مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

صافرة انذار

6

بقلم -محمد الوهبي

أطفأ المذياع، في حنق..لازال صوت صافرة الانذار

يدوي دون انقطاع، كأنه ساعة اخرى اضيفت جنب

الساعة المعروفة التي لاتكفي في هكذا اوقات.! شغله

من جديد، مرغما، لكن دون ان يأمل هذه المرة في

سماع نبإ طال انتظاره، عن انفراج الخطر الوشيك

الذي حط كزمهرير رعب لاينقطع. فقط فضل صوت

انذار عبر الاثير، على صافرة مجنونة تجأر كرعد

متواصل قبل انفجار الخطر. فالمذياع لايفتأ يحذر،

عقب كل وصلة اشهارية، من الاحتمال الوشيك

لاستيقاظ خلية نائمة، ستصدر اشعاعات قاتلة، حال

ان تفتح عيونها وتشرع في الانشطار.! لهذا لم يجد

بدا، كغيره، سوى الإلتجاء الى براكته على ارضية

عمارة قيد البناء، كحارس لمواد البناء بعد ان اختبأ

الباقي في حجورهم. لم يكن امامه سوى ان يُحكم غلق

المنافذ والثقوب في براكته القصديرية التي لايملك

ملاذا سواها، وهو يرى الناس يتدافعون كجرذان داهمها

في لحظة قيلولة سرب من القطط، وان يتمون بما هو

ضروري، ريثما ينجلي الخطر وتهدأ القلوب.! لكن

الخطر الغامض المعلق فوق الرؤوس كسقف على وشك

الانهيار، لم يقع بعد ولم يزُل بعد، وطال الانتظار

المترنح فوق حبل يرتجف، وصار صوت الصافرة عويلا

لاينقطع، حتى اصبح يحسب كل هبة ريح في الشارع

الخالي، بداية تحقق الخطر.!

صحيح، انه سمع في نشرات الاخبار المستنفرة

كاشواك القنفذ، عن اطلاق رقم هاتفي اخضر يتيح

للناس طلب مايحتاجونه من مؤن من الجهات المسؤولة

عن تلقي الطلبات، وسيتكفل الجنود بتوزيعها على

البيوت الموصدة، وما عليك سوى ان تدفع سواء من

رصيدك في البنك او مباشرة حال استلام البضاعة

وبالسرعة المطلوبة، فالمخازن والمستودعات تمتلأ

بالسلع، لهذا لاضير إن توقفت عجلة الانتاج مؤقتا،

بانتظار جلاء الخطر المتربص.! لكنه لايملك سنتيما في

البنك. والمبلغ الهزيل في جيبه من عمله المياوم لم يعد

يكفي إلا لمدة قصيرة.! قد تشمله المساعدات الانسانية

التي سمعهم في المذياع يعدون المحتاجين بها، بعد ان

يُعِدوا سجلا دقيقا باسمائهم، ومن يدري.!؟ إنه رهينة

بين قضبان خطر وشيك، والمفتاح في يدهم.! لقد

تأخروا ، حتى ظن انهم لن يلبوا طلبه، في المرة

الاخيرة لما طلب بضع حاجيات وعلب تبغ.! يعرف ان

البراكة أحط في عيونهم من عمارة انيقة، وانهم قد

يتجاهلون وجوده بالمرة، الى ان ينفق كشاة عالقة في

قد يهمك ايضاً:

أهيم بطيفك

حبلها.! لكن الذي يقلقه اكثر، ويجعل عويل صافرة

الانذار في نبضات قلبه اكثر وطأة، ليس اليوم الذي

ينفق آخر سنتيم في جيبه، اذا استمر الخطر كصرخة

عالقة، وتغمر الظلمة براكته، بعد انطفاء آخر شمعة

وآخر لقمة وآخر سيجارة، بل الرائحة الكريهة

المتصاعدة بلا انقطاع، والتي تكاد تخنقه اكثر من

قبضة الخطر الضاغطة على انفاسه قبل قرارها

الاخير، الرائحة التي لم يتحسب لها وهو يهرول الى

مخبإه، وكيف يتحسب لها هو الذي اعتقد ان الخطر

طارئ لن يطول إلا اياما معدودة، لكنه تمطط اسابيعا

ولازال.! كان مستحيلا عليه ان يهيء مرحاضا في

براكته على عجل، لهذا لم يتعثر بالمشكلة، إلا حين

امتلأت امعاؤه بالفضلات التي اندفعت لتخرج برازا. ظل

لمدة كدركي يقف على حركة سير امعائه، ويمنع

مرور الفضلات الى محطتها الاخيرة، حتى كادت تنفجر

بطنه، قبل انفجار او انفراج الخطر.! لم يجد ملاذا غير

كيس” ميكة” صغير قضى فيه حاجته مرات، بعد ان

يبول من فتحة صغيرة كانبوب في ارضية البراكة هي

منفذ الماء المستعمل من مؤونته المائية في برميل

متوسط سينفذ حتما إن طال هذا الوضع الاستثنائي

وصار قاعدة استثنائية.! وهاهو الكيس قد امتلأ، حتى

كاد يفيض بالبراز، وامتلأت معه البراكة برائحة كريهة

تحتد مع احترار قصديرها تحت شمس النهار، وماعادت

محتملة. كما صارت الحاجة ماسة ” لميكة” اخرى

للبراز القادم، لكن كيف.!؟ خصوصا وان ” الميكة” بعد

( زيرو ميكة) ، قد صارت تباع كمادة ممنوعة، لكن

موجودة، وبثمن اغلى. صحيح، انه يمكن ان يدفع

رشوة سمينة، إذا استطاع الى ذلك سبيلا، ويحصل

على ” الميكة”. لكن المبلغ الهزيل الذي في جيبه

لايكفي.! لهذا فكر في التخلص من كيس ” الميكة”

الممتلأة برازا ورائحة، عبر المغامرة بالتسلل والخروج

لأجل إفراغها في اقرب مكان ممكن، وأعادة استعمالها

مرة اخرى. فالرائحة التي ستخنقه قبل انجلاء الخطر،

كانت تتغلب في نفسه على الخوف، وتدفعه الى

المجازفة.! لذلك لم يتخيل انه سيسير ، بعد ان يتسلل

من براكته محاذرا ان يصدر اخفت صوت، بضعة امتار،

ليسمع صوتا آمرا غليظا يصيح وراءه : –

قف..!

وانه سينظر ، بخجل اقسى من الخوف، الى ” الميكة”

القذرة كالجيفة في يده..ثم سيطلق قدميه الفازعتين

للهرب دون ان يلوي على اي اتجاه.! بعدها ستسمع

طلقة..فصرخة سرعان ماستختفي كقطرة ماء في بحرٍ

من عويل صافرة انذار لاتتوقف.!

اترك رد