مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

محمد حسن حمادة يكتب: ذوو الاحتياجات الخاصة في الحضارة المصرية القديمة

90

في الحضارات القديمة كان ينظر لذوي الاحتياجات الخاصة على أنهم فئة شاذة منبوذة أما عاهتهم وإعاقتهم فهي نوع من أنواع المس الشيطاني الذي يجب التخلص منه بإلقائهم في البحر أو تركهم فوق قمم الجبال أو إلقائهم في نهر (أورتاس) أو رميهم على قارعة الطريق كما تنص على ذلك القوانين الرومانية.

 

أما نظرة أثينا الإغريقية التي تميزت بعمق فلسفي كبير وأنجبت أعظم فلاسفة العالم كأرسطو وأفلاطون فقد فضحتهم نظرتهم المريضة لذوي الاحتياجات الخاصة فقد كانت أثينا تنظر بكل احتقار وشذر واشمئزاز لذوي الاحتياجات الخاصة، فأفلاطون يعتبر وجودهم إعاقة لقيام الدولة بوظيفتها، أما الخطر الأكبر على الدولة من وجهة نظره إذا سمحت لهم الدولة بالتناسل سيؤدي ذلك إلى إضعاف الدولة،

كما كان رافضا لأصحاب الإعاقات العقلية ولذلك دعا إلى نفيهم خارج الدولة وعدم السماح لهم بدخولها حتى لا يبقى في الدولة سوى الأذكياء والقادرين على الإنتاج أو الدفاع أو الحكم فكانوا خارج حسابات مدينة أفلاطون الفاضلة. 

 

أما العرب في العصر الجاهلي فقد كانت القبائل العربية تتفاخر بخلوها من أصحاب العاهات والعناصر الضعيفة باستثناء حضارة سبأ في اليمن السعيد التي قدمت بعضا من أشكال الرعاية لذوي الاحتياجات الخاصة.

 

أما حضارة مصر القديمة فقد تعاملت مع ذوي الاحتياجات الخاصة بنظرة إنسانية إيجابية فلا شيء اسمه إعاقة ولايوجد شخص معاق الجميع سيان الكل سواسية في الحقوق والواجبات فالمصري القديم أول من مكن لذوي الاحتياجات الخاصة قبل ظهور الأديان السماوية، دون التفرقة في النوع أو الشكل أو البناء الجسدي أو ظروفه الخاصة، وكان الكهنة في المعابد يصلون لشفاء ذوي الاحتياجات الخاصة، بل وصل بهم الأمر أن تولوا مناصب هامة وقيادية في الدولة، أما المثير للدهشة أن هناك ثلاثة فراعنة من ذوي الاحتياجات الخاصة تبوأوا عرش مصر.

 

فهاهم الأقزام مثلا الذين كانوا يمثلون البهجة والمتعة والأمل والابتسامة وكانوا صناع السعادة في مصر القديمة، اشتهروا بصناعة الحلي في مصر القديمة نظرا لصغر أناملهم التي كانت تمكنهم من تشكيل الحلي بسهولة ويسر، الشاهد على ذلك أحد المناظر المصورة على جدران مقبرة (مريروكا) بمنطقة سقارة.

 

كان الأقزام في مصر القديمة رياحين القصور الملكية حتى وصلوا إلى أرقى المناصب كالقزم (سنب) الذي شغل العديد من المناصب حتى وصل إلى رئيس أقزام البلاط الملكي كما كان مشرفا على العناية والاهتمام بالملابس الملكية، ولشهرته ونجاحه حظي بالزواج من جميلة الجميلات الكاهنة (سينينيتس) 

والتي كانت أيضا إحدى وصيفات القصر،

وكانت ذات بنية طبيعية ومازال تمثالهما الشهير المتفرد يشهد على قصة حبهما الخالدة التي فاقت (روميو وجولييت) محفوظا في المتحف المصرى بالقاهرة إلى الآن، يبلغ ارتفاع التمثال ثلاثة وأربعين سم يجلس (سنيب) متربع القدمين بقامته القصيرة وبجواره زوجته الجميلة تضع يدها اليمنى على كتف زوجها الأيسر وتعلو وجهها ابتسامة رضا وحب وقناعة وفي نفس الوقت فخر واعتزاز بزوجها وتحت قدم (سنب) طفلاهما، فما أجمل المصري القديم وما أعظم عبقرية المثال الذي حفظ لنا بأنامله الذهبية وثيقة حية ناطقة تشهد بالرقي والسمو الأخلاقي للحضارة المصرية القديمة، وبعد وفاة (سنب) دُفن في قبر فخم قريب من هرم خوفو بجبانة الجيزة.

