مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

مفاوضات سد النهضة… والمباريات الصفرية

1

بقلم – د . إسـلام جـمال الـدين شــوقي

خــــــبير اقــــتصــــــــادي

عضو الجمعية المصرية للاقتصاد السياسي

تواجه مصر في الوقت الحالي العديد من التحديات، ويأتي من بين هذه التحديات الحفاظ على أمن مصر المائي، حيث تواصل مصر المشاركة في الاجتماعات التي تخص سد النهضة الإثيوبي جاهدةً في التوصل إلى إتفاق لحل الأزمة المستمرة منذ 9 سنوات حتى الآن، خاصةً بعد رفض إثيوبيا التوقيع على الإتفاق النهائي في واشنطن يومي 12 و 13 فبراير الماضي، ووقعت عليه مصر بشكلٍ منفردٍ هذا من جانب.

ومن جانب آخر تنوي إثيوبيا الشروع في الملء الأول للسد شهر يوليو القادم بالتزامن مع بداية فيضان النيل الأزرق، على أن تستمر العملية حتى نهاية فصل الشتاء بإجمالي 4,9 مليار متر مكعب ليبدأ السد التشغيل التجريبي لإنتاج الكهرباء في مارس 2021، فيما تعترض كلًا من مصر والسودان على خطط إثيوبيا وتصفها بالأحادية حيث سيتسبب سد النهضة الإثيوبي في إحداث ضررٍ كبيرٍ لمصر.

 

هذا وقد وافقت مصر مؤخرًا على مقترح سوداني باستئناف مفاوضات سد النهضة من أجل حل الخلافات الفنية حول ملء بحيرة السد والتشغيل منذ يوم 9 من الشهر الجاري، ولكن فوجئت مصر والسودان بورقة من الجانب الإثيوبى تضم 13 بندًا ليس لها علاقة بقواعد الملء والتشغيل، وتنص الورقة الإثيوبية على حق إثيوبيا المطلق في تغيير وتعديل قواعد ملء وتشغيل سد النهضة بشكل أحادي على ضوء معدلات توليد الكهرباء من السد ولتلبية احتياجاتها المائية، دون الالتفات إلى مصالح دولتي المصب.

 

ولايخفى على القاصي والداني أن الحكومة الإثيوبية تتبع سياسة المراوغة والرهان على الوقت في عملية التفاوض حيث تحاول فرض سياسة الأمر الواقع على دولتي المصب مصر والسودان، ووضعهما أمام خيارين إما على التوقيع على وثيقة تجعلهما أسرى لإرادة إثيوبيا، أو أن يقبلا بقيام إثيوبيا بإتخاذ إجراءات أحادية كالبدء في ملء سد النهضة دون التوصل إلى إتفاق مع دولتي المصب.

 

إن النظام الإثيوبي قد بين سوء نيته في التعامل مع الجانب المصري ويتضح ذلك من خلال أسلوب حل النزاع حيث تتناول منهجية وفقًا لرؤيته هو ومصلحته فقط ، فإثيوبيا تريد إقامة سدود أخرى على النيل الأزرق بزعم إنتاج الكهرباء ولن يتوقف الأمر على بناء سد النهضة فقط، كما أن إثيوبيا لاتريد بأن تلتزم بأية قيود تلزمها بمراعاة مصالح دولتي المصب وهي مصر والسودان ؛ سواء في ملء بحيرة سد النهضة أو مرحلة التشغيل خلال فترات الفيضان العادية وسنوات الجفاف والجفاف الممتد، أو في مشروعات الكهرباء أو الري التي تعتزم إقامتها مستقبلًا.

 

لقد طالبت مصر منذ اليوم الأول لاستئناف المفاوضات في التاسع من يونيو الحالي بوضع سقف زمني للتفاوض، وأن يكون وفقًا لإعلان المباديء والذي تم توقيعه في عام 2015، والذي ينص على ” عدم البدء في ملء بحيرة السد إلا بعد الإتفاق مع دولتي المصب “، والجدير بالذكر أن إثيوبيا تحاول الهروب من الإتفاق الذي صاغه البنك الدولي مع وزارة الخزانة الأمريكية ( بنود إتفاق واشنطن) مع الأخذ في الإعتبار أن صياغته تمت بناءً على نتائج المناقشات التي تمت بين الدول الثلاث ووفقًا للرؤى التي تم طرحها والقبول بها.

 

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب: أحلام ضائعة

ومما يؤكد وجهة النظر التي تؤيد سوء نية إثيوبيا في الوصول لأي إتفاق هو التعنت الإثيوبي الواضح من خلال طلبها أن تقوم بالبدء في عملية ملء البحيرة مع الاستمرار في المفاوضات وقبل التوصل لإتفاق نهائي، وقد رفضت مصر والسودان اقتراحًا من قبل بإبرام إتفاق جزئي للملء، كما طالبت مصر بألا تزيد مدة هذه المفاوضات على 30 يومًا كحد أقصى.

 

كل ذلك ليس فحسب بل الأكثر من هذا هو ” تمسك إثيوبيا بالتفاوض وفقًا لمرجعية وثيقة اجتماع الخبراء الفنيين والقانونيين يومي 12 و 13 فبراير الماضي، وتتمسك مصر بمسودة الاتفاق النهائي الذي صاغه البنك الدولي وواشنطن في 21 فبراير ووقعت عليه مصر بالأحرف الأولى كمرجعية أساسية للمباحثات، كما طالبت مصر بالامتناع عن أي إجراء منفرد لملء بحيرة السد قبل إبرام الإتفاق النهائي بين الدول الثلاث.

