مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

رسالة اعتذار “قصة قصيرة”

5

بقلم – الطيب جامعى:

في شارع خلفيّ تنتصب عمارة الحاج “عيسى”، أحد الأعيان الذين ما فتئت عماراتهم تربو في هذه الآونة الأخيرة هنا و هناك، يدّعي أنّه يساعد الفقراء و المساكين، فقد كان يزعم أنّه يعاملهم معاملة خاصة، فلا يتشدّد في مواعيد قبض معاليم الكراء، و كثيرا ما يمهل أحدهم إلى الشّهر القادم. لُقِّب بـ”الحاج”لوضعه المتواصل الطّربوش على عادة كبار السّنّ، و هو مازال بعدُ في أواسط العمر.

غير أنّ للحاج “عيسى” نقطة ضعف:حساسيته المفرطة تجاه طائفة معيّنة من أفراد المجتمع. فهو يكره الشحّاذين و المتشردين… يعتقد أن لا فائدة لهؤلاء، فكثيرا ما يردّد أنّهم مجرّد عالة على المجتمع وجب التخلّص منهم أو التّحجير عليه، كأنّهم مرضى الطّاعون. فما أن يرى أحدهم قرب العمارة حتّى يخلع جبة ” الحاج” بما فيها من عطف و طيبة… و تتغّير سحنته و نبرة حديثه، و يغلظ في القول، و يجهر بالسّباب… ثمّ يمعن في طرده، و يلجّ في ذلك حتّى يتباعد المسكين عن العمارة كسير الخاطر.

التقيته يوما خارجا من العمارة، و كنت يومها قد أمضيت اللّيلة عند أحد الأصدقاء، و كان يسكن الدّور الثّاني. كانت العمارة جديدة شبه فارغة. و قد كان “الحاجّ ” يسكن في الدّور الأوّل مع عائلته المتكوّنة من طفلين: أحدهما رامي، مازال رضيعا، أمّا الثّاني فرمزي ، و قد تخطّى السّنة الثّانية من عمره بقليل، إضافة إلى زوجته و أمّه المقعدة منذ سنين.
و أنا أهمّ بوضع ساقي على آخر درجة لاحظت شيئا مكوّرا تحت سلّم العمارة استفزّني، و أثار فضولي. قلت له:” وما عسى أن يكون هذا الـ…”.
لم يمهلني أُتِمّ كلامي. انقضّ كالكاسر على ذلك الجسم شاتما، لاعنا، راكلا. فتدبّ في الجسم الغريب حركة، و يأخذ في التّمدّد و الاضطراب و الاهتزاز كمن به مسّ من الجنون، و يُسمَع له آهات و أنين متقطّع تنفطر له القلوب الرّهيفة. لم أحتمل الموقف. أسرعت أباعد بينهما مواسيا ذلك الجسم الغريب الذي انتصب، فأضحى كهلا أربعينيّا يتحرّك بصعوبة، فيما بقي الحاج “عيسى” يُرعِد و يُزبٍد و كأنّه يندب:” حثالة…عديم الفائدة … يا لَحَظِّي !! … يا لَحَظِّي !!… يريدون قطع أرزاقي… ”
هدّأت القليل من هيجانه، و قلت مواسيا و معاتبا:” هوّن عليك. و لمَ كلّ هذه القسوة؟ أ ولا ترى ما عليه المسكين من سوء الحال و الهوان؟”، ثمّ أضفت:” كلّ مخلوق له حكمة في خلقه و رسالة يؤدّيها في هذا الوجود”. و ما أن سمع ” الحاج” هذه الكلمة حتّى احمرّت عيناه، و نظر إليّ نظرات خلتها للوهلة الأولى خناجر ستغوص عميقا في كياني، وبصوت كأنّه آت من غيابة جبّ صاح مضطربا وهو ينتفض:
– رسالة؟ … عن أيّة رسالة تتحدّث؟ أ و لهؤلاء الهمل رسالة و حكمة؟
– لكلّ مخلوق مهما ارتفع شأنه أو قلّ حكمة و رسائل هو مؤدّيها، و إن كنّا لا ندري ما هي أحيانا، و لا يجلّيها الله إلا لساعتها.
لا أدري إن كنت مقتنعا بما أقول أو لا. فقد كنت في الواقع أردّد ما كان شيخنا الفاضل يردّده على مسامعنا لمّا كنا طلّابا لديه. غير أنّه كان يحزّ في نفسي شديدا ما كان يقوم به “الحاج” و أكرهه إلى حدّ التقزّز.

