مصر البلد الاخبارية
جريدة - راديو - تليفزيون

جمل المحمل في شيكاغو

8

بقلم الكاتب الصحفي والروائي: محمد حسن حمادة.

المدينة التى ولدت من رحم النار والرماد.

  الحلقة الأولى.

  أسطورة بقرة السيدة أوليري.

حدثوني كثيرا عن حانات شيكاغو وباراتها وحاولوا جذبي لحانة التعري لأرى النهود ذات الحلمات الوردية والأرداف البيضاء الطرية والخسر المشتعل الذي تجتمع على محيطه الذكور والقوام الملفوف بختم فينوس آلهة الجمال الإغريقية، أغروني كثيرا بهذا الجسد المنحوت الذى يقطر لبنا ويفيض عسلا ويتفجر بالأنوثة الكاملة والشفاه الحمراء التي تلهب قلوب الرجال، زعموا أنني سأرى الحور العين وسأعاين الجنة الموعودة على الأرض، ورغم ذلك فشلوا في إثارة شهوتي فلست من عشاق السلعة الرخيصة التى تباع وتشترى في سوق الرقيق، فالمرأة عندي جوهرة مكنونة ولؤلؤة مصونة بقدر سترها لجسدها وجمالها تزداد عفتها وترتفع قيمتها، هل تعلم ياسيدي أن زوجتي في القاهرة ترتدي نقابا وجلبابا فضفاضا متعمدة إخفاء أنوثتها كان حلمي قبل أن أتزوجها أن أرى خصلة من شعرها، تواعدنا أنا وهي ذات يوم كانت الرياح شديدة عاتية ألصقت الجلباب بجسدها وأزاحت مقدمة النقاب عن مفرق رأسها فتكشفت بعض شعيراتها وهي خجلة مني وأنا حبيبها! كنت متلذذا بحمرة وجهها ومن بكارة إحساسها كانت كبئر انفجر ماؤه فزاد رواؤه بل بحر هادر ثائر يقتحمكَ وأنت على الشاطئ لتدخل محرابه وتسبح عنوة في مياهه، شتان بين امرأة تستوطن في القلب وأخرى تسكن في المنطقة السفلية من الجسد سرعان ما تحتقرها بعد أول قطرة من منيكَ وبعد تمام الإنزال تركلها بقدمكَ وتضعها في سلة المهملات وتود لو طعنتها بسكين حتى تتخلص من آثام هذه المومس التي قادتكَ لحانتها القذرة، وبسببها رجموكَ بحصى من سجيل ونعتوكَ بابن العاهرة رغم أنهم لايختلفون عنكَ كثيرا فجميعكم بالليل يتصارع على ذات المرأة اللعوب وتنامون في نفس الفراش الوثير دون حتى أن تنتظروا جفاف السائل الأبيض من على فرجها، هذا هو الفارق ياسيدي بين شيكاغو والقاهرة، فقاهرتي تتشح بالفضيلة ومدينتكم تغرق في بحور الرذيلة مدينتكم ديدنها التعري وتفتح أبوابها لكل شاذ أما قاهرتي فدينها الطهر والعفاف لاتترك جسدها إلا لحبيب واحد، لم أثق بكَ أبدا ياسيدي فأنتَ بالنسبة لي قواد مقامر أعلم حقيقته من الداخل، مجرد وكيلا حصريا عن الشيطان مهمتكَ الأولى التفنن في إظهار تفاصيل جسد المرأة وتعريتها وكلما نجحت في كشف عورتها صفق لكَ الجمهور ودفع لكَ بسخاء، أنت تبحث عن الشهرة والمال والمجد الشخصي، لاتري إلا نفسكَ وعظمتكَ وكبرياؤكَ تريد فقط تخليد اسمكَ وأن يكون اسم (جورج بنجالوس) فوق الجميع، لاتهمكَ الوسيلة، مادامت النتيجة ستفضي لتكدس الأموال، فشيكاغو بالنسبة لي امرأة سيئة السمعة حاولت معي مرارا وتكرارا جذبي لأحضانها كعادتها مع كل وافد ولكن العرق الذي كان يتصبب من تحت إبطها الممزوج برائحة الخمور النجسة التى تخرج من فمها كان يشي لي بعشاقها الذين ضاجعوها من قبلي فأتأفف منها وأستعيذ بربي من هذا الشيطان الرجيم، لاأنكر أنها في البداية بهرتني بأضوائها ولكن بعدما عشت فيها وعاشرتها عرفت حقيقتها ولم تنطل عليً كذبتها، كنت أتصور أنني عندما سأطأ هذه البلاد سأصاب بلوثة عقلية جراء ما كنت أحسبه صدمة حضارية لصالحكم تأهبت لهذا الأمر كثيرا وحاولت ترويض نفسي حتى أتأقلم سريعا ولكني وجدت العكس فالتحضر لايقاس بالبنايات الضخمة التى تبهر الناظرين بل بعدة مقاييس أهمها التجانس والسلام الداخلي، لا أنكر أنني ذُهلت عندما شاهدت بناء شركة (هوم إنشورانس) والتي صنفت بأنها أول ناطحة سحاب في العالم، ولكن عندما قارنتها بالأهرامات زالت دهشتي

