مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

صدى الأيام الغامض رواية تفك شفرة النوستالوجيا العربية

3

ما بين زواج الدارسين بالخارج، حكايات طلاب البعثات العربية، الهويات الممزقة بين العالم العربي الساكن في الأعماق، والغرب الباهر في لمعته الخاطفة، يبدع خليل الزيني روايته “صدى الأيام الغامض”، ويبحر بالقارئ في عالم الإغتراب والنشوة .

بقلم – رابعة الختام:

من السهل على كاتب محترف أن يكتب رواية متكاملة العناصر، وقد تكون ناجحة ومقروءة، لكن من الصعب أن يقدم قطعا من روحه، شقفا من قلبه، أن يصطحبك إلى داخله، لتقرأ أعماقه وعالمه  الخاص، أن تبحر في قلبه وتستطيع التعرف على ما يدور في عقله الباطن، وهذا ما قدمه الكاتب المصري خليل الزيني في روايته الإنسانية، تحت عنوان “صدى الأيام الغامض”.

علاقة إنسانية شديدة التشابكية والتعقيد من خلال سرد نابض بالحياة، لـ”عمر” شاب في مقتبل حياته، سافر ضمن طلاب البعثات التعليمية لألمانيا، يتعرف على مشرفة البعثة الدراسية، متفجرة الأنوثة والوعي “سوناتا”، زوجة معلقة لزوج هارب من زواج شرعي، فر من مسؤوليات الزواج الرسمي لعلاقات غير رسمية لا تفرض قيودا محددة، بعدما أدرك أن إمرأة واحدة في زواج رسمي لا تكفي،  ثمة قصة حب تنشأ بين طالب الدراسات العليا في الهندسة في البعثة المصرية، وبين مسؤولة البعثة بالجامعة الألمانية.

تتوالى الأحداث بطريقة سلسة، تأخذ القارئ في رحلة طويلة بين مصر وألمانيا، تكشف بعد المسافة بين البلدين ليس في الجغرافيا فقط، لكن في التعاطي الواعي بين المعاش، والمراد الوصول إليه، بين الواقع والمأمول، مساحة من الإغتراب لا يمكن ملؤوها بسهولة، غربة الوطن في صورته الشاحبة، الشائخة في مقارنتها الظالمة، المحكومة سلفا لصالح الغرب الباهر، في قوة وعنفوان إقتصاده وتكنولوجياته المتطورة، في مواجهة إغتراب اللحظة الراهنة، دون العيش على أطلال حضارة آفلة.

حديث الألوان

يأسرك الزيني ويؤثر فيك بمناظر طبيعية خلابة تزخر بالحضارة والطبيعة معا، حين تهذب التطور الطبيعة فتنشأ لوحات أكثر إبداعا، من البدائية الشاحبة، يرسم الأماكن بريشة فنان يعطي للألوان حقها، غير أن الأسود الحالك يطل من بعض مواقف تمثل بؤسا لا يستهان به. تستطيع وبسهولة فائقة أن تدرك معاني الحديث الصامت بين الألوان.

عالم مملوء بالمتناقضات ذلك العالم الذي غاص فيه الروائي خليل الزيني باحثا عن مثالية مفقودة تملأ قلوب شباب باحثين عن مجتمعات بلا قيود، أوربا الساكنة في عروق مهووسون بالألق والتأنق في بلاد الثلج.

فكرة التحرر من معطيات الشرق وقيوده وتعاليمه قد تشغل بال كثيرين وتشعل حماسهم لشد الرحال لبلاد الجليد، خاصة شباب طامح في التحقق وإثبات الذات، لكنها بالطبع ليست كل المغريات التي تشفع لهذا العالم الباهر، ولكنها محرك وازن بقوة.

يلقي الكاتب الضوء بشمولية على المشهد السياسي لتلك الحقبة الزمنية التي عقبت حرب أكتوبر في مصر، وما تلا فترة هزيمة يونيو والإنكسار الشعبي المصاحب لها إثر تجميد كل المشاريع الوطنية حتى العلاقات الإنسانية تجمدت، مرارة الهزيمة التي محت عارها طبول الحرب.

صدى الأيام الغامض

ذبح السياف

يقول نصا (سكتت المدافع ولزم الجنود الثكنات، لقد أدى الكبار عنا ضريبة الدم، ذبحوا السياف، فسقطت عن رقابنا سكين القتال، لقد بدأت تعود الأرض، وتستطع شمس العمران، ويتمايل نخيل الحرية، وتفتحت الأزهار، ومنها زهرة الشتات، زهرة سوداء عفنة لا تدرك كيف تنمو سريعا، وعلى حين غرة).  والمشهد الإجتماعي بتغيراته وحراكه الكبير، وكذلك المشهد الطلابي لعالمهم الداخلي شديد الخصوصية، تفاصيل متزاحمة، لا تفتقر للزخرفة اللغوية كلما تطلب الأمر هذا، بلا تكلف أو إصطناع.

