مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

من أحياها

3

بقلم – مرفت إبراهيم:

لقاء كل ليلة أتاه في موعده، غاص في بركته السوداء، وانتشلته العنقاء بأظافرها التي غرستها في عظامه، طارت به بعيدًا وضعته على قمة جبل، تركته ينزف دماء سوداء فتحول الجبل إلى بحر من هذا السواد، غرق فيه مرة أخرى، حاول أن يرفع رأسه ليتنفس أو يقفز خارجه فانتفض مستيقظا، يتصبب عرقًا مسحه بيديه فرأى وكأن يده كانت مغموسة في تلك الدماء، تفل عن يساره واستعاذ بالله من الشيطان الرجيم، لم يشعر به أحد من الراقدين معه في العنبر وكأنهم موتى.

كلما لمس خده الوسادة، أقض مضجعه ذلك الكابوس.

كدودة زحف على بطنه، متسللا بهدوء، كي لا يفسد كوابيسهم، فهو يشعر بهم حين يستيقظ أحدهم يلهث فزعًا، فيناوله كوب ماء يطفئ به نيران حلمه، قام مسندًا جسده إلى الفراغ مهتديا بالحلكة يتلمس الأشياء بحذر شديد في جوف العتمة .

– ما بالها الليلة.. قمرها مختنق وراء سحب معتمة، ونجومها هجرت سماءها، وكأنها ثارت مثله على ديكتاتورية القمر وسيطرته على كونها .

 

تسكن الحركة، يتعانق نقيق الضفادع في البركة المجاورة للمعسكر مع صرير البنادق المتأهبة لتنال من أي كائن متحرك يقترب من هذا السواد.

بيوت تلتحف بالرايات السود متناثرة، تغط في نوم عميق، أو ربما مثله تغرق في غيابات الكوابيس.

 

منذ خمسة أعوام أتى إلى هذا البلد الغريب عن أهله، هاربًا من عقاب محتوم كان سيودي به.. إما في معتقل ما بعد الشمس، أو إعدام جزاء صرخته في وجه الظلم،

فقد خرج في ثورة ضد الحاكم الذي أذاق بلاده ألوان الظلم والقهر وباتت تحت نيِر قيظه أعواما تُعد بأيام عمره، حاول أن يمنح بلاده ربيعًا يرويه بدمائه كما علمه شيخه الجليل، لينال شرف الشهادة فيلتقي فورًا برسول الله ويُزَفُ إلى سبعين من الحور العين.

وقف وسط الحشود يهتف معهم بسقوطه، قال العبارات المملاة عليه، أشعل الحرائق في الكباريهات، وبيوت عبادة الأوثان “الكنائس” كما خطط المسؤول في الجماعة، حمل حافلة ملأى بالركاب وقذفها من فوق الجسر، أخذوه بعدها ليهرب بعيدًا بعد أن حملت (الكاميرات) صوره أثناء التنفيذ.

حملهم ظلام الليل وملابس التنكر إلى ذلك البلد الشقيق الذي سيطر عليه إخوانه وأقاموا فيها دولة العدل كما أوهموه.

كان ضعيف البنية، ليس مثل كل من حوله من الأجساد القوية والعضلات الفتِية، لم يكن بطلاً ممن يحملون السلاح.

كان خادما لهم داخل المعسكر، الذي لم يرَ داخله من الإسلام إلا الراية، شاهد الظلم بكل ألوانه في دولتهم، سرقة الأطفال وتفخيخهم ثم إرسالهم إلى ما يسمونهم بجيوش دولة الطاغوت.

يُغيرون على القرى ويَسبون نساءها ويقتلون رجالها بدفنهم أحياء.

حاول الهرب من هذا السواد المطبق الجاثم على صدره لكنه لم يفلح.

سمع صوت الأمير يتحدث مع مفتي الدولة، اقترب بخطى متثاقلة ليتسمع لما يقولان، كانا يختاران من بين الإخوة من سينفذ حادث التفجير القادم في جيش العدو. سمع اسمه يتردد في حديثهما، وكيف أنه لم يعد يلزمهم عمله في الخدمة وأن تفجيره أصبح أجدى نفعًا .

قد يهمك ايضاً:

لاتدنو من مواجعنا

-هيه .. لقد أصبحت بلا نفع، ويريدون التخلص مني بعمل مفيد لدولتهم.

حبس أنفاسه وابتعد، جلس بمقربة من البركة وأخذ يحدثها :

– يبدو أنه حان تحقيق حلم كل ليلة.. كنت في بركة سوداء في بلدي وعماء لا يجعلني أرى نور حقيقتهم.. خدعوني بزيف إيمانهم.. جعلوني أكفر كل من حولي حتى والديّ.. رميتهما بالكفر عندما حاولا أن يثنياني عن الانضمام للثورة.. وهاهم أخذوني إلى حيث بركة الدم الأسود.

شياطين كانوا في لباس الملائكة،

ولكن ماذا سأفعل؟

هل سأنفذ ما أرادوا!؟

هل أرفض فيكون مصيري قطع الرأس؟

اهتدى إلى الحل.. رفع رأسه للسماء داعيًا أن يتقبله الله فيمن عنده..

حان وقت صلاة الفجر.. ذهب إلى الصلاة..

طلب منه الأمير أن يجلس بعد الصلاة لأنه يريده في أمر مهم..

أخبره بأن موعد زفافه قد حان…وأنه سينال الشهادة التي هي بغيتهم جميعًا ولكنه وحده من حظي بها وأنه سيقضي نحبه وهُم من سينتظرون دورهم.

أتى موعد التنفيذ.. فاغتسل ولبس ثوبًا نظيفًا.. ألبسوه الحزام الناسف ووضع يده على زر التفجير ليكون مستعدًا ..

طلب من الأمير أن يراجع معه حفظه لسورة المائدة قبل أن يتحرك وعندما وصل للآية (32(

بسم الله الرحمن الرحيم

{ مِنْ أَجْلِ ذَٰلِكَ كَتَبْنَا عَلَىٰ بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا ۚ وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَٰلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ }

انطلق إلى مخزن السلاح وضغط على زر التفجير.. تناثر جسده كأنه رجوم الشياطين فوق رؤوسهم.

توقفت عيونهم في محاجرها يتبادلون نظرات الاستغراب والفزع.

 

 

اترك رد