قد يهمك ايضاً:

الكيلاني وشوشه يشهدان احتفالية “تحرير سيناء”…

” الفتيات الفاتنات ” قصة قصيرة

فهكذا حضارتكم مثل الآلة التى تعمل بشكل أتوماتيكي متبلدة الروح والإحساس، ضوء لامع مبهرج يشبه الضباب ومن ثم لافائدة مرجوة منه، فجمل المحمل لا يستطيع التأقلم في بيئتكم وكسوة الكعبة المشرفة لن تهاجر مكة وتستوطن شيكاغو لقد كفرتُ بالحلم الأميركي ولم أعد أتحمل البقاء في هذه المدينة الصماء التي لاتمت لي بصلة بل أعلن براءتي منها كبراءة الذئب من دم ابن يعقوب وعلى ذكر سيدنا يعقوب، بالمناسبة يا(سولومون ليفي) يامن احتضنتكَ القاهرة وعشت في كنفها كواحد من أهلها والآن تتنصل من الانتماء إليها وتسعى لتشويهها وتنفس عن وجهكَ القبيح وتشارك في هذا الجُرم، حذار طيلة بقائي هنا أن تُدلي للزوار بمعلومات مغلوطة عن القاهرة، مباركَ عليكَ شيكاغو وطنكَ الجديد الذي انتسبت إليه تشبهه كما يشبهكَ، وتستحقه كما يستحقكَ 

هل تعلم يا(سولومون ليفى) لماذا سميت شيكاغو بهذا الاسم؟ نسبة إلى السكان الأصليين أي (shikaawka) شيكاوكا