قد يهمك ايضاً:

مهرجان دبي للكوميديا 2024 يستضيف مجموعة جديدة من نجوم…

تعاون استثنائي بين “دو” و”شاهد”…

علمت في ما بعدُ أنّه ” محمّد”، أحد الذين أتوا من حيّ بعيد، متوسّط القامة ، نحيف، قد لعب شظف العيش بملامح وجهه، ففعل فيه الأفاعيل، ضامر، تراه متمنطقا بحزام يشدّ وسطه و يكاد يشقّه نصفين، لا يُعرف له أصل و لا حتّى اسم. العمّ “صالح” أطلق عليه هذا الاسم جزافا. لم يفكّروا في تقصّي أثره، ربّما لأنّه مسالم و لم يُؤْذِ أحدا. أدارت له الدّنيا ظهر المجنّ. عاش فقيرا يتسوّل المارة أطراف النّهار، و عند سؤاله كان يتلطّف، فلا يسأل النّاس إلحافا كما يفعل معظم الشحّاذين في حيّنا. ثمّ آناء اللّيل يأوي إلى أيّ مكان مثل ذلك التّجويف يريح جسمه المتهالك أصلا. أحد السكّان ذكر بأنّه رآه عدّة مرّات هذه الأيّام متّخذا أسفل السّلم مسكنا في غفلة من صاحب العمارة. و الحقّ أَنْ لا أحد من المتساكنين أظهر ضيقا أو تبرّما. بل وجد كلّ التّعاطف و التّفهّم. و كثيرا ما جاد عليه أحدهم ببعض طعام أو لباس، فاطمأنّ إليهم و أنس بهم.
و تمضي الأيّام… و قد نسيت الحكاية، و لم يصادف أن جاء ذكر “محّمد” في حديثنا حتّى أتى ذلك اليوم …

كنت و الحاج “عيسى” عائدين و قد انتصف النّهار أو كاد. و إذا بهرج و مرج أمام عمارته… أسرعنا الخطى مستعجلين استطلاع الأمر. و إذا بصديقي ممسك بزوجة “الحاج”، يمنعها من الولوج إلى الدّاخل، و إذا بدخان حالك ينزل كثيفا مع درجات السلّم فيطمس الرّؤية. ويتذكر الحاج “عيسى” طفليه و أمّه المقعدة، فيفور الدّم في عروقه، ويجنّ جنونه. ينطلق سريعا يريد شقّ الصّفوف إلى الدّاخل، إلى الدّور الأول حيث يسكن، فيُمنَع أيضا من طرف أحد الحاضرين. ففي الأمر مجازفة و خطر محدقان. حينئذ يأخذ في الصّياح و إحداث الهرج، فيُطمئِنه جارٌ له بقرب وصول الحماية المدنيّة، فيهدأ قليلا… ثمّ يتناهى إلى مسمعه صوت ألفه كثيرا و لا يمكن أن تخطئه أذناه آتيا من ناحية أخرى: صوت أمّه و هي تئنّ و تتوجّع. يلتفّ. يسرع إلى حيث الصّوت، فإذا به يرى أمّه و قد كساها اللّون الرّمادي الغامق، تمسح وجهها بكمّها تزيل غشاوة عن عينيها. تهالك عليها يقبّلها و لسانه يلجلج ببضع كلمات غير مفهومة…

