليقات مغلقة.