وهي إحدى اللغات التي كان يتحدث بها الهنود الحمر ومعناها (الرائحة القوية) فالمكان الذي تشغله المدينة حاليا كان في الأصل حقولا شاسعة خصصها الهنود الحمر لزراعة البصل الذي تسببت رائحته النفاذة في هذا الاسم، فهذا البلد وأد فلذة كبده وقتل سكانه الأصليون وأباد الهنود الحمر فلن تكون أغلى عليه من بنيه! كما قتل ملايين الزنوج الأفارقة، هنا وطن المستعمر الأبيض أما الملونون فهم مجرد ديكور وأداة لتجميل وتحسين الواقع الأليم لإغراء أمثالكَ الذين لانعرف لهم وطنا، لن يأويكَ هذا البلد كثيرا كما آوت مصر يوسف وأبيه يعقوب عليهما السلام، في النهاية مصيركم متوقع ستخونوه كعادتكم بعدما تمتصون رحيقه كما خنتم مصر وكما خان يهوذا المسيح مقابل ثلاثين من الفضة، رغم أنه كان بمثابة وزير مالية المسيح، ومحل ثقته، مثلكم تماما الآن، يثقون بكم ويفسحون لكم الطريق، تأكد يا(سولومون ليفي) أن سحر السامري لن يستمر إلى الأبد سواء هنا أو خارج هنا، اشتقت إلى الأصل ولم تعد صورة هذه المدينة التى شيدتموها كنسخة مزيفة ونموذج محاكاة من القاهرة تستهويني، يلتفت الشيخ عبدالهادي (لماكس) هيرز المهندس المعماري الذي كان مسئولا عن دار حفظ الآثار العربية بالقاهرة، ومصمم الجناح المصري بشيكاغو: لاتظن ياهيرز: أن هذه المجسمات التي شيدتها كصورة طبق الأصل من مباني القاهرة الإسلامية على غرار شارع المعز والذي يضم هذا المسجد الذي أتولى إمامته ظنا منكَ أنه يشبه مسجد قايتباي ومئذنتة تشبه مئذنة مسجد أبو بكر مزهر بحارة برجوان وهذا القصر الذي أقمته على غرار قصر جمال الدين الذهبي على الطراز العثمانلي وهذا السبيل الذي تتفاخر بأنه صورة طبق الأصل من سبيل عبدالرحمن كتخدا بشارع المعز بالقاهرة كل هذه المنازل والمقاهي والمحلات التجارية ونافورة المياه هذه وهذا الضريح كلها مستنسخات من الأصل ومهما كانت الصورة جميلة فالأصل أجمل بمراحل، لقد شوهت جمال بلادي وعظمة حضارتها ونقلت صورة مغلوطة عن الشعب المصري، سأغادر شيكاغو إلى قاهرتي الحقيقية التى تشبه حبيبتي كلاهما وطني أشم فيهما عبق جذوري، فحنيني لروائح المسك والعنبر بخان الخليلي يشبه دخان غليونكَ ياخواجة إدمان يسري في الدم وكلما بعدت يجذبني عطر القاهرة فأستسلم لإغوائها، وأخيرا وبهدوء شديد ينهض (جورج بنجالوس) من مقعده وهو يدخن غليونه ويتوجه للشيخ عبدالهادي: على رسلكَ أيها الشيخ ولاتقلل من نجاح المعرض أنظر إلى هذا الزحام الشديد أكثر من مليوني زائر زاروا الجناح المصري بفضل أفكاري، وبسببي أصبحت بلدكم محط أنظار العالم، الصحف الأمريكية تغطي الجناح المصري وتهتم به دون غيره وتفرد لأدق تفاصيله مساحات واسعة ومانشيتات عريضة في صدر صفحاتها، لاأبالي بوجهة نظركَ عني ولن أرد على اتهاماتكَ أنا هنا لأخبركَ ياشيخ عبدالهادي أنني أريدكَ أن تتخلى عن فكرة العودة إلى مصر، فكر مليا فقد نجحت في شيكاغو هل عاينت اليوم صحيفة (شيكاغو تريبيون) أوسع صحف المدينة انتشارا؟ تضع صورتكَ على صدر صفحتها الأولى تثمن جهودكَ وتثني عليكَ وعلى تميزكَ وسعة أفقكَ كما لفت نظرهم زيكَ الأزهري وطربوشكَ الأحمر ولفة عمامتك البيضاء وأسلوبك الراقي المتحضر مما جرهم إلى إعداد تقرير موسع عن أزهركم ألا تعتبر ذلك مكسبا؟ لقد تخطيت حدود المسجد وقدت معي الجناح المصري بتفوق، لاحظتُ أن الجميع هنا يحبونكَ ويقدرونكَ فما أن تتكلم يصمت الجميع وعندما تفصل في قضاياهم ومشاكلهم يرضخون لحكمكَ، كما أنكَ تعلمت اللغة الإنجليزية في زمن قياسي ودخل على يديك مجموعة كبيرة من الأمريكان الإسلام كيف تتخلى عن كل هذا النجاح وتعود للقاهرة لقد أصبحت شخصية اعتبارية بل لقد أصبحت أيقونة هنا وصرت أشهر مني ياشيخ في بلاد العم سام، دعني أسألك أيها الشيخ: هناك نساء من رواد المعرض طلبوا التصوير معكَ وكنت تلبي في معظم الأحيان لكن عندما كانت تصافحكَ إحداهن كنت ترفض المصافحة وتقول لها أنا على وضوء وديني ينهاني عن مصافحة النساء، فتسألك لماذا؟ فتجيب عليها: منعا لإثارة الشهوات ياسيدتي! فتختفي بسرعة البرق من أمام ناظريكَ أي شهوة تتحدث عنها ياشيخ التي ستنتج عن المصافحة هل العيب فيها أم فيكَ؟ أليس هذا ماكنتم تناقشونه في الأزهر ومازلتم تناقشونه ومازالت هذه الأفكار تشغل الحيز الأكبر من عقولكم هذه هي قضاياكم التي لم تخرجوا منها منذ أكثر من ألف عام، لكن لفت نظري سيدة جميلة ترتدي تنورة قصيرة تبرز ساقيها وجدتكَ تهرول لمصافحتها وبدون حائل كما تقول لماذا كانت هذه المرأة بالذات دون غيرها التي منحتها شرف مصافحتكَ واستثنيتها من قواعد دينكَ؟ سمعت أنكَ تقدمت لخطبتها ولكنها رفضتكَ هل من أجل قصة حب فاشلة تريد العودة للقاهرة أيها الشيخ؟ ولكن دعكَ من هذا كله فشيكاغو مدينة الحب والنساء والجمال وبالتأكيد ستظفر بامرأة جميلة تنعش قلبكَ وتنسيكَ سيدة شيكاغو الجميلة، مارأيك في (دولاب فيريس) أو (دواليب الهواء) أو كما سميتها أنت (العجلة الدوارة) التي صُممت خصيصا لتكون عامل جذب سياحي للمعرض ليرى الجمهور المدينة من أعلى، بمجرد أن شاهدت هذا الاختراع زمجرت وقلت إنه رجس من عمل الشيطان، مازلت أقهقه من ردة فعلكَ هذه للآن أيها الشيخ! أخبرني كم دولة اشتركت في هذا المعرض؟ هل تعلم أن الغالبية العظمى من هذه الدول شاركت بمخترعات تخدم البشرية ستغير وجه العالم وأنتم ماذا ماقدمتم للعالم؟ لاشيء لقد توقفتم عند العصور الوسطى كنتم آنذاك سادة العالم بالعلم، وكنا في مستنقع من الجهل والتأخر لكننا بدأنا من حيث انتهيتم هذه بضاعتكم ردت إليكم فلاتلوموا إلا أنفسكم لتفريطكم في حق وطنكم، كما تعلم أيها الشيخ لقد عشت في القاهرة مدة طويلة بحكم وظيفتي كمدير للبنك الأنجلو المصري بالقاهرة معظم تعاملات هذا البنك كانت مع الأجانب، خمن ياشيخ كم مصري كان يفد إلى البنك؟ هل تعلم أن بعض الأجانب كانت متعتهم الوحيدة هي امتطاء حميركم عندما يأتون إلى البنك! مازالت القاهرة تعج بالعشش والخرابات والأمراض والأوبئة ومواقف العربات الكارو التى تجرها الخيول والحمير التي تتغوط في الطرقات فتزكم رائحتها الأنوف، ألم تلاحظ أن القاهرة عاصمة بلادكم مازالت معتمة باستثناء بعض الشوارع الرئيسية مازالت عاصمتكم تعيش في معزل عن العالم، متخلفة عن الركب الحضاري بأكثر من مائتي سنة ضوئية، ألم تجذبكَ أضواء شيكاغو وشوارعها النظيفة الأنيقة؟