 

فى عصر الأسرة السادسة قام الملك ( بيبى الثانى 2370 ق م ) بإرسال خطاب إلى الرحالة (حرخوف) يوصيه: تعالى سريعا إلى القصر وأحضر معك القزم الذى جئت به من أرض الأرواح حيا سالما، وبصحة جيدة ليرقص للإله ويدخل السرور إلى قلب الملك، وإذا نزل معكَ إلى السفينة فعين أشخاصا أذكياءً على جانبها لملاحظته حتى لا يقع في الماء، وإذا غفا بالليل فعين له أشخاصا أذكياءً يحرسونه في حجرته، لأن جلالتي يحب أن يرى هذا القزم أكثر من هدايا المناجم وهدايا بلاد بونت، فإذا وصلت إلى القصر ومعكَ هذا القزم حيا سالما فإن جلالتي سيمنحكَ أشياءً كثيرة”.

 

قد يهمك ايضاً:

أنور ابو الخير يكتب: أحلام ضائعة

من يصدق أن الإله (بس) أهم المعبودات والأرباب التي كانت تُعبد في المنازل ويمثل عند قدماء المصريين إله المرح والسعادة كان على هيئة قزم بل ذهب الفراعنة للعناية بالأقزام لأبعد من ذلك فقد بنوا للإله (بس) معبدا خاصا في الواحات البحرية بالصحراء الغربية المصرية.

 

كما سجلت لنا المناظر المنقوشة على جدران المقابر العديد من التماثيل الجيرية الصغيرة في المتحف المصري، منها نقش العازف الأعمى الذي يعزف على آلة الهارب “القيثارة” الموسيقية القديمة، التي تُعزف عليها الأناشيد الدينية الخاصة بالإله، حيث يتمنى المتوفى أن تساعده تلك الأناشيد في البعث مع شروق كل صباح والبعث والخلود في العالم الآخر.

 

ظهر العازف الأعمى في معظم الحفلات، كما تزخر المقابر بالدولة القديمة والدولة الوسطى، والدولة الحديثة بمناظر من فقدوا بصرهم من العازفين الذين تميزوا بالقدرة على حفظ الترانيم الدينية والجنائزية والمقامات الموسيقية. 

 

كما حظي ذوو الاحتياجات الخاصة في مصر القديمة بعناية طبية خاصة فقد سجلت لنا بردية (أيبرس) الطبية من القرن السادس عشر ق م محاولات لعلاج أحد ذوي الاحتياجات الخاصة الذي كان مصابا بصمم في أذنه وتم تسمية هذه الحالة بـ (الأذن التي لا تسمع جيدا) ووصفت حالات مرضية في الإعاقة الذهنية ووصفت لها الدواء، بل واهتمت كذلك الحضارة المصرية القديمة بذوي الاحتياجات الخاصة حتى بعد الممات فمراسم الدفن لذوي الاحتياجات الخاصة في العالم الآخر كانت تحظى بتقدير وتكريم كبيرين والدليل على ذلك إحدى المقابر الفرعونية التي تعود للعصور المتأخرة بمدينة الفيوم تحتفظ بمومياء لفتاة التهم تمساح ساقيها فسبب لها إعاقة ظلت الفتاة حية لمدة شهور، وعندما ماتت قام الكهنة المحنطون بوضع ساقين صناعيتين من الخشب كبديل للحقيقيتين.

 

من أجمل الكتب التي كتبت عن الأقزام في هذا العصر كتاب (الأقزام في مصر واليونان) للباحثة (فرونيكديزين) تقول فيه: إن الأقزام لم يكونوا مرفوضين أو منبوذين، فحجم التقدير الذي كانوا يحظون به رشحهم لمصاحبة الموتى إلى العالم الآخر فصورة قصار القامة في مصر تعكس موقفا إيجابيا، فشذوذهم الجسماني لم يكن موضع تسامحهم فحسب بل موضع قبول وتقدير لهالة القداسة التي تحيط بهم وارتباطهم برموز دينية”.

