مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

قد شغفها حبا وشغفته

27

بقلم- محمد حسن حمادة:

الحلقة الأولي.

للبيوت أرواح تسكنها تشبه ساكنيها تطبع علي وجوههم تكسو ملامحهم لبناتها، تشكل عتباتها خريطة زمنية محفورة ومنقوشة في قلوب وصدور أصحابها

يهتدون بها كالعلم الساري، بيوت كالقلوب تسكن فينا أكثر ما نسكنها، ترشدهم في عتمة الليل، وتكون كبوصلة لهم في بحر الحياة الهادر الثائر المتلاطم الأمواج،

 بيوت كبيوت الفراعنة صنعت للحياة وللخلود، لبنة من حُب ولبنة من المرمر، 

بيوت كالأوطان تحفظ أصحابها أينما حلوا وارتحلوا، بيوت تسكنها الملائكة وتخشاها الشياطين، بيوت تفوح منها رائحة السعادة.

لا يعرف لماذا تتوقف قدماه تحديدا أمام هذا البيت ولماذا يخفق قلبه وتضطرب دقاته وتخور قواه ويتصبب جبينه عرقا عندما يمر أمام بوابته، حتي عندما شم رائحتها واستنشق عبيرها، فكان يأخذ شهيقا عميقا ويود لو كتم زفيره ليعيد روحه للحياة من جديد، ولكنه كذب نفسه وأنفاسه، حاول قتل حدسه مرارا والخروج من لعنة وطلاسم هذا البيت المجهول المفتون به والمنجذب إليه بلا وعي وكأنه مسحور، لم يخجل حتي من نظرات أصدقائه له عندما أصر علي العبور بهم من أمام هذا البيت عدة مرات بسبب وبدون سبب! لايدري لماذا يُحملق في الأعلي باسطا ناظريه إلي شرفة البيت فاغرا فاهه كطفل رضيع يتلهف بشوق التقام صدر أمه، يسأل نفسه وهو يراوده الأمل والحنين هل تسكن هنا؟ 

لايعرف بيتها ولم يرها منذ عدة سنوات، يتذكر لقاءهما الأخير عندما استقل التاكسي من العباسية إلي رمسيس حتي يلتقيها، لاحظ أن السائق يدير الكاسيت علي أغنية واحدة أغنية (هجرتك) لكوكب الشرق أم كلثوم ويدندن مع الست بكل جوارحه في تأثر غريب.

هجرتك يمكن أنسى هواك  

وأودع قلبك الآسي.

و قلت أقدر في يوم أسلاك

وأفضي من الهوا كاسي.

لقيت روحي في عز هواك

بفكر فيك و أنا ناسي.

وكان هجري عشان أنساك 

وأودع قلبك الآسي.

لقيت روحي في عز جفاك 

بفكر فيك و أنا ناسي.

وصبحت بين عقلي و قلبي 

تايه حيران.

قد يهمك ايضاً:

لاتدنو من مواجعنا

أقول لروحي من غلبي 

إنسى النسيان.

مادام بهجر عشان أنساك 

وأودع قلبك الآسي.

وأشوف روحي في عز جفاك 

بأفكر فيك و أنا ناسي.

العجيب كلما انتهت الأغنية يعيدها السائق ثانية، وفي كل مرة ومن فرط التأثر تخرج دموعه مصحوبة بتنهيدات تكاد تحرق الأخضر واليابس، لا يدري رغم حبه لأم كلثوم ولهذه الأغنية تحديدا التي يجتمع فيها العملاقان أحمد رامي والسنباطي لكنه تشاءم لأنه كان من النوع المؤمن بإشارات وعلامات القدر، ومما قوي هذا الحدس لديه أنه منذ لقائهما الأول كان هناك شيء يكدر صفوه فقد كان يشعر أن هناك سرا ما تخفيه يقف حائلا بينهما وأن هذا السر سيكتب نهاية غير سعيدة لهما، ولكنه قرر خوض التجربة حتي النهاية فهي تستحق فمن سيحظي بهذا القلب الأبيض الملائكي الشفاف فسيظفر بتأشيرة دخول لعالم السعادة، فارتجف بطريقة لاشعورية وأحس بأنها رسالة قدرية فقرر منذ هذه اللحظة تدريب نفسه علي الفراق.

كان في غاية الضيق يريد الوصول لرمسيس بأي ثمن للتخلص من هذا السائق العاشق الولهان الذي تَطَير منه، والخروج من هذا (المود) الكئيب وما أن وصل لرمسيس حتي نطق الشهادتين، وقبل أن يحاسب السائق سأله بداعي الفضول عن سبب إعادته لهذه الأغنية بهذا الشكل وبهذا التأثر؟ 

فقال له السائق: يابيه مش أي حد يفهم هذه الأغنية وتوصله معانيها إلا إللي هجره حبيبه، ده إحساس (ميفهموش) إلا إللي داقه، لن ينساه أبدا.