صدقني لم أر شيئا جديدا لديكم، لذلك نقلت مارأيته في القاهرة، المباني التراثية التي تفضلت بالحديث عنها وهذه المجموعة البشرية التى تربو على مائتي شخص، بوظائفهم المختلفة بالإضافة للخيل والجمال والحمير التي تجوب شوارع القاهرة، حتي هذا الحاوي الذي تطلقون عليه (رفاعي) الذي كان يجلس بالغورية، يراقص الثعابين، جلبته لشيكاغو بزيه ومزماره وثعابينه، وها هو ذا أمامكَ يقوم بوظيفته مستمتعا، والزوار يلتفون حوله ليشاهدوا أحد عروض الشرق الساحرة، ومع نهاية كل يوم يتكدس حِجْر جلبابه بالأموال، ولأن حِجْره أصبح متخما بالمال صنعتُ له صندوقا خشبيا وزيلته برسوم ونقوش فرعونية ليضع فيه الأموال فأبهر الناظرين فاجتذب شريحة أخرى من الزوار والآن اتفقت مع إحدى الشركات الكبرى لصناعة ركن خاص بالمعرض على غرار خان الخليلي لبيع مثل هذه المشغولات اليدوية، ناهيك عن عروض الشركات الأخرى والولايات التي طلبت مني تنظيم (شو) لهذا الرفاعي حتى مخرجو السينما طلبوا ظهوره في أفلامهم! هو والراقصة فريدة مظهر أيضا، ماذا لديكم غير ذلك أيها الشيخ؟ أنظر جيدا سترى وجهكم الحقيقي دون رتوش أو تجميل وكأنك تنظر في المرآة، أنت من أنصار القديم البالي ولاتؤمن بالتجديد، بالمناسبة ياشيخ لو لم تكشف لك الرياح عن وجه حبيبتكَ القاهرية التي كانت ترتدي النقاب أو وجدتها دميمة هل كنت ستتزوجها!؟