خمس دقائق مرّت على الحاضرين كالدّهر ثقلا و وطأة قبل أن تصل فرق الحماية لإطفاء الحريق الذي شب في الدّور الأوّل حيث يسكن الحاج “عيسى” لأسباب مجهولة. قبل قليل تفطنّ أحد الجيران إلى دخانٍ أسودَ كثيفٍ يطلّ من النّافذة، فيهرع إلى المكان بسرعة. لمْ يتمكّن من ارتقاء السّلّم، فأخذ يصيح و يستصرخ بقيّة الجيران. كانت العمارة في ذلك الوقت خالية تقريبا. فصديقي لم يعد بعد من العمل، و زوجة “الحاج” نزلت لقضاء بعض الشّؤون الخاصة من المحلّات القريبة، و لم تعد إلّا الآن، فقط الطّفلان و جدّتهما المقعدة في الدّاخل.
مع وصول الحماية و تأهّب الرّجال لتوصيل خراطيم المياه لُوحِظ شبح يتحرّك نزولا و قد أخذ منه السّعال كلّ مأخذ. يتلقّفه الأعوان، يسندونه و يستلمون منه شيئين مكوّرين تحت إبطيه، و يسرعون إلى حافلة الإسعاف. هناك يميطون لثام الدّخان عن وجهين نضرين كادت النيران أن تأتي عليهما: رامي و رمزي.
و ينتبه “الحاجّ ” لذلك، فيسرع إلى الممرّضين يستجلي حقيقة الأمور. يطمئنّ على صحّتيهما… يستعيد بعض الوعي و يتذكّر الشّبح النّازل بهما من أعلى. يهرع إلى المدخل و رغبة جامحة تهزّه هزّا للتّعرّف إليه و شكره على صنيعه.
ألفاه قد امتدّت رجلاه إلى الأمام، فيما مال بكامل جذعه إلى الوراء مستندا إلى يديه الكالحتين و صدره يرتفع و ينخفض. يدور نصف دورة و يقابله من الأمام، فتجحظ عينا “الحاج” و يتجمّد الدّم في عروقه…

أيتقدّم أو يقرّ في مكانه؟ أ أيحزن أم يفرح؟ أ يواسي أم يشكر؟ ضاعت البوصلة و لم يدر ما يفعل، هاله الموقف و تلك الابتسامة على شفتيه حتّى في أحلك الظروف.
ظلّ متسمّرا، فيتداركه العمّ “صالح” أحد جيرانه. قال و هو يربّت على كتفيه مهنّئا و في نبرته شيء من العتاب:” حمدا لله على السّلامة. أ لا يجدر بك أن تشكره؟ لقد أنقذ أمّك و ابنيك… لم يكن أحد وقت نشوب الحريق عداه، كان المسكين متكوّرا خلف سلّم العمارة كدأبه كلّ مرّة. و لمّا سمع استغاثة “الحاجة” و صياح الصّغيرين لم يتردّد، صعد مباشرة إلى الدّور الأول متحاملا على ما في نفسه من آلام و جراح. أنقذ أمّك أوّلا، وكابد في ذلك أيّما مكابدة، ثمّ عاد و تحامل على نفسه رغم الموت المتربّص، و صمّم على إنقاذ الصغيرين كلّفه ذلك ما كلّفه. الحقّ أنّه لا أحد منّا تجرّأ على القيام بذلك. لقد كان بطلا خرافيّا”.

و هو ينحني على ” محمّد ” يقبّله لم يتفوّه ببنت شفة. فقط فسح لمداد عينيه الذابلتين المجال ليخطّ رسالة اعتذار طويلة حتّى تبلّل عثنونه، فسقطت بعض العبرات راسمة ثنايا بيضاء على صفحة خدّين كالحين كادا يتفحمان.
— انتهت —

 

اترك رد