 

وفي وجهة نظري كباحث ومتخصص في الشأن الإثيوبي أرى أنه بهذا تنتهج إثيوبيا فرض سياسة الأمر الواقع في أزمة سد النهضة، وسياسة بسط العضلات، وأنه يجب على مصر الاستسلام والقبول بالأمر الواقع، وهو تقبل بناء السد وليس ذلك فحسب بل والأكثر من ذلك، وهو الاستعداد لملء السد والتحكم في حصة مصر من مياه النيل.

 

وتبقى المفاوضات معلقة حتى يتفاوض المفاوض المصري على أسلوب ملء السد بعد أن كان يتفاوض على بناء السد، وتظل إثيوبيا في ممارسة سياسات أقرب إلي “المباريات الصفرية” التي تصب فقط في صالح إثيوبيا على حساب مصر والسودان، ويمكننا القول أن هذا الأسلوب يطلق عليه أيضًا ” المربع صفر” مما يجعل الحديث عن التعاون نوعًا من المراوغة وكسب الوقت، مثلما يحدث حاليًا في أزمة سد النهضة.

 

إن المفاوضات التي تجرى حاليًا بين الجانبين المصري والإثيوبي وصلت إلى مرحلة حرجة وحساسة؛ خاصةً بعد أن أثبتت إثيوبيا بما لايدع مجالًا للشك أنها دولة ليس لها مصداقية أمام المجتمع الدولي، وأنها تتحدى المجتمع الدولي وهذا الموقف يتيح لمصر إدانتها أمام المجتمع الدولي والعالم أجمع حيث ما زالت مصر ملتزمة بالحل السياسي والتفاوض في هذا الملف سيكون عن طريق وضع المجتمع الدولي أمام مسئولياته.. وهنا تصبح كل الخيارات متاحة أمام مصر للدفاع عن حقوقها المائية.

 

إن العُرف الدولي يؤكد أن الاتفاقيات الدولية التاريخية ملزمة للدولة التي وقعت عليها وأي نقض لهذه الاتفاقيات لا يكون ملزمًا لأحد كما أنه لا يعفي الدولة الناقضة للاتفاقية من واجباتها تجاه الدول الموقعة على الاتفاقية، وأن أحكام القانون الدولي كلها تؤكد أن مصر لها حق مكتسب في مياه النيل، ويؤيد ذلك ما أقره معهد القانون الدولي عام 1961 بشأن مبدأ عدم المساس بالحقوق التاريخية المتوارثة في الموارد المائية وأيدته المادة 12 في إتفاقية فيينا للمعاهدات عام 1978 التي نصت على توارث الإتفاقيات الخاصة بالحدود، مؤكدًا أنه من حق مصر اللجوء إلى المحكمة الدولية في حالة إصرار إثيوبيا على الإضرار بمصالح مصر المائية.

 

إن الاتفاقيات السابقة والحقوق القانونية قد لا تكفي وحدها للتأكيد على حق مصر كما هو واضح من سلوك إثيوبيا الحالي، مما يتطلب استراتيجية موحدة تتضمن حزمة من التوجهات ووسائل الضغط الدولي وآليات التعاون والتنمية الاقتصادية والاجتماعية والتقارب السياسي والدعم العسكري في آن واحد لتؤتي ثمارها في تحقيق الأهداف المرجوة.

 

لقد أصبح جليًا ولا يدعو مجالًا للشك تعنت الجانب الإثيوبي وإصراره على عدم التوافق والوصول إلى حلول، وأنه يجب على مصر إتباع التصعيد السياسي والذي يستند إلى ما يمكن تسميته ” باستراتيجية الهجوم بهدف الإحتواء ” بحيث يتم التحرك على مستوى رئاسي أو تمثيل عالي بإتجاه إثيوبيا مباشرة جنبًا إلى جنب مع تكثيف الجهد الدبلوماسي فالتحرك المصري يجب أن يكون أكثر حزمًا مع السودان من أجل إجبار إثيوبيا على التخلي عن تعنتها وتتجاوب مع مرونة مصر في التفاوض ومع جهود السودان في تقريب وجهات النظر للتوصل إلى إتفاق.

 

هذا وقد يتطب الأمر إلى تدخل من الولايات المتحدة الأمريكية التي قامت برعاية إتفاق واشنطن كما يحتاج الأمر إلى تدخل كلًا من الإتحاد الإفريقي والإتحاد الأوروربي واللذان يشاركان كمراقبين في المفاوضات، ومن الممكن أيضًا إشراك دولة مثل الصين والتي لها استثمارات كبيرة في إثيوبيا ويجب على الدول العربية مساعدة مصر والوقوف بجانبها من خلال استخدام سلاح استثماراتهم في إثيوبيا لمنع تمويل أي شيء في إثيوبيا.

 

وفي النهاية يبقى سؤال هام ومُلِح وهو: هل ستتجاوب إثيوبيا مع الجهود التى تبذلها كلٍ من مصر والسودان ، ويمدا معًا يدا العون لكي تكلل هذه الجهود بالنجاح، ويتم التوصل إلى حل يتم التوافق عليه، يُذهب الضرر وتتحقق معه المنفعة والمصلحة للأطراف كافةً ؟!، ألم يحن الوقت بعد لكي تثبت إثيوبيا حسن نواياها، مثلما فعلت كلًا من مصر والسودان ؟! سؤال نطرحه، ستجيب عنه الأيام القادمة!!!

اترك رد