وهل ستروي لزوجتكَ عندما تعود للقاهرة عن قصة غرامكَ في شيكاغو؟ نفض الغبار عن رأسكَ وعد لصوابكَ فمستقبلكَ هنا أيها الشيخ، فشيكاغو قادمة بقوة صدقني سيتحدد مصير العالم من هنا لذلك سبقكم أبناء عمومتكم (اليهود) إلى هذه الأرض وها هو (سولومون ليفي) أصدق مثال على ذلك، هذا هو الفارق بينكم وبينهم! لم يكترث الشيخ عبد الهادي بكلمات (جورج بنجالوس) بل نظر إليه شذرا وأدار له ظهره وخاطب المصور الأرميني (جابرييل ليكيجيان): هنيئا لك ياجابرييل حصولكَ على جائزة التصوير الكبرى بمعرض شيكاغو إنها مجرد بداية فأنا أتوقع لكَ الكثير من الجوائز التى تساوي موهبتكَ فلولاكَ يا(جابرييل) ماعرف العالم شيئا عن مشاركة مصر في معرض شيكاغو كانت صوركَ مبهرة نابعة من القلب ولكن لي عليكَ عتاب كبير، لاتنسق وراء (سولومون ليفي) بالتركيز على زوار المعرض الذين يهتمون بركوب الجمال والحمير ولا تركز على الرقص الشرقي فقط وتصوير أجساد (العوالم) وخاصة الراقصة (فريدة مظهر) فهذه ليست مصر الحقيقية التى تعرفها جيدا يا(جابرييل) عندما عشت فيها وعينت مصورا للخاصة الملكية، لاتصدر هذه الصورة القبيحة عن مصر، أهكذا ترد الجميل لمصر ياجابرييل؟ بخجل واضح يومئ جابرييل برأسه ويعانق الشيخ عبد الهادي بحرارة: الوداع أيها الشيخ.