تسير الرواية في إطار غير مألوف من الأحداث، إذ تميل للسيجال الدائم بين بطليها في العلاقة الشائكة بين الغرب المنفتح في علاقات أبنائه وبريق نسائه، وحالة الرفاهية والبزخ الثقافي والمادي، والشرق المحافظ وتعاليمه المقدسة المستمدة من تعاليم السماء.

قد يهمك ايضاً:

مهرجان دبي للكوميديا 2024 يستضيف مجموعة جديدة من نجوم…

تعاون استثنائي بين “دو” و”شاهد”…

يتحدث بسلاسة بعيدا عن الأصولية المتشددة ومحاولات فرض إثبات وجهات النظر بعضلات فكرية محتقنة، ويواجه الحداثة بموروث ثقافي مرن يقبل الأخر ويذوب مع أفضل ما عنده حتى تلك المرونة التي يتبناها الكاتب في وصف العلاقات بين طلاب بعثات البلد الواحد تؤكد على نضج فكري بناء في التعاضد مع شركاء الوطن حين تجمعهم الظروف بعيدا عنه.

مثالية  مفرطة

كما كشفت الرواية عن نظرة إنبهار طافحة في عيون بعض أهل الغرب الواعي المتفتح لأهل الشرق وسحرهم المكنون في إحترام عاداتهم وتقاليد بلادهم، وموروثاتهم الثقافية، الأخلاقية والعقائدية، دون مساس بحريات الأخرين.

قد يكون قدم نموذجا يميل للمثالية المفرطة بعض الشئ  عبر شخصية عمر المحورية التي لم تتقبل الخطأ ولم تقع في شرك النظرة المندهشة لنساء أوربا، ذلك الذي يبدو وكأنما يعتلي منصة الوعظ في مواقف عديدة، إلا أن هذه الشخصية تحديدا أحدثت توازنا بين الشخصيات.

مر على الحالة النفسية المتشابكة الأطراف وغاص في إرتباك الفترة الأولى في حياة طالب مغترب مسافر إلى بلاد باهرة، واصفا الدهشة التي تجتاحه في التصادم الحضاري وتغييرات الطقس البارد ما بين حضارتين تختلفان إختلافا جذريا وطقسين كلا منهما يعاند الآخر.

في مقارنة عميقة بين عادات وتقاليد أبناء بلاد الشمس، وأبناء وثمرات بلاد الثلج، قال واصفا  سوناتا، كانت تتكلم بشكل كأنها في بداية الطريق للثمل “السكر”، لقد إهتزت وهي واقفة، إقتربت منها وسحبت كوبها وأنا ألومها لأنها ستقسد ظني بها، هنا إقتربت أكثر مما يجب، وألقت بنفسها على صدري كأنها غير مقصودة، تلقيتها بشفقة ورفق، كادت أن تبكي ضحكا.

هل تظن أنها إنتصرت علي بسلطان جسدها؟ بدأت تردد بعض الجمل الغريبة.

عمق النظرة إلى الشعور الإنساني الدافق أثرى الرواية وجعل منها سردية مشحونة بمشاعر مدهشة  وطاقة كبيرة من الروعة والأنس تتلمسها في كل كلمة وفصل من فصولها

كتابة فلسفية

يحسب للزيني كونه أحد أبناء الوهج الثقافي والفكري، وفترة الثراء المعرفي حين كانت المكتبات المنزلية دعامات لتشكيل الوعي والوجدان وبلورة الشخصية في سنوات بنائها المعرفي الأولية، فكانت الكتابة تميل لفلسفة بعض المشاهد الروائية فتضفي عليها نظرة معاندة لسلالة السرد، نظرة إعتراضية توقف القارئ للتفكير فيما وراء المعنى.

تحدث عن ضحايا التقدم الباذخ من أبناء مجتمع الوفرة في عبارات مقتضبة، صارخة، قوية في شخصية “ليندا” الثانوية التي عرج عليها عروجا سريعا لكنها رغم هذا الإقتضاب تركت بصمة واضحة في صورة مهزومة لنفوس لم تدرك قيمة التقدم ولا معنى الحرية فسقطت في قاع الملذات دون وعي، تتقلب بين الرجال لا ترسو على شاطئ، وحين تسأم كثرة العلاقات الفاشلة تغيب عقلها بوهم المخدرات.

تصاب بذلك الرعب القاتل الجديد، “الإيدز”  ولا تدري أهو من ممارساتها الجنسية الشرهة وغير المحسوبة، أم من إدمانها للمخدرات، أم كلاهما معا.

ورغم الأسطر القليلة التي منحها لشخصية ليندا إلا أنها كانت أكثر تأثيرا من شخصيات أخرى نالت مساحة فسيحة وتأثيرا محدودا في بناء النص، وتحديد شكل الشخصيات.

النص برمته يحمل معاني عميقة، مصاغة بأسلوب بلاغي بسيط، بعيدا عن التكلف اللغوي المستغلق على الفهم.

اترك رد