ياسلام!؟

أمال يابيه

إزاي يعني؟  

لأن الحبيب إللي بجد إللي بيحب من قلبه بيرفض فكرة النسيان من الأساس ومش معترف بيها والنبي يابيه متقلبش علينا المواجع”. 

هو أنت محتاج! 

فقهقه السائق وقهقه معه، ثم حاسب السائق وانصرف، وتوسط جلسة بين المترو ومسجد الفتح متلهفا (علي نار الشوق) في انتظار قدوم محبوبته، ينظر إلي كل وجوه النساء فيري صورة حبيبته فيهن، وعندما يستفيق يشيح بوجهه عنهن بسرعة منقطعة النظير وكأنه يعتذر لهن ويكاد يقسم لهن بأغلظ الأيمان والله لاأراكن بل أرها فيكن. 

أذن المؤذن لصلاة العصر فاتجه لمسجد الفتح ليصلي العصر جدد وضوءه وصلي العصر ثم خرج من المسجد لينظر في تليفونه المحمول الذي كتم صوته فوجد عدة مكالمات منها فحاول الاتصال بها ولكن دون جدوي، فاتجه إلي بائع الجرائد الكائن بجوار المسجد ليشتري جريدة الأهرام صحيفته المفضلة حتي يقتل الوقت فوجد بائع الجرائد رجلا أسمر بملامح نوبية أصيلة وقد نيف علي السبعين عاما يقلب في مؤشر راديو قديم ماركة (فيليبس) هولندي الصنع مغلف بصندوق خشبي كبير، بحق تحفة فنية رائعة، تبدو عليه أصالة زمن الفن الجميل، حتي خيل له أن عمالقة زمن الفن الجميل سيخرجون تباعا من هذا الراديو العتيق علي رأسهم أم كلثوم التي ستشدو بأغنية (هجرتك) التي غنتها علي مسرح الأزبكية الذي يبعد أمتارا قليلة عن رمسيس في ستينيات القرن المنصرم.

وأخيرا استقر علي إذاعة القرآن الكريم وصوت الشيخ عبد الباسط يصدح بهذه الأية الكريمة: وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ ۖ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا ۖ إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (30) سورة يوسف.

فأنصت مليا لهذه الآية الكريمة (قد شغفها حبا) إلي هذه الدرجة علق حب سيدنا يوسف بقلب زليخة امرأة عزيز مصر فصارت غافلة عن كلِّ شيءٍ إلا عن حبِّ يوسف، حتي اخترق جلد قلبها ليستقر بداخله، يالعظمة القرآن الكريم في وصفه لحنايا قلب زليخة وشبقها وعشقها لسيدنا يوسف، في قصة من أعظم القصص القرآني التي دارت في حواري مصر وأرجح الأقوال أن مسرحها كان يبعد عن هنا بحوالي عشرين كم بقرية العزيزية إحدي قري مركز البدرشين بمحافظة الجيزة، فانفرجت أساريره وعاوده التفاؤل من جديد. 

يضبط نفسه مبتسما بعدما سرح بخياله مسترجعا أجمل لحظاتهما معا عندما اتهمته بالمبالغة والجنون وسألته مستنكرة أكل هذا الهيام بعد عدة لقاءات لاتتجاوز أصابع اليد الواحدة يبدو أنك ستتغلب علي عاشق ليلي المجنون!؟

فأجابها بدقات قلبه: مثلكِ لاينسي بعد النظرة الأولي، حتي بعدما تفارقُ الروح الجسد فأنتِ الروح وتوأم القلب، دقات قلبي تغرد صباح مساء وتنطق باسمك، ويتلذذ قلبي بنطق حروف اسمك، فمنذ أن رأيتكِ أول مرة اضطرب قلبي وتلعثم لساني وتحجر جسدي وأصيب بالقشعريرة، فأخيرا وجدت لؤلؤتي، فسرت نشوة الحب والطمأنينة إلي قلبي فانتعشت أوصاله، ووجدتُ الحياة تدب فيه من جديد وقد ظننت أنه مات من اليأس ومل من البحث، من أجلكِ أنتِ فقط ياملهمتي عانقت الحياة من جديد، انتظرتكِ لسنوات وسنوات بحثت عنكِ في وجوه كل النساء، حتي المنتقبات منهن والمختمرات، كنت أشم فيهن رائحتكِ ولم أخجل من إجابتي عندما يندهشن من نظراتي لهن، فأخبرهن: عفوا فحبيبتي مرت بجواركن فطغي عبيرها علي المكان والزمان وطمس آثار عطرها وجوهكن”. 

غاروا من حبي لكِ واتهموني بالجنون ونعتوني بلقب عاشق ليلي الثاني المجنون، قلت لهن: عذرا فمن تجربتي وعلي حالي هذا فقيس معذور، ليت شعري يصف شَعْرَة فيها وإلا فأهلا بالجنون”.

التعليقات مغلقة.