أبحر الشيخ عبد الهادي إلى الإسكندرية ومنها إلى القاهرة بعد رحلة ترانزيت لانجلترا وعاد لإمامة مسجد السلطان حسن وبعد عدة أسابيع استدعاه الخديوي عباس حلمي ليقدم له تقريرا شاملا عن الجناح المصري الذي أقيم بالمعرض الكولومبي العالمي بشيكاغو 1893وسمي (بشارع القاهرة) بمناسبة الاحتفال بذكرى مرور أربعمائة عام على اكتشاف (كريستوفر كولومبس) لأميركا لتثبت فيه واشنطن للقارة العجوز أنها قوة عظمى لايستهان بها فمنح الكونجرس شيكاغو حق تنظيم المعرض بعد منافسة شرسة مع عدة مدن أمريكية لغسل سمعة شيكاغو السيئة بعدما أشيع عنها أنها بلد الجريمة والعنف والفقر والمرض والحرائق، والأشباح والعفاريت والشيطان، وإظهار شيكاغو كمدينة عالمية بلغت سن الرشد، لكن السبب الأهم هو مساعدة شيكاغو على تخطي أزمة حريق شيكاغو العظيم الذي قضى على معظم مبانيها الضخمة الجميلة عام 1871. حيث تقول الأسطورة التى مازالت شائعة حتى الآن بين العوام: أن الحريق بدأ عندما كانت البقرة التي تحلبها السيدة أوليري ركلت فانوس الكيروسين، فتسرب إلى التبن في حظيرة أوليري ومن ثم اشتعلت النيران ورغم اعتراف مراسل الصحيفة التي نشرت هذا الخبر بعد الحادث بسنوات: بأن هذه القصة من نسج خياله! لكن للأسف صدقوا كذبته وكذبوا الحقيقة والتصق الحريق بالسيدة أوليري وبقرتها زورا وبهتانا وصارت أسطورة سارية مازال يتداولها بعضهم، حتى أن (سولومون ليفي) استثمر هذا الحدث وصار يروج لأسطورة أخرى حيث زعم أن أن بقرة السيدة أوليري بقرة مقدسة من نسل بقرة سيدنا موسى عليه السلام، والبعض الآخر نسب الحريق لنيزك ضخم سقط بالمنطقة وآخرون ينسبونه لرجل يدعى (لويس كوهن) أحرق المنطقة دون قصد أثناء مغادرته لطاولة لعب القمار، بينما الجاني الحقيقي هو الجفاف الطويل في الصيف والرياح الشديدة التي ساعدت على انتشار النار لمدينة بل إمبراطورية مبنية من الخشب، كانت الخسائر فادحة لكن المشهد المؤلم هو تفحم الجثث التي استعصى انتشالها، فلم يستطع عمال الإنقاذ إلا انتشال مائة وعشرين جثة بعد انتهاء الحريق، فمعظم الجثث قد ذابت وتحولت إلى رماد، ومات أكثر من ثلثمائة شخص، كما احترقت مصانع الأثاث ومخازن الحبوب وجميع المباني الحكومية تقريبا والفنادق والصحف والبيوت والقصور وتم تدمير أكثر من سبعة عشر ألف مبنى والتهمت النار وثائق نادرة بما في ذلك خطابات( إبراهام لنكولن) وأصبح حوالي مائة ألف شخص بلا مأوى، وقدرت الخسائر المادية بحوالي مائة وتسعين مليون دولار، ولولا المطر الغزير وتدخل الجيش لكانت الخسائر أفدح، وعلى أطلال الحريق تعاطفت كل الولايات الأمريكية مع شيكاغو وتضافرت كل الجهود لبناء شيكاغو من جديد وبعد إثنين وعشرين عاما من حريق شيكاغو العظيم تولد شيكاغو الجديدة من رحم النار والرماد.

التعليقات مغلقة.