 

 

كانت الحضارات القديمة تسلب ذوي الاحتياجات الخاصة حقهم في الحياة وبالتالي تحرم عليهم الاقتراب من حرم الأماكن المقدسة، أما في مصر القديمة فكان ذوو الاحتياجات الخاصة يدخلون المعابد ويقدمون القرابين، تُظهر لنا الجدارية المصرية الموجودة في متحف (كارلسبرج بكوبنهاجن) التي تصور لنا واحدا من ذوي الاحتياجات الخاصة وقد كان مصابا بشلل أطفال في إحدى ساقيه لكن ذلك لم يمنعه من الوقوف أثناء تقديم القرابين متكئا على عصا في يد ويمسك باليد الأخرى وعاء به قرابين ويقدمه للآلهة.

 

تتجسد عظمة وقوة وإنسانية الحضارة المصرية القديمة عندما نعرف أن بعضا من ذوي الاحتياجات الخاصة وصل إلى العرش الملكي وحكم مصر الفرعونية القديمة التي كانت قوة عظمى آنذاك فمن يجلس على عرش مصر القديمة فكأنه جلس على عرش العالم القديم فمن يصدق أن الملك (توت عنخ آمون) الذي أذهلت مقبرته الملكية الذهبية العالم أجمع التي تم اكتشافها في عام 1922 هذا الملك الشاب كان من ذوي الاحتياجات الخاصة وحكم مصر وهو يعانى من مشكلة في أحد ساقية، لذلك عثرنا في مقبرته على أكثر من مائة عصا مختلفة الأشكال والأنواع وهذا مايفسر لنا لماذا كان الملك الشاب (توت عنخ آمون) يُصور دائما جالسا حتى وهو يصوب الرمح.

 

تصيبنا الدهشة عندما نعلم أن الملكة (حتشبسوت) كانت أول سيدة في العالم القديم ترتدي قفازات مطعمة بالأحجار الكريمة، تري ما السر في ذلك؟

عندما تم الكشف عن المومياء الخاصة بها وبعد الفحص الطبي الدقيق عرفنا سر القفازات الملكية فالملكة (حتشبسوت) كان لديها عيب خلقي في يدها فقد اكتشفنا أن للملكة ست أصابع في إحدى يديها فكانت ترتدي القفازات لتداري هذا العيب الخلقي.

 

أما الملك (سيبتاح) الذي كان أحد أحفاد الملك رمسيس الثاني، والذي حكم مصر في آواخر الأسرة التاسعة عشرة لمدة سبع سنوات فله قصة أخرى، فقد كان هذا الملك يعاني من مرض شلل الأطفال في قدمه اليسرى مما أصابها بالقِصَر فتسبب ذلك في عرج الملك في مشيته ظهر ذلك جليا من صوره وموميائه التي عثر عليها في مقبرة (أمنحتب الثاني) عام 1898 مع 15 مومياء أخرى. 

 

لذلك وجدنا الحكيم (آمنموبي) يوصي ابنه في عصر الرعامسة، خلال القرن الرابع عشر ق م، في بردية مكتوبة إبان الأسرة الحادية والعشرين يقول في الفصل الخامس والعشرين من التعاليم مطالبا إياه بألا يعامل ذوي الاحتياجات الخاصة بشكل مهين: لا تسخر من أعمى ولا تهزأ من قزم ولا تحتقر الرجل الأعرج ولا تسد الطريق أمام العاجز ولا تعبس في وجوههم ولا تحقرن رجلا بين يدي الله (المجذوب) فالرب هو خالقهم من طين وقش وهما المادتان اللتان يصنع منهما الطوب اللبن والله هو مسويه وهو يهدم ويبني كل يوم وهو يصنع ألف تابع حسب إرادته وهو قدير يحيي ويميت، ما أسعد الرجل الذي انتقل للغرب (الميت) وهو آمن في يد الإله.

التعليقات مغلقة.